بيضة الدولة دينية أم مدنية؟

البـاب الـدوّار للسلطة

التركي: سمّنه نايف فانقضّ على الدولة

تصريح الشيخ عبد الله التركي في مجلس الملك عبد الله بأن ولاية الأمر تشمل العلماء والأمراء، فتح باب الجدل بين الفريقين حيث انبرى عدد من الأمراء لنفي أن يكون العلماء مصداقاً لمفهوم ولاية الأمر، وأن ولي الأمر هو الحاكم وليس العالم كما قال بذلك الامير طلال بن عبد العزيز في مقال كتب خصيصاً للرد على الشيخ عبد الله التركي.

وفيما يبدو، فإن الموضوع أثار إهتماماً ما لدى طبقة العلماء المنشغلين في الشأن السياسي، وقد عكس بعضاً منه الجدل الدائر حول (الدولة الدينية والدولة المدنية) بقطبيه قينان الغامدي وسعد البريك على صفحات جريدتي (الوطن) و(المدينة)، ليفضي الى اصطفاف أيديولوجي، في تعبير آخر عن التجاذب بين التيارين الليبرالي والديني.

ينطلق التيار الديني في تنظيره للدولة الدينية من معطى غير تاريخي، حيث أن الدولة بمكوناتها الثابتة منتج حديث ليس مؤصلاً في كتابات السلف ولا نظير له في الواقع التاريخي للمسلمين، فالادبيات السلطانية أكّدت على مفهوم الامة كإطار جغرافي وبشري متمدد مرتبط بديناميكة الدعوة، بخلاف الدولة بمكوّناتها الثابتة (الاقليم بدرجة أساسية) وصبغتها القومية. قبول التيار الديني بالدولة كحقيقة جيوبوليتيكية يتجاوز سياق تطورها التاريخي والفكري الاوروبي، ويوظّف كإطار دعوي، يمكّن من تطبيق الشريعة على إقليم الدولة دون الاذعان له كحقيقة مطلقة، وإنما يكون تمهيداً وقاعدة لانطلاق مشروع الامة.

ويمنح هذا المفهوم تفويضاً لسلطة من نوع خاص لادارة شؤون الدولة ـ الامة الدينية، وهي سلطة العلماء، ورثة الانبياء، الذين نصّت الايات القرآنية على وجوب اتباعهم، إلحاقاً وأسوة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ('قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي.. الآية)، فمن يدعو الى البصيرة هو الرسول ومن تبعه، وهم العلماء بحسب التفسير السلفي. وفق هذا المنظور الديني، فإن الأمة تخضع تحت قيادة العلماء وأهل الدعوة والبصيرة، وما الدولة الا إطار ناظم لروابط ومصالح أفراد الامة، وهي ـ أي الدولة ـ تكون بالضرورة خاضعة لقيادة العلماء، الحاكمين بشريعة السماء.

هكذا تبدو المقدمة التمهيدية والنظرية المتّبعة لدى العلماء في التأسيس لسلطتهم الدينية ـ السياسية، وبها تستحكم حلقة الجدل الفكري، بما تفضي اليه من قسمة عقدية: أنا/المؤمن/الدين/الأمة في مقابل الآخر/غير المؤمن/الليبرالي/الدولة، ولايمكن تفكيك الحلقة التي تؤدي أولاً الى اسقاط تلك القسمة سوى بنقل الجدل الى مجال فكري انساني ينأ عن التوظيفات العقدية في قضية ذات طبيعة خلافية وغير محسومة، بل ومستحدثة، أي بمعنى آخر كون القضية غير مسبوقة وغير مؤصلة، وإن مجرد خلط نصوص دينية في خميرة الدولة قد يحدث تغييراً في النكهة ولكن لا يغير في جوهر الدولة ذاتها، كمنظومة مؤسسية وقانونية ذات طبيعة خاصة، ووظائف محددة.

في المقالة التي كتبها الشيخ ناصر العمر، القطب السلفي المناصر بحماسة شديدة لسلطة العلماء، تحت عنوان (على بصيرة) نشرها في موقعه (المسلم) على شبكة الانترنت بتاريخ 17/4/1427هـ ثمة جنوح عارم الى ترسيخ السلطة الدينية، ممثلة في العلماء كطبقة حاكمة تتسامى فوق الأطر السلطوية الأخرى، بل هي التجسيد الوحيد للسلطة الشرعية، الذين وحدهم يشكّلون إطاراً سلطوياً علوياً ممثلاً في مجلس العلماء، ويكون مخصصاً ليس لنشر الدعوة بل ولسلطة الدعاة، وأخيراً الدولة الدينية الشرعية.

يستغرق العمر في تفصيلات مفهوم عالم الدين، بسبب اختطاف بعض المحسوبين على الطبقة هذه لسلطة يعتقد بأنها مقتصرة على العلماء الحقيقيين، الممتلئين فقهاً وشريعة وقيادة (إنني لا أجد مسوغاً ظاهراً لأن يبقى رجلٌ ليس من أهل العلم الشرعي يقود العمل والدعوة في بلد عشرين أو ثلاثين سنة). ويواصل العمر عملية النبذ لمسمى العلماء نافياً أن ينطبق ذلك على علماء مثل الشيخ القرضاوي والشيخ حسن الترابي وغيرهما الذين يوصلون الناس في دعوتهم الى الجهل!!. لم يكن العمر يرمي في تقعيد مفهوم العالم الى أكثر من تثبيت سلطة العلماء السلفيين الذين وحدهم، بحسب تفسير العمر، من يصدق عليهم عنوان الاتّباع لسنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه، ومن هنا أيضاً يبدأ التأسيس لسلطة شرعية وحيدة وممثل شرعي وحيد للدين.

ناصر العمر.. الحاكم بأمره!

نقطة التشابك الحقيقية والخطيرة في مقالة العمر تبدأ من مضاهاة سلطة الدولة، أي حين ينفي مشروعية وجدارة السلطة غير الخاضعة لقيادة العلماء، بما ينفي عن الدولة ذاتها صفة المشروعية. يقول العمر ما نصه:(وما تأخرت أحوال المسلمين وتقهقروا إلى ما هم عليه الآن شيئاً فشيئاً إلاّ بعد أن تولى أمرهم رؤوساً جهالاً، أقصوا أمر العلماء شيئاً فشيئاً، وإلاّ فالأصل أن يقدم العالم لقيادة الأمة إذا توافرت فيه بقية صفات القيادة، كما قدم الخلفاء الراشدون على غيرهم، فإن تعذر فلا أقل من أن يكون هناك مجلس شورى شرعي يكون هو الآمر الناهي، هذا هو الأصل الذي لما تخلف أهل الإسلام عبر عقود..). وفي هذا النص الفارط في وضوحه، يبدو العمر مناصراً عنيداً للولاية العامة للعلماء، وهي المعادل الفقهي والعقدي لولاية الفقيه لدى الخميني، حيث تكون للفقيه ولاية مطلقة على عموم الناس، وفي حال غياب عالم مقتدر يملك صفات العلم والقيادة يكون هناك مجلس شورى العلماء، أي حصر السلطة المطلقة بين شخص واحد أو عدد من الاشخاص من طبقة واحدة، وتكون هذه السلطة مطلقة، أي بمعنى آخر احتكار السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. لا يأبه العمر الى مايعنيه مبدأ (الشورى) حين يكون متعارضاً مع عنصري الأمر والنهي، فهو يحصر المشورة بين العلماء تأكيداً على سلطتهم التشريعية، وليس تقديم المشورة لمن انعقدت له البيعة ودان له الناس بالسمع والطاعة.

فيما يظهر، أن العمر يرفض الصيغة السعودية لمجلس الشورى، الذي يفتقر الى دور تشريعي، بل يرفض الصيغ الاخرى أيضاً التي تمنح في أقصاها مجلس الشورى سلطة تشريعية، وإنما يطالب بمجلس شورى يمسك بزمام السلطات الثلاث، حيث يكون آمراً وناهياً وليس ذلك شيئاً آخر غير الحكومة المطلقة والمستبدة التي حاربها العمر في مقالته.

فالعلماء، وفق تخريجات العمر، هم التجسيد الفعلي والشرعي لولاية الأمر، وأن الأمراء ليسوا سوى تابعين، (وألوا الأمر هم العلماء والأمراء، وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء) مستنداً في ذلك لقول الإمام ابن القيم: (والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء)، ومستدّلاً بحديث العلماء ورثة الأنبياء، وأنهم بمنزلة نجوم السماء.

إذاً، هي حكومة ثيوقراطية سلفية، يكون فيها العلماء حكاماً على العباد، تأسيساً على أن الدين شامل لأمور الحياة كافة، ولابد للدين من حملة وحفظة، ولابد للدين من دولة تحميه وتناصره وتنشره، ولابد للدولة من سلطة تديرها، وهل غير العلماء أولى بسلطة تكون للدين معيناً وناصراً وداعياً؟!.

لابد أن العمر وهو يخوض جدلاً منفرداً يستحضر الحديث الذي دار أول مرة في مجلس الملك عبد الله قبل وصوله العرش، حين شرح الشيخ عبد الله التركي مفهوم ولاية الأمر، وأراد بجسارته الناعمة تمرير فكرة مقاسمة السلطة بين العلماء والأمراء في مجلس يضمّ جمعاً من الفريقين، ولعله تذكير أيضاً بالانخفاض الكبير في دور العلماء في الشأن السياسي والدولتي عموماً، ولابد أيضاً أن العمر يستحضر السجال الدائر حول الدولة الدينية والدولة المدنية، فأراد أن يشارك من موقعه في الشبكة العنكبوتية بلغة أشد وضوحاً ومباشرة، وقد يستعلن ما أضمره الشيخ سعد البريك في مناصرته للدولة الدينية.

لاشك أن السجال الفكري والفقهي حول الدولة المدنية والدولة الدينية يستحضر الشجون المحشورة داخل التيار الديني السلفي الذي ينظر الى أمبراطوريته الجبّارة وهي تتهاوى في الداخل بعد أن أنجزت مهمة الاندحار في الخارج، وهو اليوم يناضل من أجل إحياء رميم السلطة المتبعثرة من خلال العودة من البوابة الخلفية الى المشروع السياسي، عندما يموضع سلطته المطلقة فوق سنام الدولة، ويسلب من غيره حق المشاركة في تلك السلطة التي خوّلت اليه من السماء.

مايجعل السجال حول الدولة دينية أم مدنية فارطاً في سيولته، أنه ينطلق من نقطة واقعة في منتصف الطريق وليس بدايته، إذ لابد من تحرير الدولة من إسارها الايديولوجي والعقدي، ووضعها في سياقها الموضوعي والتاريخي من أجل تعريف هذا الاطار السيادي الذي يطلق عليه مسمى (دولة) قبل البحث في صفاتها. فالدولة هنا تغدو إطاراً محايداً لا شأن له بالنزوع العقدي للمجتمع، ثم لابد من البحث في وظائف هذه الـ (دولة)، تماماً كما نبحث في أية آلية أخرى، فلكل صنعة مسمى خاص ووظيفة محددة، فهل يمكن تثبيت مكنسة كهربائية في جناح طائرة تحقيقاً لوظيفة الطيران! استحالة ذلك نابعة من اختلاف مكوّنات ووظائف المكنسة عن مكوّنات ووظائف الطائرة، وكذلك الدولة فإنها ذات مكوّنات خاصة وتستهدف وظائف محددة، وهي تنظيم وحفظ المصالح العمومية، ودرء العدوان وأشكال الفساد، وتوفير الأمن. إن استعمال الدولة كوسيلة لاحتكار السلطة أو تطبيق شريعة خاصة بداخلها يتناقض مع أغراض الدولة ذاتها، ويتعارض مع المبادىء الكبرى المتصلة بحفظ قيمومة الدولة واستقرارها وهي المواطنة بمملياتها: المساواة، العدل، الحقوق والواجبات. إن الانشغال التام والدؤوب بتأسيس سلطة ما داخل الدولة ينبّه الى نزعة احتكارية مخيفة، حيث يصبح التجاذب منحصراً بين قوى متصارعة على سلطة وليس قوى تتنافس على خدمة المجتمع، وتطوير آليات الدولة بغرض تقديم أداء أفضل في حفظ المصالح العمومية ودرء العدوان والفساد.

إن الحديث عن ولاية الأمر، بالطريقة التي أثارها العمر، له ما يسنده في التراث الديني عموماً، ولكنه حديث يفتقر الى التجارب التاريخية بل والنموذج الذي يمكن الرجوع اليه، والحائز على اجماع السلف، فضلاً عن ذلك إن الحديث عن ولاية الأمر يقع خارج إطار البحث في الدولة، موضوع الجدل الدائر، فنحن هنا أمام حقائق مختلفة لاتنتمي الى العصور السابقة، ولا يمكن إعادة انتاج نموذج الخلافة الراشدة في عصر الدول بتعقيداتها المؤسسية المحكومة بشبكة واسعة من الافراد. فلا النظام القضائي في عصر الصحابة هو مماثل للنظام القضائي الحالي، ولا مؤسسة الحكم في عصر الصحابة نظيرة لمؤسسة الحكم الحالية، فضلاً عن أن ظروف وتحديات وحاجات ومشكلات المجتمعات المعاصرة تختلف تماماً عن عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

ما يغفل عنه العمر أن أئمة المذاهب الاسلامية الكبرى لم يقدّموا أنفسهم لأتباعهم كولاة أمر، ولم يطلبوا من الناس البيعة لأنفسهم، بل التزم بعضهم موقفاً بعيداً عن الشأن السياسي، مع اصرارهم على طاعة الامرء أبراراً كانوا أم فسقة وحرّموا الخروج عليهم، ما لم يأتوا بكفر بواح بحسب العقيدة السلفية.

بالرغم من أن الجدل حول الدولة الدينية والدولة المدنية يسدي خدمة مجانية غير مباشرة للدولة السعودية التي تنظر بعين الرضا لمناصرين متطوعين يذودون عن سلطانها، الا أن ما يلزم التأكيد عليه أن مواصفات الدولة المدنية لا تنطبق في كثير منها على الدولة السعودية، التي تحاول الجمع بين دينية الدولة ومدنيتها ولكن بصورة مشوّهة.