كيف تابع الإصلاحيون في المملكة الإنتخابات البرلمانية الكويتية؟

دروس الـكـويـت

ليست تجربة جديدة في مسار العمل الديمقراطي، ولكنها بالتأكيد رائدة. وفي الجملة، سبقت الكويت دول الخليج كافة في مشوارها الديمقراطي، وليس في ذلك إضافة جديدة في هذا الصدد، ولكن الجديد في التجربة الديمقراطية الكويتية هذه المرة أنها ارتبطت بتطورات لافتة، ومن فضيلة هذه التجربة أنها كشفت نقاط ضعف مغفولة في تجربة التيار الاصلاحي الوطني في المملكة، وبالتالي نبّهت الى مكامن الخطأ التي وقع فيها هذا التيار خلال تجربته المجهضة، بالرغم من إمكانية تداركها في مرحلة مبكرة. ولأنه لا يمكن اكتشاف كل شيء ببساطة، فقد كان واجباً على التيار الاصلاحي الوطني أن يعيد قراءة ذاته في ضوء تجارب أخرى مشابهة، تماماً كما لا ينبغي الوثوق بأن اقتفاء تجارب مشابهة يؤدي بالضرورة الى نفس النتائج، ولكننا ندرك علمياً وعقلانياً بأن الخصائص المتقاربة بين تجربتين وأكثر تفضي الى نتائج متقاربة أيضاً.

فقد نجح الاصلاحيون الكويتيون، بالتضامن على اختلاف قناعاتهم السياسية وميولهم الايديولوجية، في الارتقاء بالعمل المطلبي الى مستويات متقدّمة، وقد استدركوا ما أهملوه أو غفلوا عنه فيما مضى من وسائل وخيارات، وينبىء خطاب الاصلاحيين الكويتيين قبل فترة الانتخابات أن حالة تأمل وضعوا أنفسهم أمامها للخروج برؤية حول ما يجب كونه أولاً قبل التفكير في ما يجب فعله، بمعنى أنه حدد غايته قبل التفكير في الوسيلة المراد اعتمادها، وهذا يلفت بشدة الى أن ثمة عاملاً جوهرياً يحدد أحياناً أمد التجارب النضالية، فقد ينشغل الاصلاحيون أحياناً في وسائل التعبير بدلاً من تحديد الاجندة، وهذا بدوره يكشف وهن الجبهة الاصلاحية.

تجربة الاصلاحيين في الكويت اختلفت هذه المرة، لأن تحديد الاجندة المشتملة على غايات نهائية قد تحددت ثم أعقبها التفكير في ابتكار وسائل تناسب الاجندة، وهنا لا نتحدث عن تجربة مثالية مجرّدة تخلو من أخطاء ومواطن وهن، بالنظر الى أن التجربة الاصلاحية في الكويت تظل رهينة تعقيدات الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تمارس عليه التجربة.

الأمر شبه المؤكّد، أن الحكومة السعودية لم تكن مسرورة بالنسخة الجديدة للتجربة الديمقراطية في الكويت، كما لم تكن كذلك من قبل، فقد ظلت الديمقراطية عنصراً ممقوتاً بالنسبة للعائلة المالكة، التي كانت تعبّر عن تحفظاتها بصورة مستمرة لدى عائلة آل الصباح إزاء المناخ الديمقراطي الذي تعيشه الكويت منذ الستينيات، ووصل في بعض الفترات حد التدخل في الشأن الكويتي.

الاعلام السعودي الرسمي لم يولِ اهتماماً خاصاً لتجربة الانتخابات البرلمانية الكويتية الأخيرة، ولم تقم الصحافة المحلية بتغطية لنشاطات القوى السياسية الكويتية بما فيها من مادة إصلاحية دسمة. فقد نأت الغالبية بقرار شبه رسمي عن الحديث عن تجربة إصلاحية ناضجة تكتنز دروساً مرشحة لأن تكون مصدر إلهام للاصلاحيين في عموم منطقة الخليج. ربما كانت هناك لفتات عابرة من بعض الصحف المحلية مثل (عكاظ) التي صاغت بلغة إرشادية عن تطلّعها لنجاح تجربة الانتخابات البرلمانية كيما يستأنف مجلس الامة دوره المشرق. هناك قطاع واسع من السكان ينشد تجربة شبيهة بالتي حصلت في الكويت، وإن لم يجد وسيلة التعبير عن ذلك، كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من الاصلاحيين في المملكة، وربما يتجاوز الأمر الى داخل الجهاز الاداري للدولة فضلاً عن مجلس الشورى الذي يخوض بعض أعضائه معركة منفردة للاضطلاع بدور فاعل في قضايا عامة تهمّ الوطن والمواطنين.

بالنسبة للجناح السديري، يمثّل نجاح التجربة الديمقراطية الكويتية بداية انتشار وباء خطير في المنطقة عموماً، وبالتالي، فهو يريدها محصورة داخل الاقليم الذي نشأت وترعرت فيه، ولا يرضيه أن تتسنم هذه التجربة موقع الصدارة في التجارب الديمقراطية الحديثة في الوطن العربي.. فالجناح السديري ظلّ مناوئاً لكل ما هو ديمقراطي حتى خارج حدوده سلطته، خشية انتقال العدوى الى داخل الديار، وبالتالي فحين يصمت الاعلام الرسمي عن الانتخابات الكويتية فهو يعكس موقف الجناح السديري الذي يحكم قبضته على شبكة اعلامية واسعة تضمُّ قنوات فضائية وكبرى الصحف والمجلات. فهو لا يريد نجاح التجربة الديمقراطية في الكويت ولا في أي مكان آخر، وقد خنقها في الداخل منذ اعتقال رموزها، ويسوءه رؤية أطراف من خارج العوائل الحاكمة تقاسمها كعكة السلطة، اعتقاداً منهم أن السلطة امتياز ومقفل لها.

قد لا يكون ذات الموقف من الانتخابات الكويتية لدى جناح الملك عبد الله، وإن كان لا يرضيه أيضاً أن تسرق أضواء الاصلاح منه، سيما حين تعقد المقارنات بين التجارب الاصلاحية في المنطقة وتتبوأ السعودية مقعدها الخلفي في المحفل الديمقراطي، وبالنظر أيضاً الى ما أصاب الاصلاحيون من خيبات أمل من ملك لم ينجز ما وعد، بينما يحقق أمير الكويت تقدماً نسبياً في مجال فتح باب المشاركة وتضمين المرأة في عملية المشاركة السياسية، فيما تلهو الحكومة السعودية بتدابير شكلية لطلاء الوجه الخارجي للدولة الموصومة بالاستبداد، عبر إضافة ألوان أنثوية على مجلس الشورى في خطوة باهته وخجولة، وكأنها بمثابة إدخال العورة والعار الى دارها بإشراك ست نساء للعمل كمستشارات غير متفرغات في مجلس الشورى السعودي، تكون مهمتهن إسباغ المصداقية للمجلس على المستوى الدولي، وليكنّ حسب أحدهم (جواز مرور وواجهة له في الفعاليات الدولية التي تشترط للمشاركة فيها وجود عناصر نسائية في الوفد).

في الانتخابات الكويتية، دخلت المرأة بوصفها جديرة ومؤهّلة بقدرات ذاتية على تحقيق إضافة نوعية للمسيرة الديمقراطية وللتجربة البرلمانية، ولم تكن (إكسسواراً) تتزّين به الحكومة. فقد شاركت المرأة الكويتية لأول مرة في تاريخ التجربة الديمقراطية الكويتية بانتخابات مجلس الأمة تتويجاً لنضالها الاصلاحي، دون إحسان أو منّة من رجل أو مسؤول في الدولة أو حتى أمير، بل هي مشاركة مؤسسة على منجز إنثوي محض. الحضور الكثيف والمركزي للمرأة في حركة التيار الاصلاحي يبطن نداءً خفياً وغير مباشر الى المرأة الخليجية عموماً، فبعد كفاحها الدؤوب والطويل لنيلها حق الترشيح والانتخاب، دخلت حلبة النضال السلمي الاصلاحي جنباً الى جنب الرجال في شراكة حقيقية وفاعلة في الحرب على الفساد والدعوة الى التغيير، وتالياً المشاركة في صناعة القرار.

وبدخول المرأة الكويتية في العملية الديمقراطية، أصبح واضحاً أن الاصلاح خيار شعبي وبات مورد إجماع القوى والفئات كافة. فقد دخل الشعب الكويتي مرحلة الاستحقاق الديمقراطي بكل أفراده، الامر الذي يؤكد إرادة الشعب على الامتثال لقواعد العمل المؤسسي، والعيش في ظل نظام سواسي يكفل للجميع الحق في التعبير والاجتماع والمشاركة.

كانت الانتخابات البرلمانية الكويتية بمثابة عرس ديمقراطي شارك فيه 249 مرشحاً من بينهم 28 إمرأة، ومثّل منافسة انتخابية نزيهة الى حد كبير، وقد شارك الخليجيون عموماً في هذا العرس من خلال مؤزارة نفسية، متطلعين الى تعميم التجربة على بقية دول الخليج الأخرى التي تشهد مخاضات تحوّل ديمقراطي.

وبالرغم من نفوذ العوامل القبلية والايديولوجية والتحالفات المصلحية في العملية الديمقراطية الكويتية، استطاع التيار الاصلاحي أن يغيّر المعادلة الانتخابية حيث فاز التيار بأغلب المقاعد، وجاءت النتائج وفق إرادة غالبية الناخبين، وهي نتائج تعتبر خلاصة نشاط دؤوب للاصلاحيين. وبصورة عامة، أحرز التيار الاصلاحي تقدّماً لافتاً في مسار الديمقراطية الكويتية، وستجني القوى السياسية قاطبة ثمارها في المستقبل، كونها أحدثت نقطة تحوّل وكسرت حاجزاً أساسياً تمثّل في إخضاع العائلة الحاكمة للمسائلة باعتبارها جزءاً من شعب الكويت ومسؤولة أمام القانون شأنها في ذلك شأن بقية المواطنين.

ما سبق لا يعني بالتأكيد تمجيداً مطلقاً ونهائياً للتجربة الديمقراطية الكويتية، التي مازالت تنوء الى حد ما بمعوقات داخلية اجتماعية وسياسية، فالعوامل الطائفية والقبلية والحزبية مازالت تلعب دوراً تعويقياً في الارتفاع بمستوى الاداء الديمقراطي لدى عدد كبير من الاصلاحيين، ولكن نزعم بأن هذه التجربة كانت جادة الى حد كبير في تجاوز بعض العراقيل التي تسببها الانتماءات المذهبية والقبلية والحزبية، ونتطلع لأن تؤسس التحالفات التي نشأت على قاعدة إصلاحية بين مختلف الطيف السياسي والايديولوجي في الكويت ما قبل الانتخابات البرلمانية أن تجدد دماء الجسد الديمقراطي وأن تفتح أفق الاصلاحيين على ضرورة صنع إطار عمل وطني مشترك مؤهل لضمّ مختلف القوى والتيارات السياسية طالما أن الجامع بينهم هو الاصلاح..

من هنا يمكن المحاجّة بأن مجلس الامة الجديد يختلف عن المجالس السابقة، كونه جاء خلاصة لعملية تجاذب بين الشعب والسلطة على قاعدة محاربة الفساد في الجهاز الاداري للدولة، فهو مجلس يكتسب درجة تمثيلية أعلى ومن المؤمّل أن يستعيد دوره التشريعي المستقل بما خوّله الدستور الكويتي من صلاحيات، وفي مثل هذه الحال، سيعطي دفعة معنوية للمجالس البرلمانية والشورّية في الخليج كيما تحذو حذوه وأن تناضل من أجل فصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية.

ما يعنينا في التجربة الاصلاحية الكويتية هي تأجيجها لأسئلة حول الذات الاصلاحية، وحول القابليات المتاحة في العمل الاصلاحي في مناطق خليجية أخرى، والاهم من ذلك كله، أن هذه التجربة الرائدة وضعت طريقة التفكير الاصلاحي موضع مسائلة وطرحت مسائل الاصلاح طرحاً جذرياً.

في مسيرة الاصلاحيين الكويتيين أمور تسترعي عنايتنا. فقد كان الاصرار واضحاً على مواصلة المسيرة الاصلاحية لاجبار الحكومة على بلوغ سقف التوقعات لدى الشارع الكويتي، وأظهر رموز التيار الاصلاحي الكويتي استعداداً لخوض المواجهة المطلبية حتى النهاية مهما بلغت التضحيات، وهذه نقطة جديرة باهتمام التيار الاصلاحي في بلادنا، الذي يفتقر الى عزيمة صلبة وإرادة التحدي من أجل تحقيق أهدافه الكبرى.

نجحت القوى الاصلاحية الكويتية أيضاً في استيعاب الشارع، من خلال تبني شعاراته التي حملها طلبة الجامعة وإظهارهم حماسة فائقة في المطالبة بالتغيير ومقاومة الفساد، حتى كادوا أن يسحبوا البساط من تحت القوى السياسية التقليدية التي وجدت نفسها أمام واقع جديد، الامر الذي دفع بها الى الالتحام مع حركة الطلبة وتشكيل جبهة وطنية اصلاحية عبّرت عن نفسها في هيئة نشاطات مشتركة: منتديات، ومحاضرات، واعتصامات، ومظاهرات احتجاجية، حيث كان يتناوب الاصلاحيون على إقامة ندوات مفتوحة يؤمّها جمع غفير من المواطنين الذين شاركوا في حركة الاحتجاج السلمي الديمقراطي من خلال دعم مواقف التيار الاصلاحي ومنح أصواتهم الانتخابية له.

تطور آخر في تجربة التيار الاصلاحي الكويتي هذه المرة أنه لجأ الى استعمال الاعلام الفضائي لإيصال رسالته في الاصلاح للداخل والخارج، من خلال قناة (نبيها تحالف) التي بدأت البث في نهاية شهر مايو، وبالرغم من الضغوطات التي واجهها التيار الاصلاحي بعد اقدام عرب سات على سحب ترخيصها ووقفها عن العمل، انتقلت المحطة على الفور الى القمر الصناعي الاوروبي (هوت بيرد)، وأعلن القائمون عليها حينذاك بأنهم عازمون على تحدي الضغوطات مهما كلّف الأمر. وواصلت القناة بثّ لقاءات وتغطية النشاطات الثقافية والسياسية لرموز التيار الاصلاحي. ولا شك أن مثل هذا التطوّر في أداء التيار وآليات التعبير عن مطالبه يلفت الى حاجة التيار الاصلاحي في السعودية الى تطوير أدائه وأدواته، فالركون الى لغة العرائض لم تعد مجدية، وأن ثمة حاجة شديدة الالحاح للتحرر من التقاليد غير الرسمية المتبّعة في ايصال المطالب الوطنية، سيما وأن هذه التقاليد مفروضة من السلطة وقد فقدت مبررها وتجاوزها الزمن، وإن هناك حاجة الى استعمال وسيلة سلمية أشد تأثيراً على الشارع والحكومة والخارج، فقدرة التيار الاصلاحي الكويتي على تجاوز محاولات التعطيل والافشال كانت تواجه بإصرار وفي الوقت نفسه ببدائل متعددة.

الصفحة السابقة