المدخل الى الدولة.. والوطن

مـسـألة الـولاء

شأن حفنة أفكار ذات بعد أخلاقي وسياسي تكاد تكتسي طابع القداسة في منظومتنا الثقافية والقيمية، فإن الولاء كقيمة مجرّدة تحظى بتبجيل في ثقافتنا الانسانية والدينية، إذ بها وحدها يمكن تحقيق التضامن الداخلي بين المجتمعات، وبدونها يصبح تفسّح الكيان المجتمعي ممكناً.

متى يكون الولاء للدولة وليس للسلطة؟

وقد دخل الولاء في مجالنا القيمي والثقافي منذ تشكّلت الامم على قاعدة حضارية دينية وإنسانية، وتنامت أهميتها حين برزت تهديدات الانتهاك والاختراق، فأصبح للولاء مركزية في وعينا العام كيما تكون ضابطاً لرابطة التوحد وحصناً أمام الانتهاك. وبذلك تحوّل الولاء كمعيارية اخلاقية وقانونية لطبيعة الروابط بين الفئات المنضوية داخل كيانات موحدة على أساس ثقافي وحضاري وأخيراً سياسي.

ولكن عندما تستدرج فكرة سياسية ذات مضمون وجداني وإنساني رفيع الى حقل شديد الارتياب، وتقدّم على اعتبار أنها مكوّن أو شرط جوهري من ذلك الحقل وليست إسقاطاً للفكر على الواقع نصبح أمام عملية جدلية عقيمة، إن لم يكن أمام إكذوبة، وبالتالي فإننا بالضرورة في قبالة مهمة عاجلة من أجل فصل الفكرة النقية عن الواقع بكل ممارسات الابتذال التي تحيق به.

وبصورة عامة، فإن الولاء كمفهوم مجرّد لم يكن متبلوراً في الادبيات الثقافية القديمة، بالرغم من وجود شواهد عديدة في التاريخ العربي القديم على قيمة الولاء في حياة القبيلة، بوصفها الوحدة الاجتماعية التقلدية في تاريخ الاجتماع العربي خلال القرون الوسطى، فكان الولاء ينعقد بين منتمين لوحدة قبلية واحدة، تنشأ على عصبية داخلية بين أفراد ينتمون الى عنصر اجتماعي محدد.

وبعد أن جاء الاسلام برسالة جامعة أريد منها محو الوحدات الصغيرة في الاجتماع الاسلامي الكبير على قاعدة دينية، أخذ الولاء شكلاً متطوراً لينصب في ولاء للدين وللأمة، وبعد الانشعاب الحاصل في المجتمع وبزوغ الطوائف والمذاهب الفقهية والفكرية التي لم تخلُ من عوالق الارث العصباني القبلي، في تعبيراته الصارمة عن الولاء المذهبي والطائفي وفي شكله الراديكالي الفكري وأحياناً المسلّح، والذي يبلغ ذروته أحياناً في مناجزة النظام العام كما جرت في حروب الطوائف أو في ظهور دويلات طائفية داخل الكيان الاسلامي الكبير، أصبح للولاء معنىً لا ديني بل اكتسى رداءً علمانياً وان أبقى أحياناً على زخرفه الديني.

ومع إنهيار الخلافة الاسلامية، وانفجار الفكر القومي الذي نجح في صوغ مشروع الدولة الوطنية التعاقدية، بمكوّنات محددة مرتبطة بإقليم جيوسياسي ثابت، وجماعة متجانسة ثقافياً وحضارياً الى حد ما، ومنظومة تشريعات ضابطة لادارة الدولة، بات الولاء مرتبطاً بكيانات وطنية مستقلة. مع الاشارة هنا الى أن الايديولوجيات الكبرى كالرأسمالية والشيوعية والاشتراكية وكذلك الاديان السماوية: الاسلام والمسيحية بدرجة أساسية بقيت مصادر جاذبة، وكذلك الحال بالنسبة للمذاهب المشتقة من تلك الاديان. وهنا بدأ التشابك في الولاء بين الكيانات الوطنية والايديولوجيات، والذي أنتج معه في فضائنا العربي والاسلامي سؤال الهوية والانتماء وتالياً الولاء.

ولم تكن تطرح مسألة الولاء قبل نشوء الدول القومية، على أساس أن ولاء الافراد والجماعات ارتبط بصورة وثيقة بكيانات مفتوحة جغرافياً وبشرياً، وعلى أساس رسوخ قيم عليا: الدين/الامة التي كانت تحقق فعلها في الحروب والتكافل الاجتماعي، أي بمعنى آخر نشأت في مقابل التهديدات الخارجية والتحديات الداخلية، وتندرج في سياق العملية الوعظية والايمانية للأفراد، أي أن تلك الوظائف ارتبطت بكيانية الأمة بوصفها الاطار النهائي والمقدّس. يضاف الى ذلك، غياب الحاجة الى اختبار ولاء الافراد والجماعات لانعدام مبرره، لأن الولاء كان منصرفاً الى غير جهته التي هي عليه الآن.

وبفعل الاخفاق الشديد في مشروع الدولة الوطنية في المشرق العربي والاسلامي، كان الولاء يرتد الى التشكيلات التقليدية كالقبيلة والمنطقة والمذهب، والسبب في ذلك ببساطة هو غياب كيان وطني جامع. والدليل على ذلك، أن الولاء ظل يثار في سياق علاقة الحاكم بالمحكوم، وليس في علاقة الشعب بالوطن.

لم تختبر حتى الآن مكوّنات الكيانات الجيوسياسية القائمة في مشرقنا العربي والاسلامي، فهناك خلط بائس بين السلطة والدولة والوطن. فهذه الاطارات تتداخل فيما بينها بعمد أو بجهل، وأن ثمة إقحاماً لإطارٍ على حساب إطار آخر، فحين يتحدث البعض عن ولاء للوطن يقصد من وراء ذلك الولاء للسلطة، بما ينطوي على تسويغ لتوجيه تهمة ضعف الروح الوطنية أو العمالة للخارج، بالرغم من أن الولاء للسلطة قد يبطن خيانة للوطن ذاته، خصوصاً حين تكون السلطة عميلة للخارج أو مسلوبة أو منتقصة الشرعية أو تعمل لخدمة مصالح خاصة فئوية.

إذن متى وكيف برزت إشكالية الولاء، والأهم من ذلك كله هو من هي الجهة المقصودة بالولاء؟

حين نقترب من الاجابة عن سؤال الولاء، نواجه ثلاث مستويات معنية بصورة مباشرة بالسؤال المطروح: السلطة السياسية.. الدولة.. الوطن/الأمة. فالسلطة باعتبارها مكوّناً من مكونات الدولة، بل هي الجهاز الاداري للدولة وهي المفرز الطبيعي لتوافق الافراد والجماعات في تلك الدولة، أي بمعنى آخر هي تمظهر لحاصل التعاقد الجماعي، الذي ينتج السلطة، المعبّرة في جوهرها عن إرادة المجتمع، والدولة باعتبارها عاكساً لطبيعة المجتمع وخصوصياته، والوطن بوصفه مرآة لهويته.. وهذه الاطارات الثلاث تمثل سلطة تراتبية موضوعية تتصل بصورة وثيقة بالمخزون الثقافي والحضاري للمجتمع، هذا على المستوى النظري.

على المستوى العملي نلحظ بأن الوطن منبوذ في العقيدتين الدينية والسياسية السعودية ـ الوهابية، وهناك إتفاق شفهي بين رجال الدين وأهل الحكم في السعودية على نبذ مفهوم الوطن، كونه ينطوي، بدرجة أسياسية، على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. في العقيدة الدينية السلفية، يأخذ الوطن معنى لادينياً، حيث تميل المدرسة السلفية الى تحديد إطار ديني للولاء، وقد سئل المفتي السابق الشيخ عبد العزيزبن باز عن الولاء للوطن فأجاب: الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه، أما إن كان وطنه إسلاميا فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه، لكن الولاء لله.. أ.هـ

في العقيدة السياسية السعودية، فإن الوطن يتكافىء مع السلطة التي أنتجته على مقاسها، ولأن الوطن في عقيدة أهل الحكم هو امتياز خاص بآل سعود، فذلك يستبطن رفضاً ضمنياً لمفهوم الوطن الشائع في الدساتير السياسية العالمية. في حقيقة الأمر، تمثل السلطة الحاكمة الطرف الأشد عداوة ونبذاً للوطن، وإن استمرايتها وتماسكها لا تقوم الا على أساس إحباط فرص ولادة الوطن، الذي يشكل ملاذاً جماعياً، تصان فيه الحريات وتكفل فيه الحقوق المشتركة والواجبات المتبادلة. ومن هنا ندرك بأن الولاء المراد تحصيله هو ولاء لسلطة وليس لوطن، بما يفضي الى استتباع واخضاع وليس الى مساواة ومشاركة.

الحياة السياسية، كما يقول ادغار موران، كالحياة العشقية تأخذ معناها في لحظات الشراكة والانصهار والفرح في زمن ومكان محددين، إذ لا معنى لتلك الحياة حين تكون قائمة على الاستبعاد والعزل والاضطهاد، ولا معنى حينها للولاء الذي يجبر الفئات المضطهدة على ولاء الذي يحتكرون الحياة السياسية وينعمون وحدهم بالفرح.

السلطة.. الدولة.. الوطن/الامة

بن باز: الولاء لله دون الوطن

إذا أردنا وعي اشكالية الولاء بصورة دقيقة، يجب علينا أن نستوعب العملية العكسية التي شهدها بناء مشروع الوطن الافتراضي. فبينما تقتضي السيرورة الموضوعية أن تتولى الامة تشييد الدولة وتضطلع الاخيرة بانتاج السلطة، فإن ما جرى في هذا البلد هو أن السلطة أنتجت دولة وفق مكوّنات السلطة وأرادت بنفس المكونات أن تنتج أمة ووطناً.

لقد أفضت هذه العملية العكسية الى اختزال الوطن والدولة في السلطة، فصارت الاخيرة تجسيداً نهائياً ومطلقاً لمفهومي الدولة والامة، ومن هنا برزت أشكالية الولاء، أي ولاء الافراد والجماعات المنضوية داخل حريم الدولة. ومن هنا أيضاً يمكننا إدراك التشويه الخلقي والاخلاقي الذي أصاب الدولة والوطن، لأننا بتنا أمام مخلوقين يفقدان خصائصهما التكوينية ويستعيران خصائص لا تنتمي الى جنسهما، فصار الحديث عن سلطة بحجم دولة ووطن، ولكنها سلطة نمت خارج رحم المجتمع المنتج لدولته وخارج رحم الأمة المنتجة لوطنها.

حين يتحدث البعض عن الولاء للأوطان، فهم يضعون السلطة في مقام الوطن، وبالتالي يصبح الولاء للسلطة الحاكمة مكافئاً للولاء للوطن والدولة بل والتراب، وهنا تقبع الاشكالية العميقة وبالغة الخطورة في تتويج السلطة بما يؤول الى مسخ هوية الدولة والوطن ومصادرة وظائفهما.

إن ما يجعل الولاء قضية جدلية هو إلحاح أهل السلطة على اختزال الدولة والوطن في السلطة، بحيث تحوّل الولاء لها بل للطبقة القابضة على مفاصلها شرطاً نهائياً ووحيداً للولاء للدولة والوطن. فلو أن فرداً عارض السلطة ولكن حبّه لوطنه وتراب بلده لا حدود له، فإنه يصبح وفق مقاييس أهل السلطة عديم الولاء، فبوصلة الولاء لا بد أن تتجه الى الطبقة الحاكمة والا أصبحت خائنة.

في دولة كالسعودية تصبح الثقافة الوطنية بل وفكر الدولة مكبوساً في خطاب السلطة، فليس هناك حدود فاصلة بين السلطة والدولة والوطن، فكلها تصبح في وعي كثيرين بما فيها أهل السلطة ذاتها مترادفات لغوية لمعنى موحد، فيصبح الحاكم دولة ووطناً وأن الولاء للأوطان لا قيمة له مالم يكن متيماً بالولاء له وحده لا شريك له.

في السؤال عن الولاء تكمن أزمة عميقة ترتبط بإخفاق السلطة في بناء مشروع الدولة المعبّر عن وطن لم تحن لحظة ولادته بعد. يجري الحديث عن الولاء في وقت فشلت فيه السلطة عن تحقيق درجة مقبولة من الاندماج الوطني، وفي وقت وجدت فئات اجتماعية عديدة نفسها على هامش الحياة السياسية وخارج المجال الحيوي للدولة والوطن.

وإن ثمة سؤال ملغوم يدور حول الولاء للوطن، ويهدف الى احتكار الوطن من قبل الطبقة الحاكمة، وتحويل الوطن الى حقل امتياز لفئة محدودة، فيما ليس هناك وطن في الاقليم الذي يخضع تحت سلطة آل سعود، كما ليس هناك دولة مكتملة النمو، بل هناك في واقع الأمر، سلطة في شكل دولة. ولذلك، فإن السلطة تصبح واجهة ضخمة لوطن ودولة، وهما كيانانان هلاميان لا تجسيد قانوني ولا اطار دستوري يحيطهما، والأخطر لا ثقافة كافية حولهما.

ينغمس كثيرون في عملية استدراج خادعة في البحث عن إجابة لسؤال الولاء دون تحديد المدخل الصحيح له وللمجال المعرفي الذي ينتمي اليه هذا السؤال. يعثر هؤلاء غالباً على إجابات من سنخ السؤال، حيث يغيب الوطن كإطار قيمي وقانوني وجغرافي يحضن طيفاً متنوعاً من الفئات الاجتماعية، والمدارس الفكرية المتنوعة، والقوى السياسية المتعددة، وتحضر مكانه السلطة لتلبس رداءه، وتختبىء في جوفه، وتسكن فيه بعد أن تسلبه كل مقوماته وخصائصه المستقلة، فتصبح السلطة هي الدولة وهي الوطن وعلى أساسها تختبر الولاءات للدولة وللوطن معاً. فعملية القرصنة التي تقوم بها السلطة تصادر حق التعبير عن الانتماء وتصادر مشروع بناء الدولة الوطنية، وفي حقيقة الأمر أن السلطة تمارس عملية إجهاض مخزية لأية جنين وطني ، كما تمارس السلطة عملية اغتصاب لأية مشروع يهدف الى إعادة تشكيل الكيان الجيوسياسي ليكون متطابقاً مع مواصفات الوطن المنتج لدولة وليس العكس.

لمن الولاء؟ سؤال يبطن استنكاراً ولا يصلح البته مدخلاً لاجابة صحيحة في ظل تشوية لمخلوق الوطن، لأن هناك نيّة مبيتة لتوجيه تهمة الانتماء المزدوج أو العمالة للخارج، لأننا نجنح الى إدراج الولاء في سياق سلطة تفئت على كيانية معدومة أو مشوّهة للدولة والوطن، ولأن الولاء لا يجسّد معناه الحقيقي الا حين يرتبط بوطن، فإن السلطة تفبرك مرجعية تعرض فيها ذاتها على أنها دولة ووطن عبر درجة التغلغل والاكتساح الواسع لمجال المجتمع عبر شبكة من المؤسسات والرجال والنشاطات التي تغطي مساحة الدولة كافة بحيث لا يكون هناك فرد أو جماعة خارج نطاق هيمنة تلك الشبكة.

يتمحور رجال السلطة وحلفاؤها حول كل ماهو فرعي، أي غير وطني، سواء كان منطقة، أو قبيلة، أو مذهباً، ولا يعد ذلك، بحسب هذا الفريق الحاكم، نكوصاً عن الولاء الوطني الجامع، بالرغم من أن هذه السلطة هي المسؤول الأول عن تعميق الولاءات الخاصة والفرعية لدى بقية مكوّنات المجتمع، كما هي مسؤولة عن فشل مشروع الوطن، ولذلك فحين يطرح سؤال ولاء جماعة للوطن يترجرج سياق الاجابة عنه، والسبب في ذلك أنه بدلاً من أن يلمس أزمة الكيان نفسه، والتي تتطلب تعريفه ابتداءً من أجل تحديد سبل التعاطي معه، يتقرر في المقابل تكريس تلك الأزمة بنحل السلطة حلة الدولة والوطن.

متى تمظهر الأزمة ذاتها؟، حين يطرح سؤال جوهري آخر حول هوية الجماعات، أو بالاحرى هوية الكيان الجيوسياسي القائم، فهل هناك هوية وطنية لما يسمى بالدولة السعودية؟ بالطبع كلا، بدليل أن لا أحد يشعر بها، ولا يتقن أحد لغتها، فضلاً عن أن يمتلك المجتمع ثقافة حولها، دع عنك وجود عناصر مشتركة تعبّر عنها كالروح العامة، والرؤية المشتركة، والمصالح العليا التي تجمع بين أفراد يفترض أنهم يحملون هوية وطنية موحدة. والحال، أن ليس هناك هوية وطنية مهما بلغت قدرة الافتعال الدعائي، فمن يعيش داخل حدود الدولة هم أشتات لا هوية وطنية جامعة لهم، وأن تماسكهم يعود الى عوامل أخرى مرتبطة بمكونات خاصة لكل جماعة فرعية سواء على قاعدة مناطقية أو اجتماعية أو مذهبية. ولعل أول اختبار عملي يمكن على أساسه فحص هوية الوطن الجامع هو ارتباط مصير الدولة بمصير السلطة الحاكمة فيها، فلو سقطت الاخيرة ستعود الدولة الى مكوّناتها الاولى، وحينئذ يمكن اكتشاف أن الولاء شرط ضروري لبقاء الوطن ومن ثم الدولة وتالياً السلطة، فالولاء من لوازم الوطن بوصفه اختياراً حراً ووجدانياً لا يمكن انتزاعه بالقوة. أما الحديث عن ولاء لسلطة تتستر برداء الوطن، فإن بذرة الولاء لا تنمو بالغواية، ولا في بيئة فاسدة، ولا يمكن تهجين الولاء عبر تشوية الوطن بسلطة ليست نابعة من إرادة حرة.

صحيح أن مصير الدولة مرهون بالولاء لها، ولكنها الدولة التي خلقت في تربة وطن يملك أهله إرادة تكوينها لا أن تفرض عليهم قسراً، وتصادر حريتهم، وتستبعد من تشاء وتقرّب من تشاء ثم تسأل بعد ذلك عن ضعف أو غياب ولاء قطاع من الشعب، فكيف يراد من هذا القطاع أن يوالي من قمعه واستبعده وحرمه من أبسط حقوقه وحرياته، وفوق ذلك فرض عليه صيغة مشوّهة لوطن ودولة تحمل صفات مناقضة لهما. إن حساب الولاء الوطني يصبح صحيحاً حين يكون مؤسساً على وجود وحدة وطنية جامعة تستوعب الجميع وتكفل لهم حقوقاً مشتركة وواجبات متبادلة..في غير هذه الحال، فإن رد الفعل الطبيعي، كما هو الأمر عليه في ديارنا، هو وقوع قطيعة بين الدولة وجزء كبير من رعاياها، وتفجّر الانتماءات الخاصة، وتمحورات فرعية ثقافية واجتماعية وسياسية.

تجدر الاشارة الى أن أحد أخطر تفسيرات الولاء هو من يحسبه استلاباً واستتباعاً دون وضعه في سياقه الأشمل، تماماً كما هو متطلب التنازل في العقد الاجتماعي الكفيل بتأسيس الدولة. يصبح الولاء للوطن انتقاصاً من حرية الفرد واستلاباً له وتنازلاً لجزء هام من سيادته حين يكون الولاء مطلوباً لذاته. والصحيح أن الولاء مسؤولية وثمن مطلوب من الافراد الذي جنوا حقوقاً متكافئة مع غيرهم فقبلوا بملء إرادتهم أن يوالوا وطناً بكل متوالياته، فإذا ما تشكّلت سلطة منتخبة منهم يصبح الولاء لها امتثالاً للولاء للوطن، لأنها سلطة نابعة منهم، وتعبيراً عن إراداتهم، تماماً كما أن شرط التنازل في العقد الاجتماعي يقتضي تنازلاً من الجميع من أجل بناء دولة تعاقدية تنتج حكومة تمثيلية.

يصبح الأمر معكوساً حين تنتهك سيادة الوطن، وحين لا يكون الوطن إطاراً للجميع، وحين لا تمثّل الحكومة إرادة الجميع، فيصبح الحديث حينئذ عن ولاء لجماعة أو منطقة أو طائفة، أو لسلطة حاكمة غير وطنية، حيث تغدو متكافئة مع الكيانات الفرعية، التي تمثّل مضادات للمكوّن الوطني اذا ما تحوّلت الى كيانات نهائية.

لا يمكن الحديث عن ولاء لأوطان في ظل عقم مشروع الاندماج الوطني، وليس بولاء ذلك المرتبط بالسلطة، لأنها تحيله الى مجرد مصلحة مؤقتة، والولاء الحقيقي هو لوطن يتقاسم فيه جميع أفراده لقمة الخبز، وعناء البناء، ومشقة الدفاع عنه، وحق العيش المشترك، وتقاسم الثروة والسلطة فيه.

إن الانتماءات الدينية والمذهبية ليست متناقضة مع الانتماء للأوطان، ولا تحمل خطراً على سيادة الوطن وخصوصياته، بل على العكس فإن تلك الانتماءات قابلة للتثمير في بناء أوطان صلبة وراسخة الجذور، وأن الخطأ يكمن في توظيف السلطة لانتمائها المذهبي والمناطقي في تأسيس وطن وهمي ليس صالحاً للاعتناق من جميع السكان ولا يسمح بالدخول اليه الا لمن يعتنق مذهب السلطة.

الصفحة السابقة