زيارة الرئيس شيراك الى الرياض

شـرا كـة غـيـر مـكـتـمـلـة الـنـمـو

زيارة الرئيس الرنسي جاك شيراك الى الرياض في الرابع من مارس لم تكن عادية، فقد دلّ الوفد الوزاري المصاحب للرئيس جاك، والمؤلف من 15 وزير وعدد آخر من رجال الاعمال الفرنسيين، على أن الحكومة الفرنسية كانت تعوّل كثيراً على مثل هذه الزيارة لأسباب إقتصادية وسياسية واستراتيجية. جاك شيراك زار الرياض أربع مرات الاولى في 7 يوليو 1996 والثانية في 13 نوفمبر 2001م، والثالثة كانت في الثاني من اغسطس 2005 للتعزية بوفاة الملك فهد، وهذه الزيارة الرابعة، التي تأتي تتويجاً للشراكة الاستراتيجية التي توصل اليها البلدان في زيارة شيراك الى جدة عام 1996، ثم التأكيد عليها من الجانب السعودي خلال زيارتين قام بهما الملك عبد الله الى باريس في 2003 و2005. قد تلمح هذه الزيارات، لأول وهلة، الى أن الحكومة الفرنسية لم تكن على وفاق مع الملك فهد الذي جاءت الشراكة الاستراتيجية في ظل غيبوبته السياسية واضطلاع أخيه غير الشقيق عبد الله بمهام السلطة، وهي شراكة تتناغم مع توجّه الملك الحالي في تنويع مصادر سياسة المملكة الخارجية، للفكاك من ضغط التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، الذي تسبب مهندّسه البارز الملك فهد في تقليص خيارات السياسة الخارجية السعودية على مدار عقد ونصف، وساهم في توريطها في قضايا كانت تقع ضمن نطاق حرب الولايات المتحدة مع المعسكر السوفييتي.

جاءت زيارة شيراك الى الرياض في مسعى لاستثمار الطفرة النفطية التي تشهدها المملكة في الوقت الراهن، ومحاولة لتثمير الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وباريس، لجهة عقد عدد من الاتفاقيات الاقتصادية وبخاصة العسكرية منها عبر تزويد القوات الجوية السعودية بمقاتلات رافال الفرنسية، بالنظر الى ما تعانيه الصناعة الدفاعية الفرنسية من صعوبات تمويلية حادة. لا ريب أن جولة الملك عبد الله الاسيوية قد سرّعت في زيارة شيراك الى الرياض لاقتناص فرصة إستثمارية للشركات الفرنسية التي تحاول الدخول الى عالم الصناعة النفطية في السعودية، حيث قدّمت شركة توتال مقترحاً إستثمارياً لبناء مصفاة لتكرير النفط في المنطقة الشرقية بقيمة 5 مليارات دولار.

الملفات السياسية لم تكن غائبة عن الزيارة، خصوصاً تلك التي بلغت درجة من السخونة العالية مثل الملف اللبناني ومتابعة تطورات الحوار اللبناني بين الأفرقاء المتخالفين وكذا متابعة قضية التحقيق في اغتيال الحريري والدور السوري الافتراضي في الاغتيال، والملف النووي الايراني، ووصول حماس على رأس السلطة في الاراضي الفلسطينية، وقضايا إقليمية اخرى مثل العراق والحرب على الارهاب.

تجدر الاشارة الى أن علاقات باريس والرياض منذ لقاء الملك فيصل والرئيس الفرنسي شارل ديغول في باريس عام 1967 بقيت في مستويات عادية، بالرغم من طفرات جينية عابرة شهدتها العلاقات بين البلدين دون أن تشبع رغبة الطرف الفرنسي الذي كان يتحيّن فرصة بناء تحالف اقتصادي واستراتيجي دائم. فقد بقي التبادل التجاري بين البلدين في حدود 3.6 بالمئة ، فيما لا يتجاوز حجم استثمارات الشركات الفرنسية في السعودية نصف مليار دولار. وقد جاءت زيارة شيراك لتؤسس لمشروع اقتصادي إستثماري واسع النطاق وبعيد المدى، وكان على رأسها مشروع صفقة عسكرية تتكون من بيع القوات الجوية السعودية 48 طائرة رافال من مجموعة داسو اضافة الى 48 طائرة أخرى تبلغ قيمتها الاجمالية ستة مليارات يورو. وفيما يبدو هذا المشروع متوقفاً، نجاحاً أو فشلاً، على قبول السعودية لاتمام الصفقة، فإن الفرنسيين راهنوا على تحقيق اختراق في الاسواق الاسيوية عبر طرح مجموعة داسو لطائراتها في مناقصة هندية، حيث تعتبر السعودية من أهم زبائن شركات السلاح الفرنسية التي تحتل 12 بالمئة من السوق العالمية لمبيعات السلاح.

وفيما يبدو، فإن باريس حملت أحلامها معها في زيارة شيراك الى الرياض في إندفاعة أمل قدّر توقيتها بأنها مناسبة لتحقيق تلك الاحلام، وفي اختبار لامكانية الارتقاء بالشراكة الى مستوى بناء حلف اقتصادي واستراتيجي بين الرياض وباريس، وفق قاعدة تنوع شبكة التحالفات. ثمة لفته عبارة في موضوع الشراكة الاستراتيجية بين السعودية وفرنسا، والتي تضمنت الى جانب العلاقات الاقتصادية والتعاون على الصعيدين العسكري والامني، الفصل الثقافي حيث شدد شيراك على تعميق المعرفة الثقافية المتبادلة، كضرورة لتأسيس عيش مشترك في ظل احترام متبادل. ومن المفارقات، أن فرنسا التي كانت بحاجة الى مثل هذه المعرفة لثقافة مواطنيها من المهاجرين المسلمين، تحظر الحجاب في مدارسها دون أن تعتبر ذلك من باب حرية التعبير والاعتقاد، بل محافظة على الهوية العلمانية للدولة.

لم يفت شيراك التأكيد على أهمية الدور السعودي في النظامين الاقليمي والدولي، وهي إشارة لافتة بطبيعة الحال، ولابد أن الجانب السعودي يقدّرها حق قدرها، فهي تأتي بعد جهود دولية شاركت فيها فرنسا الى جانب واشنطن وعدد من أعضاء الاتحاد الاوروبي من أجل تغيير خارطة الشرق الاوسط تؤدي فيما تؤدي الى إضعاف الدور السعودي بل والى تغييره. ولابد أن ما يؤمّله الرئيس شيراك من الرياض يدفع بإتجاه المبالغة في إطراء الدور السعودي، بل وأن يضع الاصلاحات الشكلية التي شهدتها السعودية في لغة ديمقراطية زاهية، وهذا ثمن لابد ان تدفعه فرنسا من مصداقيتها وديمقراطيتها طمعاً في جني بعض المكاسب الاقتصادية والسياسية. ندرك بأن شيراك ورئيس الحكومة دوفيلبان يسعيان الى إزالة الجليد عن طريق الاقتصاد الفرنسي في محاولة لتخفيف ضغوطات القطاعات الاقتصادية الكبرى، وتوفير فرص وظيفية للشباب دون الخامسة والعشرين وتجديد الثقة في الاقتصاد الفرنسي في المرحلة القادمة.

حين زار عبد الله باريس في عام 2003 كان يحاول كسر الطوق المفروض على دولته بعد أن أصابها شبه شلل سياسي بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وفي ظل تصاعد موجة العنف من جهة وموجة المطالب الاصلاحية الشعبية من جهة ثانية. وتبعاً للمثل الشائع (الحاجة أم الاختراع) فقد أملت حاجة العائلة المالكة لفك الحصار المضروب عليها دولياً الى تنويع شبكة تحالفاتها الخارجية، ولعل هذا التوجّه سهّل على دول أخرى الافادة من هذا التنويع في مدّ خيوط العلاقة مع الرياض، وليست فرنسا الا واحدة من تلك الدول التي حاولت على مدار عقود عديدة من أجل بناء علاقة متميزة مع السعودية. وتجدر الاشارة الى أن رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري قام بدور الوسيط المزدوج، لعلاقاته المتميزة والشخصية مع شيراك، بهدف تطوير مستوى العلاقة بين البلدين. وكان غياب الحريري ـ الأب خسارة فرنسية فادحة، كونها فقدت شخصية سياسية تملك قدرة متميزة في (تسويق) الدور الفرنسي عربياً وبخاصة سعودياً. فعلى مدار عقود طويلة، كانت لبنان تمثل البوابة الفرنسية الى الشرق الاوسط، وبخاصة الى الدول النفطية، والفاعلة في القرار السياسي العربي. ليس هناك بالتأكيد من يملأ الفراغ الذي تركه الحريري، فمازال إبنه سعد مستهلكاً لمجد وتركة سياسية من صنع والده، ولم يدخل في مرحلة إنتاج مواقف تؤهّله للعب دور الوسيط.

في حقيقة الأمر، أن هنّات شهدتها علاقة الرياض وباريس خلال العام الماضي على خلفية إتفاق أميركي فرنسي على الملف اللبناني يمثّله لبنانياً وليد جنبلاط والى حد ما سعد الحريري، الذي تراجع قليلاً بعد تحذيرات من الرياض له، فيما كانت الاخيرة تدير مشاورات مع القاهرة لوضع لمسات أخيرة على مبادرة عربية تضع حداً للهرولة المتبجّحة التي قادها جنبلاط بصورة علنية لادخال المنطقة في أتون أزمة تسمح بتدخل أميركي وقد تقود لتغيير الخارطة السياسية وربما الجيوبوليتيكية للمنطقة الشرق أوسطية.

على أية حال، فإن أجندة المصالح السعودية الفرنسية بدت وكأنها منفتحة على عدة ملفات، بما يتطلب توزيعاً عادلاً لبنود تلك الاجندة، فالاختلاف على لبنان لا ينسحب على ملفات أخرى قد تجد الرياض وباريس فيها مجالاً رحباً للتوافق الصلب. ومن الطبيعي، أن تلجأ فرنسا بعد أن فقدت وسيطاً كفوءا مثل رفيق الحريري، الى فتح خط مباشر مع الرياض التي باتت الآن متحررة من ذاكرة الماضي بما في ذلك فترة القطيعة بين البلدين إبان العدوان الثلاثي على مصر، وحرب التحرير الجزائرية في الفترة ما بين (1956 ـ 1962)، والتي لم تعد تمثل سوى رفاتاً بات عرضة للتطاير أمام تقلبات الجو الدبلوماسي وسيولة التحالفات السياسية الدولية.

لا يبدو أن الجانب الفرنسي يعنيه كثيراً في زيارته الى الرياض الملفات السياسية، حيث تتباين وجهات النظر حولها بين الرياض وباريس، بدءاً من النزاع العربي الاسرائيلي، سيما بعد وصول حماس الى السلطة والتي عبّر شيراك عن موقف غربي واضح منها كحركة مدرجة على قائمة التنظيمات الارهابية، وليس هناك أمامها الا الاعتراف بالدولة العبرية كيما تحصل على إعتراف أوروبي وكذا مساعدات مالية أوروبية. السعودية في المقابل، قررت في السادس من مارس استقبال قادة حماس بلا شروط، وهذا يلفت الى نقطة افتراق جوهرية بين الرياض وباريس في المجال السياسي. الملف اللبناني أيضاً هو الآخر يمثل نقطة إفتراق بين الجانبين، فالسعودية التي استقبلت قيادات سياسية لبنانية من بينها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري ووفود من حزب الله وحركة أمل كانت تبارك مبادرة الحوار التي أعدّها نبيه بري من أجل احتواء أزمة وشيكة في لبنان، في سبيل تفويت الفرصة على أطراف في تيار 14 آذار وتحديداً وليد جنبلاط وسمير جعجع من وضع لبنان على سكة التدخل الاجنبي الاميركي والفرنسي. نشير الى أن السعودية، بخلاف فرنسا، رفضت الدعوة الى إزالة الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا، عن طريق الشارع أو حتى بالطرق الدستورية، لاعتبارات عديدة منها أنها راعية لاتفاقية الطائف التي أسست لدولة التعايش السلمي بين كافة الافرقاء، وثانياً لأن ذلك يتعارض مع نزعتها السياسية التقليدية والمحافظة، وثالثاً لأن في إعتماد أسلوب الشارع في ازالة الرؤساء تأسيس لتقليد جديد في العالم العربي، ورابعاً، وهو الأهم، أن إزالة لحود بإرادة دولية يعطي مبرراً لفتح الباب لمزيد من التدخلات اللامحدودة، والتي تتجاوز بطبيعة الحال الرقعة الجغرافية للبنان وتمتد الى الشرق الاوسط، فضلاً عن كون اسقاط لحود يعد إنحيازاً علنياً لموقف 14 آذار على حساب باقي المواقف اللبنانية، واصطفافاً خلف الارادة الاميركية والفرنسية. وقد يكون وقف الحوار اللبناني في السابع من مارس على خلفية تسريبات اعلامية حول مجريات الحوار، وبعد تصريحات جنبلاط من واشنطن المناوئة ضمنياً لمسيرة الحوار، والتي هدد فيها باللجوء الى الشارع لاسقاط لحود، وكذا نفي الملكية اللبنانية لمزارع شبعا تمهيداً لنزع سلاح حزب الله.. قد يكون ذلك، كما ألمحت تصريحات نبيه بري، فرصة لاعادة تفعيل الدور العربي بعد أن قرر جنبلاط إقحام الدور الاميركي والفرنسي على خط الحوار لفرض مواقف على كافة الاطراف المتحاورة.

بالنسبة للملف النووي الايراني، فإن السعودية شأنها شأن دول عربية وخليجية تلتزم موقفاً حذراً من التطلعات النووية الايرانية، وقد تلتقي مع الجانب الفرنسي وربما الدولي في ضرورة تقديم إيران تطمينات لدول الجوار قبل غيرها حيال نوايا إيران النووية. ولاريب أن الفرنسيين يحاولون تثمير المخاوف السعودية والخليجية والى حد ما العربية من المشروع النووي الايراني لمآرب سياسية خاصة، منها ما يرتبط بالوضع الاقليمي: الملف العراقي، والذي تشعر السعودية بأنها لم تربح فيه كثيراً، والملف اللبناني، والذي لعب فيه التحالف السوري الايراني دوراً جوهرياً، حيث يخشى من تنسيق عربي ايراني بشأنه، يؤدي الى إسقاط الورقة الغربية.

قد يكون ملف الحرب على الارهاب مورد الاتفاق الصلب بين القيادتين السعودية والفرنسية، كونه يمثل مصلحة مشتركة، وبالتالي فإن كافة التدابير السعودية الامنية والثقافية مقبولة فرنسياً، انعكس ذلك في مشاركة فرنسا في المؤتتمر الدولي حول الارهاب في فبراير 2003، ووافقت فرنسا حينها على مقترح الامير عبد الله (الملك الحالي) على إنشاء مركز عالمي لمكافحة الارهاب، ولم يشهد الموقف الفرنسي تبدّلاً يذكر في هذه القضية.

وإذا ما إبتعدنا عن الملفات السياسية، فإن زيارة شيراك الى السعودية كانت بالدرجة الاولى ذات طابع إقتصادي، بل حاول الرئيس الفرنسي النأي عن نقاط الاختلاف بين البلدين، والتأكيد على البعد الاقتصادي في الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وهي زيارة تأتي كمحاولة لتأسيس قاعدة جديدة لانطلاق علاقات متميزة بين فرنسا والدول العربية، في ظل تبدّلات سريعة في نظام التحالفات الثنائية بين الدول.

بالنسبة للسعودية التي تحفّظت كثيراً على مناطق تجارة حرة بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، تجد في تأسيس شراكات اقتصادية مع دول كبيرة منسجماً مع سياستها الجديدة في تنويع تحالفاتها السياسية والتجارية سيما بعد إنضمامها الى منظمة التجارة العالمية والتي سمحت لها بتطوير مستوى تعاونها التجاري، ولاشك أن عضوية السعودية في المنظمة يسمح بفتح أسواقها أمام المستثمرين من كل انحاء العالم.

وفيما يبدو، فإن حجم الوفد الفرنسي لم يتناسب مع المحصول الاقتصادي المأمول، فقد أنهى الرئيس شيراك زيارته دون توقيع عقود تسلح عسكري كانت الهدف المركزي من وراء الزيارة، وأعلن شيراك بأن مفاوضات بين السعودية وفرنسا مستمرة حول توقيع عقود تجارية في مجال الامن والدفاع لم تصل الى نتيجة، بعد أن طلب الجانب السعودي المزيد من الوقت لدراسة العروض والخيارات الممكنة. فيما ذكرت مصادر أخرى، بأن السعودية فضّلت الحديث عن استثمارات مشتتركة في المجال النفطي في الوقت الراهن، كون الصفقات العسكرية بين فرنسا والسعودية واجهت (فيتو) أميركي، خصوصاً وأن الملك عبد الله من المقرر أن يلتقي الرئيس بوش في نهاية شهر مارس. مصادر أخرى ذكرت بأن تأخير (وربما إلغاء) صفقة الطائرات الفرنسية تعكس خلافاً بين الملك وولي العهد.

الصفحة السابقة