مفارقات بين هروبهم من سجن يمني وآخر سعودي

فرار 7 قاعديين من سجن المباحث بالملز بالرياض

الداخلية تقلل من شأن الهروب وترفض التشكيك في مصداقية رجال الأمن

حين فرّ 23 سجيناً قاعدياً من سجن بالمخابرات في وسط العاصمة اليمنية في الثالث من فبراير الماضي، قامت الدنيا ولم تقعد. حيث كان من بين الهاربين 13 شخصاً يعتبرون من أبرز أعضاء القاعدة، وفي مقدمتهم جمال البدوي المتهم بأنه العقل المدبر للهجوم على المدمرة الأمريكية كول في عام 2000 والذي أسفر عن مقتل 17 بحارا أمريكيا، وكذلك المعتقل فواز الربيعي المتهم بأنهم المخطط للإعتداء على الناقلة الفرنسية ليمبورج، اضافة الى هروب جابر البناء الذي رصدت واشنطن مكافأة قدرها خمسة ملايين دولار مقابل رأسه بسبب علاقاته بخلية (لاكوانا) الأميركية والتابعة لتنظيم القاعدة. فضلاً عن ذلك كان من بين الفارين المسؤول الثاني في القاعدة باليمن وهو أبو عاصم الأهدل.

يومها، تناول الإعلام السعودي الخبر بالسخرية من أجهزة الأمن اليمنية، وكيف أن اليمن التي تحاول أن تنفي عن نفسها شبهة أن تكون ملاذاً للقاعدة هي مصدر الشرّ وليس السعودية، مع ان بين الهاربين سعوديين، فضلاً عن أن أهم عناصر القاعدة القيادية هم من السعودية. وكان الإعلام السعودي قد نوّه في إطار سخريته بالأجهزة الأمنية اليمنية، بكفاءة الجهاز الأمني السعودي الذي استطاع أن (يجتثّ) رؤوس (الفئة الضالّة) من جذورها، وهو التعبير الذي يطلقه الإعلام السعودي على دعاة العنف ومروجيه من أعضاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.

الولايات المتحدة من جانبها انتقدت بشدة الحكومة اليمنية لتراخيها الأمني، وأعلنت عن صدمتها وأسفها لحادثة الهروب المدبر عبر نفق يصل السجن بمسجد مجاور (140 متراً)، وأعلنت عزمها على ملاحقة الفارين (وقد سلم عدد منهم أنفسهم الى السلطات فيما بعد ولكنهم ليسوا من الفئة القيادية الخطيرة) وطالبت بالتحقيق في الأمر ومحاكمة المقصرين.

السعوديون أيضاً طالبوا اليمن بمعلومات عن الحادثة، خشية أن يتمدد الإرهاب من اليمن الى السعودية!، التي هي في الواقع مصدر الإرهاب الوهابي العنفي في اليمن وغيره، ولكن لأن اليمن ـ الضعيف ـ قد وقع تحت ضغط الأميركان، فإن السعوديين أرادوا وضع مقارنة بين أدائهم وأداء اليمن الذي لم يعد ذلك الحليف المقرب كما كان في الماضي، مع أن مسؤولاً أمنيّاً في البيت الأبيض لعب على ذات الحبل وقال أن فرار السجناء يمثل قلقاً هائلاً لدى واشنطن والسعودية!

اليمن من جانبه لم يستطع إلا تأكيد عزمه على ملاحقة الفارين، وفتح تحقيقاً في الأمر، ووضع مكافآت لمن يدلي بمعلومات عنهم، بل وحاكم عشرة أشخاص من مسؤولي وزارة الداخلية بتهمة التقصير وأمام محاكم عسكرية.. كل ذلك بغية رفع الحرج الذي طال الحكومة اليمنية.

حرج سعودي!

الآن وقعت الحكومة السعودية فيما وقعت فيه اليمن..

لكن ردود الأفعال اختلفت من الأطراف كافة!

فقد فرّ سبعة عناصر من القاعدة من أحد السجون في منطقة الملز بالعاصمة الرياض صباح الثامن من يوليو الحالي، فما كان من الحكومة السعودية إلاّ أن قللت من أهمية الحدث بطرق مختلفة.

فأولاً قالت بأنهم لم يفروا من (سجن) بل من (مركز) أو (مقر توقيف) أو (إصلاحية)!

وثانياً فإن البيانات الرسمية قللت من أهمية الفارين فقالت عنهم أنهم مجرد (متعاطفين) مع خلايا (الفئة الضالة)، وأنهم (يعتنقون الفكر التكفيري) ولم يقولوا أنهم يؤمنون بالعنف واستخدامه. وأشارت البيانات الرسمية، الى ان الفارين (كانوا يقدمون الدعم اللوجستي لخلايا الفئة الضالة، من خلال توفير المأوى وتهيئة وسائل النقل).. فهم هنا مجرد مساعدين هامشيين! لكن بياناً رسمياً آخر قال بأن أحد الفارين (قام باستضافة قائد تنظيم القاعدة ـ الفرع السعودي، يونس الحياري في منزله) ويونس الحياري كان أخطر المطلوبين وقد قتل قبل فترة في مواجهات مع القوى الأمنية.

وهكذا فإن البيانات الرسمية تحاول التقليل من شأن الفارين من جهة، والمحافظة على سمعة الأجهزة الأمنية كون مركز الإعتقال مجرد مركز توقيف صغير وليس سجناً يتمتع بالحراسة المشددة.

واشنطن لم تقل شيئاً عن عملية الفرار السعودية، فالأخيرة غير اليمن! انها ينبوع النفط، وهي تقوم الآن بتهدئة الأسواق، وإعادة (البترودولار) الى واشنطن، الى مركز الخزانة الأميركية عبر شراء السندات، والى الخزينة الأميركية عبر شراء السلاح وعقد الصفقات الكبرى. لهذا، لم يلم أحدٌ السعودية أو يقل لها أنها كانت مقصرة، أو أن هناك من تآمر لتهريبهم من المعتقل.

وزارة داخلية نايف ـ المتعاطفة اصلاً مع المتطرفين الوهابيين ـ زادت في التضليل فأوحت عبر بياناتها الرسمية بأن المعتقلين كانوا سيطلق سراحهم بصورة من الصور باعتبارهم (مشمولين بالعفو الملكي!). والحقيقة أن هؤلاء المعتقلين لم يكونوا موقوفين حديثاً، ولم تكن النية تتجه لاطلاق سراحهم، وقد عدوا من العناصر الخطيرة، لأنهم لم يسلموا أنفسهم بل قبض عليهم، وبالتالي فهم في الأصل غير مشمولين بالعفو. ولكن الداخلية ـ وشأنها التضليل دائماً والتستر على اختراق جماعات العنف لأجهزتها ـ تريد ان تقنع المواطنين والعالم بأن ما حدث ليس له أهمية، فلا المعتقلين مهمين، ومركز الإعتقال غير مهم، وخطرهم قليل.

الطريف أن منصور التركي الناطق باسم الداخلية حذر الفارين إن لم يسلموا أنفسهم بأنهم (لن يتمتعوا بالعفو الملكي! الذي اعلن في 23 يونيو الماضي) وفي ذلك إغراء بصورة مباشرة للفارين بأن يسلموا أنفسهم كيما يحصلوا على العفو، ويتم التستر على الفضيحة الأمنية!

ونقلت الحياة (9/7/2006) عن مصدر أمني سعودي تصريحاً يتسق مع محاولة التضليل قال فيه: (كانت إجراءات التحقيق مستمرة في شأنهم من هيئة التحقيق والادعاء العام لمحاكمتهم شرعاً، ومن ثم إطلاقهم، لكنهم أقدموا على الهروب)! وأبلغنا اللواء منصور التركي بأن الفرار قد تمّ من (مقر التوقيف) بـ (صورة غير نظامية) مهدداً بأن ذلك سيؤدي الى (تعطيل اجراءات محاكمتهم)! وتزداد السخرية حين يقول: (في حال عدم عودة السبعة إلى مقر التوقيف، فإن ذلك سيحرمهم من الاستفادة من مكرمة خادم الحرمين، وسيتم التعامل مع الفارين على اعتبار أنهم مطلوبون للجهات الأمنية!)! ترى ماذا كانوا يصنعون في سجن الملز؟ ولأي أمرٍ جرى اعتقالهم طيلة الشهور الماضية؟! ولماذا تأخرت محاكمتهم؟! وماذا كان قائد القاعدة يصنع في بيت أحدهم؟!

وتستمر حملة الأكاذيب المنبعثة من وزارة الداخلية لتلقي باللوم على المجهول، فلا أحد مقصّر في وزارة داخلية يرأسها (نايف) وابنه الهمام (محمد)! وإذا كان اليمن قد قبل فرضية تواطؤ مسؤولين مع الفارين، فإن مملكة نايف الداخلية ترفض ولو بالإشارة الصغيرة الى خلل في الجهاز الأمني. وقد رفض اللواء منصور التركي وجود تواطؤ من حراسات الملز في فرار عناصر القاعدة من سجن الملز مبرراً الأمر بقوله: (لو كان هناك تواطؤ من قبل حراسات السجن مع المطلوبين أمنيا، لوجدنا عمليات هروب كثيرة، وبأعداد أكبر ممن تمكنوا من الخروج من إصلاحية الملز). وكان الأجدر به أن يقول: كل الإحتمالات واردة، والتحقيق سيكشف عما إذا كان هناك تواطؤ من عدمه. هذا إذا كانت الداخلية تبحث عن الحقيقة، وليس عن رد تهمة، فتعلن براءتها قبل التحقيق. والغريب أنه حتى الآن لم يعلن تشكيل لجنة تحقيق في الأمر، على غرار ما فعلته اليمن. بل أن الحكومة السعودية اعتبرت رجال أمنها فوق التشكيك! فولاء هؤلاء ـ حسب التركي ـ لدينهم ومليكهم ووطنهم فوق أي تشكيك، وزاد: (لماذا يتهم رجال الأمن بالتقصير، فهم يقومون بواجبهم، واثبتوا ولاءهم بالتضحيات التي قدموها في مكافحة الإرهاب، ولو كان هناك ضعف في رجال الأمن لتمكن من كان أخطر منهم بالهروب من السجن). وتابع بأن استبعد هروب عناصر القاعدة الى خارج البلاد، معللاً الأمر بتحليل ساذج يقول: (المهنية تتطلب أن نؤكد على وجودهم داخل السعودية، وسنبحث عنهم في البلاد، وهروبهم للخارج لن يكون يسيرا، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة على المعابر الحدودية). بيد ان الواقع يقول بأن آلاف السعوديين انتقلوا الى العراق، إما عبر الحدود السعودية مباشرة، أو عبر الأردن وسوريا. وقد قتل عدد من المطلوبين من عناصر القاعدة السعوديين في العراق كما هو معلوم ومنشورة أسماؤهم. فأين هي الحدود المحصّنة غير القابلة للإختراق؟!

وعموماً، كان الأجدر باليمن أن ترد الصاع صاعين للحكومة السعودية، وتعلن قلقها من فرار هؤلاء الذين إن قرروا الخروج فلا يوجد إلا احتمالين: الإتجاه شمالاً نحو العراق، او الإتجاه جنوباً نحو اليمن، وهناك سعوديون كثر معتقلون في اليمن من مؤيدي تنظيم القاعدة، كما كشفت المحاكمات الأخيرة في اليمن عنهم. بيد أن اليمن لم تقل شيئاً. فالجار المتغوّل والمتغطرس محمي من قبل الأميركيين ولا يريدون إحراجه.

ان الدفاع عن رجال الأمن، هو في حقيقة الأمر دفاع يائس عن وزير الداخلية ـ الملك غير المتوج ـ الذي صرف عشرات المليارات من الريالات في السنوات الأخيرة لتحديث الأجهزة الأمنية واستيراد التقنيات الحديثة لمكافحة العنف المحلي. وإذا كان ما جرى لا يعدّ ضعفاً في رجال الأمن والجهاز الأمني، فهل نعدّه عنصر قوة مثلاً؟!

الجميع يعرف أن ما حدث كان ضربة لنايف وجهازه، ولكن الأخير لا يريد أن يعترف، فله حسابات سياسية داخلية في صراعه مع الملك، وهو يريد أن يحفظ هيبة دولة عفى عليها الزمن، دولة منتهبة من قبل الوهابيين بمختلف أصنافهم: عنفيون، صحويون، تقليديون. دولة تتآكل من الداخل رغم المال، ومع هذا يشعر قادتها بأن زمام الأمور لم يفلت ولن يفلت من يدهم، وأنهم ـ وبحسب التجارب السابقة ـ قادرون على ضبط الأوضاع متى شاؤوا. المهم أن تكون هناك مظلة حماية أميركية.

ولأن الجميع يشعر بضعف الدولة ويعبر عن ذلك بالإستهانة بها بشتى الوسائل، رأى المراقبون أن فرار سجناء القاعدة من سجن الملز مثالاً لتضعضعها، ولذا تساءلوا عن امكانية زيادة المساعدة الأمنية من قبل الجهات الخارجية، في إشارة الى أميركا، لكن الصلف والكذب السعودي لا يقف عند حد. فقد نفى التركي ـ إياه ـ أن تكون هناك حاجة الى المساعدة، أو أن المملكة سبق وأن احتاجت لها! متناسياً تكاثر مكاتب الإف بي آي والسي آي أيه في المملكة، ومتناسياً ما يكتب وما ينشر وما يصرح به من قبل الحلفاء الأميركيين عن وجود عشرات من الخبراء الأمنيين يعملون لصالح جهاز المباحث السعودي. يقول التركي: (لم نحتج لمساعدة أحد للقضاء على الإرهاب في السعودية، ولن نستعين بأي جهة خارجية للبحث عن هؤلاء، ولدينا منظومة أمنية متكاملة ومتطورة، وقادرة على حماية الوطن).

بارك الله فيكم! أرونا شطارتكم وقدرتكم على منع العنف واصطياد قادته وتجفيف منابعه الفكرية والمادية والبشرية! ثم من أين لكم المنظومة الأمنية ومن يشغّل تقنياتها؟ ومنذ متى بدأت بالعمل؟! أليس على يد (ولاة الأمر الأميركيين)؟!

الصفحة السابقة