قراءة في تأييد الموقف السعودي لحرب إسرائيل وأميركا على لبنان

خرسوا وخسروا ولكن موقفهم لم يتغيّر

الذين يعتقدون ان الحكومة السعودية قد غيّرت رأيها بعد أن اكتشفت خطأ موقفها الأول القائل بـ (مغامرة حماس وحزب الله) عليهم أن يعيدوا النظر في قراءتهم للموقف السعودي تجاه الحرب الإسرائيلية على لبنان

بعد البيان السعودي (المغامر) ضد حماس وحزب الله، وهو البيان الأول الذي شكّل الإطار الأساس للموقف السعودي.. أعادت السعودية تأكيد موقفها في مقر الجامعة العربية بالقاهرة، حيث كان يجتمع وزراء الخارجية العرب، وقد أفشل موقف السعودية المتشدد مما سمّاه (مغامرة) حزب الله اجتماع وزراء الخارجية العرب آنئذ، حيث بدا أن الحكومة السعودية ـ وخلافاً لمواقفها الهادئة والإجماعية ـ غير حريصة بتاتاً على التوصل الى موقف جماعي عربي لا يتناسب مع موقفها هي ومصر والأردن. في ذلك الإجتماع، انضوت دول الخليج تحت عباءة السعودية ـ عدا قطر ـ فيما حاولت مصر تليين موقفها، ولكن الموقف السعودي المصرّ على إدانة حزب الله وليس اسرائيل أحبط الخروج بأي مشروع سياسي عربي، بل على العكس من ذلك كان المؤتمر مناسبة للمزيد من المشاكسة بين السعودية وسوريا. فهذه الأخيرة ـ ومنذ نحو ثلاث سنوات ـ أصبحت هدفاً سعودياً متساوقاً مع الضغوط الأميركية على ذلك البلد. الى حد يمكن معه القول بأن النظام العربي الرسمي، وعلى رأسه السعودية قد خسرت العراق وخسرت سوريا وخسرت حماس وبالضرورة القضية الفلسطينية وأنها بصدد خسارة لبنان سياسياً.

محطات الموقف السعودي، وكما قلنا، بدأت ببيان المغامرة!، ومرت بمؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة، عابرة مؤتمر روما، الذي سنتحدث عنه وما تلاه.

مؤتمر روما حضرته السعودية والأردن ومصر. حضر ممثلو هذه الدول وكأنهم يمثلون العالم العربي. لم يستشيروا أحداً في الموضوع السياسي اللبناني. السعودية ـ الأقرب الى حكومة السنيورة ـ لا تستطيع الزعم أنها تتكلم بالنيابة عنها، كون السنيورة كان حاضراً في المؤتمر.. ومن هنا كان اعتراض وزير الخارجية القطري والقائل: من خولكم لتتحدثوا عن لبنان بالنيابة عن كل العرب الذين فشلوا توّاً في التوصل الى أي قرار في مؤتمر خارجية القاهرة؟ يصبح هذا السؤال في محلّه. خاصة وأن السعودية ـ وهي دولة أجنبية ـ والتي هاجمت حزب الله في بيانها الأول لأنه لم يستشر حكومته كما لم يستشر الحكومات العربية! فلماذا لم يستشر هؤلاء نظراءهم العرب، ولماذا تحدثوا بالنيابة عن لبنان وهو حاضر؟!

المهم في مؤتمر روما، هو أنه وفر غطاءً عربياً ودولياً لحرب اسرائيل، مع أن السنيورة قدّم مشروعاً ضاع في زحمة العداء الدولي والإقليمي لحزب الله!

ماذا كان دور السعودية ومصر والأردن؟ هذا الثلاثي الموالي لأميركا، والذي يعمل بالتنسيق مع الأجندة الأميركية فيما يتعلق بمواجهة سوريا وإيران وحزب الله وحماس.. لم يكن في وارد دعم مشروع السنيورة في مؤتمر روما، بل كان الثلاثي يعتقد ـ وكما ذكر وزير خارجية قطر ـ أن الحرب ضد حزب الله ضرورية للغاية، ويجب إكمالها، وأن هذه الدول توقعت أن تستمر الحرب الإسرائيلية على لبنان أسبوعين يتم خلالهما تصفية الحزب والى الأبد!

فالموقف السعودي على الأقل لم يكن أدنى من الموقف الرسمي اللبناني فحسب، بل كان متواطئاً مع الموقف الأميركي ـ الصهيوني. ولم تكن فرحة الإسرائيليين بالإجماع الدولي لتخليص العالم من شرور حزب الله! تقل عن فرحة السعوديين. وقد كرر الصهاينة مراراً، من أولمرت الى بيرتز، الى شيمون بيريز وغيرهم، بأن الحرب الإسرائيلية على حزب الله تحظى بتأييد الثلاثي العربي، خاصة السعودي.

بمعنى آخر: أنه وحتى مؤتمر روما، كان الموقف السعودي أكثر تشدداً من موقف أصحاب القضية اللبنانيين، أي الحكومة اللبنانية، وليس فقط الجزء الموالي منها للحكم السعودي.

وبين مؤتمري روما والقاهرة، كانت هناك زيارة ولي العهد ـ وزير الدفاع السعودي ـ لباريس. البعض تصور أن المملكة وبحكم علاقتها الوثيقة بباريس، وعلاقة الأخيرة الوثيقة بلبنان والرياض، ستقدم مبادرة تخرج لبنان من محنة الإستهداف الإسرائيلي. لكن تبيّن أن موضوع لبنان كان (هامشياً) و (عرضياً) في المباحثات بين البلدين، وأن محور الزيارة لم يكن ـ ويا للمفارقة الغريبة ـ غير عقد صفقة تسلّح بثلاثة مليارات دولار! هذه الأسلحة تشترى في وقت المعركة، ولكن ليس لخدمتها عبر استخدامها.. مع أن حزب الله كشف زيف هذه الصفقات وعدم فائدتها حتى لو استخدمت في مقابل الترسانة الإسرائيلية، فما بالك أنها لم ولن تستخدم أبداً أبداً! وتأتي هذه الصفقات في وقت أثبت فيه حزب الله أن من يريد محاربة اسرائيل يستطيع، ولكن وفق استراتيجية مختلفة، ليس بينها شراء أسلحة متطورة من النوع الذي يشتريه السعوديون.

ثلاثة مليارات دولار قيمة الصفقة السعودية من السلاح الفرنسي. من المؤكد أن ثلثها على الأقل سيذهب الى جيب سلطان الحرامية، وزير الدفاع، (الوهاب النهاب) كما يقال. فالصفقات مجرد سمسرة، تستهدف ارضاء العواصم الغربية الكبرى عن النظام السعودي.

ايضاً ما بين مؤتمر روما ومؤتمر القمة الإسلامي في كوالالامبور، جرت مياه كثيرة. فحزب الله أثبت مقاومة غير معهودة، ومضت أسابيع كان آل سعود وملك الأردن وحسني مبارك ينتظرون فيها هزيمة الحزب، الأمر الذي أوقع هذه الدول بالذات في حرج بالغ مع الرأي العام العربي الذي شعر لأول مرة بحسّ غاب منذ ما قبل حرب 1967، وهو الشعور بالعزّة والكرامة، والشعور أيضاً بخديعة الأنظمة العربية التي ربّت الوهم لدى الشارع العربي، بأن اسرائيل لا يمكن أن تواجه ولا يمكن أن تهزم، فإذا بحزب يصمد لأكثر من شهر، وهو صمود لم يفعله جيش عربي في أي حرب عربية قامت وربما ستقوم!

السعودية التي تحدثت عن المغامرة، وجدت أن المغامرة دقيقة التخطيط، علميّة وحساباتها واضحة، وهذا يخرجها أصلاً من إطار المغامرة.

والسعودية التي تتالت عليها لعنات العرب والعجم لمواجهتها المفضوحة مع حزب الله، وتواطئها مع اسرائيل واميركا في الإعتداء، كانت تروج بأن عهد الشعارات قد ولّى، في إشارة الى شعارات عبد الناصر، الذي تواطأ السعوديون مع الغرب أيضاً فقمعوه وأذلّوه وأخيراً قتلوه! لكن حزب الله أبدى مصداقية غير معهودة عند الأنظمة العربية، بل وعند اسرائيل، تصاغرت معها كلماتهم وادعاءاتهم، واضطروا في الأخير الى أن يبلعوا ألسنتهم، ويعتمدوا بيانات المقاومة.

والشارع السعودي الداخلي انشقّ على آل سعود.. حتى اولئك الذين صدقوا الموقف الرسمي في البداية، سرعان ما تراجعوا، وراحوا يكتبون خلاف الموقف الرسمي، الذي بدا حذراً أكثر من الإستمرار في المعركة الإعلامية والطائفية ضد حزب الله. خاصة وأن علماء المسلمين من مختلف الأقطار قد وقفوا ضد المخطط السعودي. وكان التراجع السعودي محسوباً ولكنه لم يكن شاملاً كاملاً، ولم يغير من أصل الموقف.

عقدة السعودية هي مع ايران، انها ذات عقدة مصر، التي استبدلت عدوها الأول ـ إسرائيل ـ بعدو مفترض بعيد عن الحدود، وهو ايران. وكلما حققت الأخيرة نجاحاً سياسياً واستراتيجياً استشاط النائمون العرب، وانفضحوا، وبدل أن يجدّوا نجدهم يتآمرون مع العدو القديم ضد العدو الجديد المخترع. أبرز الأمثلة على ذلك، هو زيارة وزير الخارجية الإيراني متكي الى بيروت تحت القصف، فوصلها قبل أن يصلها أي مسؤول أو وزير عربي! وبعد هذا يأتينا هؤلاء ليندبوا حظهم على تصاعد النفوذ الإيراني!

في مؤتمر قمة ماليزيا، اضطرت السعودية لحضوره على مضض. فآل سعود كانوا يعتقدون بأن مؤتمراً لا يمكن أن ينعقد خلاف ارادتهم، وهم لم يكونوا يريدونه في الأصل، ولكن المسلمين (الأعاجم) وهم يمثلون أكثرية المسلمين أقرّوا المؤتمر، فاضطر العرب لحضوره! لكن المفارقة تأبى إلا أن تطلّ علينا مرة أخرى. فالسعودية لم يكن لها دور مميز أبداً، وإن حاولت هذه المرة التزام الصمت حتى لا تبدو أكثر شذوذاً مما هي عليه، كما حدث في مؤتمر خارجية القاهرة، وارتأت أن تقبل بموقف أعلى مستوى مما هي تؤمن به. والأهم ان أحداً من القادة العرب لم يحضر المؤتمر، واكتفوا بتمثيل على مستوى منخفض (وزراء خارجية في الغالب) الأمر الذي يدلل على مدى جديّتهم وجديّة آل سعود.

ومع تواصل مقاومة حزب الله، وشتائم الشارع ضد أعدائه الوهابيين وآل سعود، اضطر آل سعود الى الدعوة الى مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية. قالوا أنه طارئ! وجاء بعد 26 يوماً من العدوان، فيا له من مؤتمر طارئ. قال البعض أن آل سعود أرادوا التكفير عن جرمهم، وأنهم بصدد نهج جديد، ولكن الذي ظهر هو أن آل سعود أرادوا إجهاض حركة الشارع العربي، وتخفيف الضغط الشعبي الداخلي والخارجي عليهم، خاصة وأن محاولات تظاهر في الرياض قد أحبطت، وأخرى في المنطقة الشرقية ذات الكثافة الشيعية قد نجحت وتكررت في أكثر من مدينة.

خرج المؤتمرون الذين حطوا في مطار بيروت بعد أخذ الموافقة الإسرائيلية، خرجوا بدعم هزيل للبلد المنكوب، وحين قرر المؤتمرون ارسال وفد الى الأمم المتحدة، جاء دور الإمارات، وانزوت السعودية، التي لو قرر المؤتمر بعثها لكانت قد حدثت أزمة، فكيف تأتمن الخائن على القضية؟

بقيت ثلاث مسائل يمكن أن تغطي بصورة شاملة الموقف السياسي السعودي من حرب لبنان.

أولها، أن السعودية تراهن ـ كما اسرائيل ـ على نتائج الحرب الشاملة المحتملة، أي الإجتياح الإسرائيلي الواسع لمنطقة جنوب نهر الليطاني، ومن ثمّ المساومة السياسية، بحيث تخرج اسرائيل منتصرة: فيبعد حزب الله من مواقعه في الجنوب، وتالياً تجريده من سلاحه، وتحقيق نصر سياسي، تستطيع معه اسرائيل القول بأنها لقنت حزب الله درساً، وكذلك الشعوب العربية المغلوبة دروساً تفيد بأن خيار أنظمتها المنبطحة هو الأنجع في التعامل مع اسرائيل. إذا تحقق شيء من ذلك، فالسعوديون سيقولون بعد انتهاء المعركة، والحقيقة انهم سيقولونه على أية حال حتى لو انتصر حزب الله، بأن رأيهم كان صحيحاً، من جهة أن ما جرى مجرد (مغامرة) غبيّة، وستدعي السعودية في اعلامها على الأقل، بأنها كانت (حكيمة) و (صائبة) وأن من اعترض عليها مجرد (غوغاء) و (أصحاب شعارات) ضللوا الشارع العربي والإسلامي.

وثانيها، أن معركة السعودية هي مع إيران وليست مع أميركا، وهي تأتي لإرضاء أميركا واستراتيجيتها تعويضاً عما جرى في احداث 11/9، وتأكيداً على أن السعودية ستبقى الحليف الأوكد بعد إسرائيل في المنطقة، وأنها مستعدة للمشي في المشروع الأميركي الى النهاية. ومع أن السعودية خسرت دورها السياسي المتعلق بلبنان، منذ اليوم الأول الذي فتحت فيه معركتها مع حزب الله، الأمر الذي همّشها سياسياً، فغاب صوتها وخسرت الكثير من سمعتها لصالح من تعتبرهم منافسين أو أعداء لها.. إلا أن السعوديين يدركون أن المعركة التي دخلوها الى جانب الأميركيين والإسرائيليين لا يسعهم التراجع عنها، وأن ورقة التفويض السعودي ـ المصري ـ الأردني بمهاجمة حزب الله لا يمكن سحبها بعد الذي جرى، أي أنهم لا يستطيعون تغيير موقفهم بين ليلة وضحاها.

وثالثها، ان السعوديين كسبوا اقتصادياً من الحرب على لبنان، من جهة ارتفاع اسعار النفط. صحيح ان السعوديين لا يهتمون بالمال كثيراً اليوم، فلديهم المزيد منه، وإنما يهمهم نجاح خيارهم السياسي. لكن اللافت هو أن السعودية تبرعت وأعلنت بأنها ستنتج نفطاً أكبر لتغطية أية نقص في السوق، والعمل على تبريد أسعاره! هكذا مجاناً وبلا ثمن سياسي آني يخدم اللبنانيين. في وقت يطالب فيه كثيرون باستخدام سلاح النفط. فانظر لهذه المفارقات الغريبة.

ورابعها، هو أن السعوديين المحرّضين على حرب لبنان واستئصال حزب الله، شأنهم شأن الأميركيين والأوروبيين، قدّموا بيد أخرى بعض المعونات الإنسانية والمالية. خمسين مليون دولار دفعت أولاً، فقيل لهم بأن المبلغ يصرفه أمير صغير على طاولة قمار في مساء واحد!، فقاموا بالتبرع بخمسمائة مليون دولار. السعوديون هنا يفصلون بين الموضوعين السياسي والإنساني. الأخير يغطي سوءة الأول. والأخير ـ بنظر السعوديين ـ يحفظ لهم بعض المكان في لبنان الخارج من الحرب، ويقوي حلفاءهم السياسيين، ويمنع ما يعتقد أنه استفراد ايراني بمرحلة إعادة إعمار لبنان القادم.

الصفحة السابقة