في لقاء الشيخ يماني مع (الجزيرة):

المواطن يجب ان يستنشق الهواء الطلق، وحرية الرأي والسفر أولاً

يماني. بمجرد أن يذكر الإسم بالعربية أو بأية لغة أخرى في العالم، تتداعى الى الذاكرة وبسرعة البرق إسم: أحمد زكي يماني، وزير النفط السعودي الأسبق. لا غرابة في هذا، فقد كان أشهر شخصية وإسم على مستوى العالم، بل عدّ في اللحظات الصعبة أحد أهم شخصيات العالم، وبالتأكيد فإنه على صعيد السعودية قد حفر إسمه في تاريخها عميقاً بشكل لم يفعله أحدٌ من نظرائه من قبل أو من بعد.

وحين ترجّل عن موقعه الرسمي عام 1986، وبالرغم من السعي الرسمي الحثيث لإخفات صوته، كاد يماني يصبح الوزير الوحيد الذي لم يطوه النسيان بعد تركه الوزارة، فأطلّ على الأجيال الجديدة في المملكة وعلى العالم بمشاريع ثقافية ومراكز أبحاث ومبادرات تنويرية اتسعت لها عواصم عربية واسلامية وغربية، لتكشف عن جزءٍ يسير من سيرة رجل يرفض أن يترجّل عن ساحة الفكر والثقافة كما عن ساحة السياسة والإقتصاد.

وإذا كان هناك من ينزعج لحضور يماني الدائم، الصاخب أحياناً، في ميدان التعليم والأكاديميا، كما في ميدان الإقتصاد والنفط، وميدان الإعلام والثقافة، وميدان الفكر الإسلامي.. كتابة وبحثاً ومقابلات تلفزيونية ومؤتمرات إسلامية ومشاريع خيرية، وغيرها، فإن هذا الإنزعاج المستمر قد ترجم عملياً من خلال محاولة (تهميش) الرجل محليّاً، ومنع وسائل الإعلام الرسمية أو الأهلية من التعاطي معه، والطريف أن إثنين من كبار الصحافيين قد فقدا منصبيهما لأنهما أجريا مقابلات مع الشيخ يماني.

في كل الأحوال، فإن الرجل ـ وكما أثبت فعلياً ـ أنه أكبر من الحصار، وأقوى من التهميش، وأن من يعتقدون أنهم يحاصرونه، أو يهيّجون (التطرّف) ضدّه في الداخل ويستكتبون الآخرين من الخارج للطعن في شخصه وفي دينه، إنّما يحاصرون أنفسهم، وينطوون على ذواتهم، وإلا فالشمس والهواء لا تحاصران. وإن النتن والعفن، إنما يذكران حين تذكر أسماؤهم في المحافل والمجالس العامة.

الدولة المسعودة خسرت برحيل يماني عنها أكثر مما خسر هو بالفعل، وهذا لا يؤمن به الأمراء السعوديون. لقد خسروا عقلاً مفكراً، ورجل علاقات من الطراز الأول، ومفاوضاً منافحاً عن حقوق البلاد في كثير من الإتفاقيات التي وقعت وهي لم تكن محصورة في موضوعة النفط. وحرب آل سعود ضدّه، جعلتهم يخسرون جماهير الحجاز، وكلما زاد الطعن والإفتراء كلما انحاز المواطنون اليه، على الأقل على أساس القاعدة المعروفة: وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ/ فهي الشهادة لي بأنّي كامل.

يماني لم يغب كما يعلم السعوديون، فقلمه حاضرٌ دائم للكتابه، تجده في الصحافة وفي الكتب التي يكتبها، والمؤتمرات التي يعدّها، والمحاضرات التي يلقيها، تجده في مقابلاته مع القنوات الفضائية (غير السعودية)، وفي نشاطه الخيري، وفي الصرح الثقافي الذي أنشأه (مؤسسة الفرقان) وموسوعة مكة المكرمة، وعشرات الكتب التي تطبعها، كما تجده حاضراً في الإقتصاد والنفط عبر (مركز الطاقة) مع أن آل سعود لازالوا يروجون بأن الرجل لا يفهم في شؤون النفط، بالرغم من أنه كان وزيراً للنفط ما يقرب من ربع قرن!

مناسبة هذا الحديث، هو إطلالة يماني المتميزة في قناة الجزيرة التي استضافته في التاسع من الشهر الحالي (سبتمبر) في برنامج (زيارة خاصة) الذي يقدمه سامي كليب.. تلك الإطلالة ستستمر في حلقتين أخريين. لقد عرفنا يماني وزيراً، وعرفنا آراءه السياسية وآراءه بشأن المرأة وحقوقها في الإسلام (وقد نشر مؤخراً كتاباً حول المرأة فضلاً عن القائه محاضراته المتعددة بهذا الشأن)، كما عرفنا آراءه حول النفط انتاجاً وأسعاراً وشركات وسياسات.. ومع أن لدى الرجل المتميّز هذا الكثير من المعلومات والوثائق والأسرار والعلاقات، وكانت له الكثير من اللقاءات مع زعماء العالم، إلا أن القليل رشح عن ذلك، كما رشح القليل عن حياته الشخصية. كنّا نتمنّى أن نقرأ ذلك كله في كتاب يشمل مذكراته، ولكن لعلّ ما نشرته الجزيرة يلقي بعض الضوء على ذلك كلّه.

مشاهد الحلقة الأولى من تلك الإطلالة المميزة، استدعت من الكثيرين المتابعة ومشاهدتها أكثر من مرّة، كما استدعت تعليقات عديدة من جمهرة المثقفين والإصلاحيين السعوديين، إضافة الى أنها حظيت باهتمام صانعي القرار، الذين يعتقد بأنهم سيمتعضون من المقابلة أيّاً كان موضوعها، فالشخص لا يعجبهم، والقناة التي يتحدث منها وامتدحها معتبراً اياها (أكثر مشاهدة من أي محطة أخرى في الوطن العربي أو في داخل المملكة) غير مرغوب فيها أيضاً. لكن ما لفت في المقابلة التالي:

(1) أن الشيخ يماني حرص على أمرين: أولهما، أن يبدي رأيه فيما يسأل عنه، أنّى كان ذلك السؤال، بالنظر الى (حقه في التعبير عن رأيه) خاصة إذا جاء من شخصية بحجم الشيخ يماني وتراثه السياسي والفكري. لقد أجاب بقدر كبير إن لم يكن بشكل كامل بحريّة، بحيث لاحظ الكثيرون أنه قال رأيه في كل شيء تقريباً بوضوح. وثانيهما، أنه حرص بشكل واضح على أن تكون إجاباته بأكبر قدر من الهدوء وانتقاء الكلمات حتى لا تفسر بشكل مغلوط، وحتى لا تعطي انطباعاً أبعد من قضية (حرية التعبير) الى (التشهير). ولقد كان الشيخ يماني بارعاً بالفعل في قول رأيه بأقصى قدر من الأدب وعفّة اللسان ومهارة فاقت مهارة الدبلوماسي الحذق المحنّك.

(2) أن الشيخ أحمد زكي يماني لفت المستمعين في بداية الحلقة الى حقيقة أنه ليس معارضاً ولا يتحدث بلغة معارضة، وميّز بين اهتمامه بالإصلاح وبين المعارضة.. واعتبر رأيه (الذي قد يكون مخالفاً للرأي الرسمي الديني أو السياسي) ينطوي على (إخلاص حقيقي). وكأنه أراد القول بأن من يقول رأياً مختلفاً هو في الحقيقة أكثر إخلاصاً ممن يقول: (سم طال عمرك)!

بيئة علم وحياة تقشّف

أشار الشيخ يماني في بداية الحلقة الى أنه من بيت علم ودين، هكذا كانت سيرة جدّه وأمه وأبيه الذي قال عنه حين سئل أنه كان فقيهاً معروفاً ومن علماء المسجد الحرام، وأنه (تولى الإفتاء للمذهب الشافعي وفي القضاء. وإلى أن توفي، يوم أصابته الجلطة، كان يدرس في بيته). كما أشار الى حالة القلق حين احتلّ السعوديون الحجاز، وكيف أن والده وجده وأعمامه غادروا مكة الى أندونيسيا، والسبب: (كان الخوف والفزع من شيء جديد). وعن الحالة المادية لعائلته، قال الشيخ يماني أنه كما والده عاش حياة تقشف رغم غنى العائلة ولم تكن بيئة ترف، وأنه كان يسافر على ظهر الحمار الى جبال الحجاز، وأضاف بأنه لازال ذلك الإنسان المتقشف الذي يستمتع بالنوم في العراء تحت شجرة الى هذا اليوم. وعن ثروته، قال يماني بصراحه بأنها جاءته من المتاجرة بالأراضي وليس من النفط، وكأنه أراد القول بأنه لو كان لدى (أعدائه الألداء) دليلاً واحداً لأظهروه من أجل إدانته.

مصري الهوى

عن تجربة دراسته في مصر، قال أنه أبدى حبّاً للإستطلاع عارماً، فقد خرج من مجتمع محافظ الى مجتمع منفتح يختلف عن مجتمع مكة، فاستمع الى طه حسين والعقاد وغيرهما، وصلى وراء الشيخ شلتوت وأعجب به، وتعرف على التيارات السياسية وبينهم الشيوعيين الذين نفر منهم، كما تعرف على الإخوان المسلمين، وحضر الأوبرا، واستمع الى أم كلثوم. أكثر من هذا، فإن يماني تدرّب على السلاح في مصر التي كانت من الناحية الفعلية حينها محتلّة من قبل الإنجليز. ولاتزال للشيخ يماني جذور مصرية قوية، وهو يعتبر نفسه مصري الهوى، وقد أكد ذلك في حفل أقامته جامعة القاهرة العام الماضي.

لقد تأثر الشيخ يماني بالكثيرين مثل المرحوم الشاعر والأديب الحجازي حمزة شحاتة، ولكن من غيّر مجرى حياته هو أستاذه الشيخ عبدالوهاب خلاف، يقول: (الواقع حمزة شحاتة هذا من أهالي مكة، كان في القاهرة وأنا طالب، وكانت بيني وبينه علاقة. من بين من تأثرت بهم وغيروا الكثير من أفكاري، وربما مجرى حياتي هو الشيخ عبد الوهاب خلاف، كان أستاذي في الشريعة الإسلامية في جامعة القاهرة، أيضاً تأثرت بطه حسين، وكنت أحرص دائماً على حضور محاضراته).

ولكن الى أي حدّ أثّرت مصر التي كانت تعيش فوراناً سياسياً في الشاب أحمد زكي يماني، هل حمّلته أفكاراً تغييرية حين عاد الى بلده؟ هكذا سأله معدّ الحلقة، ولكن يماني أجاب باقتضاب بأن رغبته حينما عاد الى بلاده تمحورت حول التثقيف والتعليم: (لما عدت إلى السعودية من مصر كان هدفي أن أعمل كأستاذ في المدرسة، ولكن مجموعة من المتنفذين في مكة، وعلى رأسهم الشيخ حسين جستنيه وقد كان مدير عام وزارة المالية، استطاعوا جذبي للعمل في وزارة المالية بشرط أنا فرضته، وهو أن أمارس التدريس، فكنت أدرس في الصباح، في مدرسة الفلاح، درست التفسير والحديث واللغة الفرنسية، ثم أجيء عملي متأخراً بعض الشيء). ونفى أن يكون قد نقل أفكاراً حزبية، ولكنه أكّد على حقيقة نشاطه التعليمي من خلال انشاء جمعية الخريجين الجامعيين، اضافة الى نشاطات تعليمية أخرى في المدارس الليلية.

لقد حاول سامي كليب استدراج يماني للحديث عن أسباب تقهقر السعودية من جهة الحريات العامة، فاكتفى بالإشارة الى موقف الوهابيين من الموسيقى دون أن يذكرهم بالإسم، وقال بأنهم يقولون بحرمة الموسيقى بالإجماع، وهو غير صحيح، وأشار الى مفارقة غريبة بين الوضع في الوقت الحالي والماضي بالنسبة للمرأة ودورها، حين أشار الى أن ما يشبه الكرنفال السنوي يقام في مكة للنساء يحضرنه دون الرجال ويسمى (القيس) حيث تلبس النسوة أزهى ملابسهن وينزلن الى شارع معيّن خالٍ من الرجال يغنين ويرقصن. واضاف الشيخ يماني بأن المرأة في السعودية لم تأخذ ولو جزء قليل من حقها الذي أعطاه إياها الإسلام، وتمنّى أن تتغير الأمور الى الأحسن بالتدريج.

مي يماني مرة أخرى

يبدو أن الرجل الشرقي لا يستطيع أن يرى (المرأة) كياناً مستقلاً في تفكيره ومسؤولاً عن عمله أمام الله وأمام القانون. لابد أن يتحمل أحدٌ ما (أباً أو زوجاً أو أخاً أو حتى إبناً) المسؤولية بالنيابة عنها، مهما بلغت من علم ومعرفة، ومهما أثبتت من حسّ وقدرة على تحمّل المسؤولية، ومهما بلغ بها العمر، أي الى أن تموت، سيبقى هناك من يسأل عمّن هو مسؤول عن تصرفات هذه المرأة أو تلك! قد تكون هذه حكاية الأمراء السعوديين مع كل الناشطات في الشأن العام بالمملكة، ونذكر هنا بما حدث لأزواج وآباء النساء اللاتي قمن بمظاهرة نسائية تطالب بقيادة السيارة في الرياض عام 1991، وهو ما حدث للدكتورة مضاوي الرشيد، التي طلب من والدها (إخراسها) بعد أن فشل تهديد وزير الداخلية المباشر، وهو ما حدث أيضاً للدكتورة مي يماني، حيثُ حُمّلت العناصر (الذكورية!) في العائلة مسؤولية ما تكتب من آراء سياسية سواء على شكل مقالات علمية أو أبحاث نشرت في كتب.

ويبدو أن العدوى الذكورية هذه قد لحقت بأخينا مقدم البرنامج سامي كليب، الذي قال بأن الدكتورة مها يماني (كتبت أطروحة حول تعدد النساء في السعودية، والدكتورة مي يماني وضعت كتاباً حول الحجاز أثار ضجة كبيرة ولا يزال، وذهب البعض إلى حد اتهامها بالحثّ على الإنفصال، واُتهم والدها الشيخ أحمد زكي يماني بتشجيعها على ذلك).. ومع أن الإتهام غريب في حدّ ذاته، كون الكتاب منشور حديثاً ويمكن لأي أحد أن يقرأه ليكتشف أن موضوعه لا علاقة له بالإتهام، خاصة وأنه رسالة دكتوراة قُدّمت قبل نحو عشرين عاماً، يوم كانت السعودية في عز مجدها، يخشى أعتى الكارهين حتى مجرد تناولها بكلمة.. ومع أن الكتاب إيّاه يتحدث عن الحجاز كهوية ثقافية ومعرفية، إلا أن آل سعود شديدي الحساسية حتى تجاه كلمة مثل (الحجاز) دقّوا ناقوس الخطر، وشتموا الكتاب قبل أن يقرأوه، واتهموا الباحثة وأبيها بالجرم غير المشهود (الإنفصال)!

كان مجرد توجيه السؤال الى الشيخ يماني خطأ، فالسؤال كان يجب أن يتوجه الى الباحثة نفسها (د. مي يماني) فهي كاتبة الكتاب، وهي المسؤول عمّا فيه، وهي رشيدة وعالمة وتستطيع أن تدافع عن نفسها وعن آرائها.. ومع هذا لم يبد من جواب الشيخ يماني تبرؤاً من الكتاب ولا من ابنته بالطبع، وأجاب بهدوء: (لا والله. هذا ـ الإنفصال ـ أسوأ شيء يفكر فيه، هذا ما تريده إسرائيل، أن تقسم المجتمع العربي إلى قطع ولا أظن إنه مي .]..[ هذا الذي كتبته عبارة عن رسالة دكتوراه من قبل عشرين سنة فأعادت إخراجها في شكل كتاب، وأنا ما قرأته إلا من القراء، لا ما أظن أن مي عندها هذا التفكير. طبعاً ثارت ضجة خصوصاً إذا أنت الآن تسألني يدعو إلى الانفصال، وأنا قطعاً وأجزم إنه ما في أحد من أولادي يفكر في هذا الأمر أبداً).

النقد وحماية الآثار الإسلامية

حين سئل الشيخ يماني حول (منتدى الثلاثاء) الأسبوعي الذي يقيمه في منزله ويناقش فيه مع المثقفين وأصحاب الرأي مواضيع تتعلق بالشأن العام، قال معدّ الحلقة أن نقداً يوجه في تلك الحوارات ضد الفكر المتطرف (الوهابية دون أن يسميها) وسأله عن طموحه وماذا يريد؟ من الطبيعي أن يوجه النقد في كل المنتديات في السعودية سواء للحكومة مجتمعة أو لأشخاص معينين بالتحديد، وكذلك نقد التطرف الذي جاء في معظمه نتيجة الأيديولوجيا الوهابية. هذا امرٌ تفرضه طبيعة النقاشات الحرّة في المجالس الخاصة أو نصف العلنيّة، والتي عادة لا تغيب عنها دبابير المباحث/ المخابرات!، ولكن الشيخ يماني أراد التخفيف أكثر وأكثر في إجابته. قال إن المسألة ليست انتقادات بهذا المعنى، وإنما هي أفكار وآراء واجتهادات يختلف بشأنها، وضرب مثالاً على ذلك: (يعني أنا مثلاً لا أجد مانعاً أن يحتفل الإنسان بمولد الرسول، وأعتقد إن الاحتفال بمولد الرسول أباحه الرسول نفسه، فقد كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل قال: ذلك يوم ولدت فيه. النفور من هذا [الإحتفال] أنا لا أقبله، ثم قد تحتفل أيضا بغزوة بدر باعتبارها مفترق طرق في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الدولة الإسلامية، فنحن نحتفل بهذه الليلة المباركة واليوم المبارك احتفالاً يقصد منه الرجوع إلى الماضي والإحتفال بالذكريات. أنا شخصيا أرى إن الآثار الإسلامية يجب أن تبقى، لأنه ليس هناك دين يمكن أن تراه على الطبيعة بعينيك مثل الإسلام).

لم ينفِ الشيخ يماني حين سئل عما إذا كانت إجابته تتضمن نقداً لمن يحاول طمس الآثار الإسلامية، بل أضاف بأنها طمست في الواقع، لقد طمس أكثرها، وأضاف بأن ضرب أمثلة على تلك الآثار المهدمة أمرٌ يثير الشجون: (ليش تثير الشجون عندي الله يهديك يا أخي؟ أنا من عادتي في كل سنة أكتب تهنئة رمضان، وهي عبارة عن فكرة قد تضم صفحات كثيرة، وفي تهنئة من تهنئات رمضان وضعت فيها موضوع الآثار ما هُدم وما سيهدم إلى آخر هذا. كالبيت الذي عاش فيه الرسول مع زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها 28 سنة في حياته، وهذا البيت طبعا أزيل. نعم أنا صورته ـ المنزل ـ وقد تسنى لي أن آتي ببعض الناس الذين عملوا وعلى مدى الـ 24 ساعة [لإزالة ما حوله وتوضيح معالمه] وقد وجدناه كما ذُكر في كتب التاريخ، وجدنا قطعة الحوض التي كان الرسول يتوضأ منها، ووجدنا الرحى التي كانت السيدة فاطمة رضي الله عنها تطحن القمح بها).

لماذا الهدم؟ هكذا سئل: (لا أعرف مالسبب، لست أنا من أسأل عن هذا.. لكني أخذت نصف الرحى، وهي موجودة عندي في هذا البيت، هذا النصف قطعة تاريخية، والنصف الآخر بقي مع ما أزيل وردم).

وأشار الى أن منزله الكائن في جدّة، وهو أثر تاريخي يرتبط بآخر حاكم هاشمي للحجاز، وهناك حديث عن احتمال إزالته بحجة (التوسعة) وعدّ ذلك من الأخبار السيئة، لأنه أيضاً أثر سعودي، كون الملك فيصل سكن فيه أيضاً.

الشيخ يماني: بين فيصل والأمراء إخوته

أوضح معدّ البرنامج عمق العلاقة بين الشيخ أحمد زكي يماني والملك فيصل، وسأل عمّا إذا كان هناك تنافر بينه وبين الملوك والأمراء الآخرين، وهذا التنافر مشهور في المجتمع، ويظهره آل سعود أنفسهم لدى النخبة الحجازية، وليس يماني نفسه، وقد أجاب بلغة دبلوماسية هادئة: (لا أعتقد أن هناك تنافر ـ اي مع الحكام الحاليين ـ لكن علاقتي بالملك فيصل كانت متميزة، خاصة وأن الرجل منحني ثقته، وأعطيته كل وقتي وإخلاصي وولائي. ليس هناك وجه للمقارنة بين الملك فيصل الذي عملت معه السنوات الطويلة جدا من حياتي وأنا لصيق به وبين البقية. يعني هناك من آل سعود من أحمل له من الود والصداقة الشيء الكثير، يعني لا وجه للمقارنة، لا أريد المقارنة).

وكشف سامي كليب معد البرنامج، عن تنافر بين الشيخ يماني والأمير سلطان، وسأله عمّا إذا كان صحيحاً أن لقاءً بين الإثنين قد ألغي، بعد أن ظهر الشيخ يماني على قناة الجزيرة. هنا حاول الشيخ يماني وبكل ما أوتي من لباقة أن يزيح عن نفسه الحرج، فلم ينفي صحّة أن اللقاء أُلغي ولكن: (ما أعرف هل ـ الجزيرة كانت ـ السبب ام لا. لقد كان لقاء مع زميلك محمد كريشان، لكني لم أُبلّغ بأن هذا كان السبب. كان هناك اجتماع طبعا وأُلغي، نعم. بس ما أعرف كيف ربطت بين هذا وهذا؟ يعني الإنسان ممكن أن يتكهن، ممكن أن يتوقع.. يعني طبيعة البشر).

كنتُ مختلفاً وصاحب رأي وأنا في الحكومة

سئل الشيخ يماني عمّا إذا كانت انتقاداته زادت بعد أحداث 9/11، بغرض تصحيح صورة الإسلام، وهل: (طُلب منك، من العائلة السعودية، وتحديدا من أحد الأمراء، أن تكتب ما لديك من ملاحظات، يعني لا تقل ذلك على الإعلام.. عبر الإعلام مباشرة، أنه لا تصرح بذلك، اكتب لنا ملاحظاتك وسوف نناقشها، هل صحيح هذا الكلام؟). أيضاً بكثير من الهدوء واللباقة، وبقدر متيقّن من الحريّة، أجاب الشيخ يماني: (كتاباتي عن الإسلام والأفكار الإسلامية أمر أحمله حتى وأنا في داخل الحكومة السعودية ومن أعضائها، يعني ما هو شيء جديد. لكن لا أظن إنهم يعتبرونه انتقاداً، أنا ما أعتبره انتقاداً، إنما هو عبارة عن الرأي الآخر. وهذا شيء لازال مؤتمر الحوار الوطني يدعو إليه. يعني وضعوا الجهات التي لها أفكار مختلفة فيما بينها.. كان هناك جلسات حوار فيها فقيه شيعي، كان فيها فقيه سني من أهالي مكة وهكذا).

وعاد سامي كليب ليسأل: (من يقرأ سيرتك منذ البداية حتى أيام الأمير فيصل الذي أصبح ملكا، كنت تنتقد عبر الإذاعة بعض الممارسات التي تجري؟) فأجاب: (هذا شيء إلى اليوم أستغرب منه بصراحة، كانت عندي في كل يوم جمعة قطعة تسمى فكرة اليوم، وكنت أنتقد بكلام حين أقرأه الآن استغرب كيف سكتوا علي) واستدرك فقال: (لكن كانت الأمور تختلف يا أخي).. وربما يقصد حينها أن الأوضاع السياسية كانت تسمح بالنقد بقدرٍ أكبر من الآن. وأضاف الشيخ يماني: (أنا انتقد المال والثروة والتزمت والتنطع وأنواع من تعدد الزوجات، لزيجة أسبوعين وثلاثة وأشياء كثيرة، حتى جمعت كثيراً من هذه الأفكار في كتاب).

ويبدو هنا أن معد البرنامج أراد الإشارة الى أن الشيخ يماني يحمل حسّاً نقدياً منذ صغره، فقد سأله عن خطاب ألقاه وكان عمره 16 عاماً أدت الى إبقائه في منزله مدّة بدلاً من اعتقاله. يقول الشيخ يماني عن ذلك: (وأنا طالب في المدرسة الثانوية ألقيت خطاباً في الاجتماع السنوي لتحضير البعثات، وحضر نائب نائب جلالة الملك، الذي هو الأمير عبد الله الفيصل. ألقيت خطاباً أنا أستغرب كيف ألقيته، وقد كان مليئاً بالانتقادات غير المألوفة آنذاك. كنت أقول أنه يمكن أن الكلاب أفضل حالاً من البشر اللي يمشوا على..). وعزا يماني ذلك الى كونه شاباً، وهنا اقتنص سامي كليب الأمر، فسأل هل هو نادم على ما قام به، فقال الشيخ يماني: (لا! ما ندمت. قطعاً ما ندمت) وشرح الأمر على النحو التالي: (ذلك لم يكن خطأ. أنا أنظر إلى تصرفاتي على ضوء المكان والزمان والسن الذي تمّت التصرفات بموجبه).

لا يزعجني وصفي بأني (صوفي) والجميع يعاني

هنا رأى سامي كليب الشيخ يماني بأن نقده إنما كان مقبولاً لأن الملك فيصل هو الذي كان يحميه، أما الآن فإنه يعيش وسط الاتهامات التي تساق ضده، تارة على أساس أنه معارض، وأخرى لأنه يزعزع دعائم الفكر الإسلامي في السعودية، وثالثة لأنه صوفي، فهل يزعجه هذا الوصف.. وصفه بالصوفي؟

(لا والله ما يزعجني، يعني أتمنى من الله أني في يوم من الأيام تصفو نفسي وأصل إلى التصوف الحقيقي الذي هو الصفاء النفسي والتقرب إلى الله والزهد في هذه الدنيا). وأضاف: (يقال عني إني صوفي، ومن أغرب ما قيل إني صوفي علماني! ولا أعرف كيف جمع بين هذه وتلك. والصوفية يا سيدي إذا خلت من الخزعبلات هي أرقى مراتب الصفاء النفسي. وأنا ما وصلت إليها، ولا أعتبر نفسي متصوفاً. فيما مضى إذا أرادوا شتيمة إنسان قالوا له: أنت شيوعي، فلما زالت الشيوعية صارت الشتيمة الآن: أنت صوفي. لأهالي مكة يقال إنهم صوفيون، وهم أبعد الناس عن الصوفية كما أعرف، قد يكون هناك قلة قليلة، فأن تكون على مذهب شافعي أو حنفي أو غيرهما لا يعني إنك أصبحت صوفياً). وتابع بأن ليس أهل مكة فحسب هم الذين يعاملون بطريقة مغايرة، وأشار الى ان من هو غير وهابي منبوذ: (إذا أنت عندك فكر معين محدد، فعندئذ أنت من أهل التوحيد ومقبول، لكن إذا ما كنت من أصحاب الفكر الاخر، فأنت منبوذ) وقال انه يعدّ من المنبوذين فكرياً بالنسبة للوهابيين، ولكن دون أن يسميهم.

أدعو الى الإصلاح وحريةالرأي والسفر

في لقاء الجزيرة أيضاً لم يخف الشيخ يماني رؤيته للإصلاح، ولكنه بدا وهو يتحدث عن الحدود الدنيا منه، لم يطالب بدستور جديد، او بانتخابات نيابية، أو بسلطة قضائية مستقلة وغير ذلك.. ربما لأنه يقدّر الحساسية في هذا الموضوع، أو لأنه يدرك بأن ذلك رهين بما يطالب به هو وهو: (أولا حرية الرأي، بمعنى أنه يُسمح للناس أن يبدوا آراءهم طبعا في الحدود المقبولة، هذا مهم جدا.. وكذلك رفع القيود، فهناك أعداد كثيرة من السعوديين المثقفين المحترمين ممنوعين من السفر. أنا أعتقد أن هذا من الأمور التي يجب أن تزول أولاً. السعودي وهو يمشى على الأرض يجب أن يحس بأنه يستنشق الهواء الطلق، وأنه يستطيع أن يتحدث، وإبداء حرية الرأي في الإسلام واجب وليس مجرد حق، وقد يؤدي غيابها إلى تقويض النظام أو إلى شيء من هذا).

وربما كان أمراً مقصوداً، أو غير مقصود، أن سامي كليب حين اشار الى أن الشيخ يماني يتمتع بالحرية إيّاها قولاً وفعلاً، أجاب الشيخ يماني إجابة تحتمل معان مختلفة عن ظاهرها: (الحمد لله! بس على الأقل ربما أنهم دخلوا في داخلي وعرفوا أن ما أقوله ينبثق من إخلاص وليس بغرض تقويض النظام).

اما عن نيّة النظام في الإصلاح، فإن الشيخ يماني قد اعترف بنحو ما أن الملك عبدالله (يريد الإصلاح، ولكن هناك ظروف وقيود ومشاكل، الله يكون في عونه). وقد يفهم من هذا، أن الأكثرية في الحكم لا تريد الإصلاح، وأن الملك ضعيف في مواجهة القوى المعارضة. أيضاً هنا يمكن للمرء أن يلتفت بأن الشيخ يماني لم يثنِ إلا على شخصيتين من آل سعود: الملك فيصل، والملك عبدالله الذي قال أنه يكن احتراماً له، وأنه كانت بينه وبينه علاقات عميقة، و(أعرف أن الرجل يريد الإصلاح).

النفط صار سلاحاً بيد أميركا

في موضوعة النفط لم يستكمل الحديث بشأنها في اللقاء الأول، ولكن ما ذكره الشيخ يماني هو التالي:

* إن النفط لم يعد سلاحاً بيد العرب بقدر ما هو سلاح بيد أميركا. فـ(الدول العربية النفطية لا تستطيع أن تستخدم البترول الآن سلاحا بتخفيض الإنتاج مثلا رغما عن إرادة الولايات المتحدة الأميركية، لأنها هي المتنفذة في هذا الأمر. هذا أمر واضح، وأعتقد أنه أميركا هي التي تقرر، فهي التي فرضت الحصار على العراق، وليبيا، وتفكر في حصار ايران).

* أن العرب ضيّعوا قيمة السلاح النفطي، فقد رضخوا في 1985 لأميركا وخفضوا السعر، وحرب العراق وايران وكذا احتلال الكويت أفقدتا العرب القوة السياسية المهيمنة على البترول).

* إن سعر النفط قد يصل الى 150 دولاراً للبرميل في حال هاجمت اميركا ايران، وأن تذبذب السعر ارتفاعاً يعتمد على طبيعة الردّ الإيراني.

الصفحة السابقة