حتى لا تكون (الداخلية) وصيّاً عليها

استقلالية الجمعيات الأهليّة أولاً

هناك تجاذب شديد بين الحكومة والناس منذ مايربو عن العام، وتحديداً مع اختطاف العائلة المالكة المشروع الاصلاحي وتحويله الى مخلوق غريب يراد تقديمه على أنه منجز متميز للعائلة المالكة. مؤسسات المجتمع المدني ظلت ساحة نشطة لتجاذب السلطة والمجتمع، حيث تحاول العائلة المالكة تقديم رزمة مؤسسات مشوّهة تسبغ عليها صفة الاهلية ولكنها مشدودة في البدء والخاتمة بمؤسسها وراعيها الحكومي. في المقابل، يصرّ المجتمع على صنع مؤسسات مستقلة تتناسب وحاجاته وتعبّر عن تطلعاته، وتعكس توجهاته، وهو ما لم يرق لأهل الحكم الذين راعهم انتشار ظاهرة (الديوانيات) كأحد أشكال التعبير المجتمعي المستقل، وغيرها من التشكيلات الاهلية في طورها الابتدائي كالمنتديات، والندوات، والمراكز الثقافية والحقوقية والجميعات النسائية والادبية.

هذا الانتشار الواسع للعمل الجمعي الذي بدأ يصبغ نشاط المجتمع خارج إطار سيطرة السلطة يعكس عجز الاخيرة عن وضع تشريعات قانونية تضبط عمل المؤسسات الاهلية، خصوصاً بعد أن فشلت بعض اللجان الحقوقية والنقابية الرسمية في استيعاب المجتمع ممثلاً في قواه الاجتماعية والسياسية والحقوقية.

قبل نحو سبعة شهور، تسرّب، عن عمد على ما يبدو، مشروع قرار سابق بخصوص الجمعيات الاهلية والمؤسسات الخيرية ونشرته جريدة (الجزيرة) بتاريخ 25/3/1427هـ، وقد جرى تداوله وسط مجموعة من الحقوقيين والمثقفين والكتاب والمحامين المستقلين، وأشبعوه نقداً وتشريحاً وتحليلاً، واتفقت المجموعة على أن محتويات المشروع لا تعكس بأي حال التزام الحكومة بمبادىء وأنظمة مؤسسات المجتمع المدني المتعارف عليها عالمياً، كما اتفقت المجموعة على أن المشروع المقترح بائس وغير مشجّع لأن يكون أساساً لتشكيل المؤسسات الاهلية.

في رد فعل على المشروع المقترح، وجّه عدد من الحقوقيين والاصلاحيين مشاريع مقترحة حول المؤسسات الاهلية، ورفعوها الى لجنة المشروع ولأعضاء مجلس الشورى من أجل التصويت عليها داخل المجلس، وقد تم بالفعل التصويت بالأغلبية على ضرورة إعادة صياغة مشروع الجمعيات الاهلية.

منذ ما يقرب من الشهرين تعكف لجنة جديدة مؤلفة من أعضاء في مجلس الشورى لوضع مسودة مقترح جديد، يرأس هذه اللجنة الدكتور عبد الرحمن السويلم، وعضوية كل من الدكاترة: خليل المعيقل، خالد السيف، عبد الرحمن البراك، عبد الجليل السيف، عبد الله أبو ملحة، خالد العواد، محمد الادريسي، وعبد العزيز العتيبي. ويفترض أن تنتهي اللجنة من وضع المسودة في شهر شوال.

يخشى كثيرون بأن تأتي المسودة دون مستوى التطلعات الشعبية، حيث يأمل القطاع الأكبر من السكان في تدشين أساس الدولة المدنية التي تتحقق فيها مبدأ المواطنة بما تقتضي من حقوق متساوية وواجبات متبادلة، ويضطلع فيها المواطنون بدور إيجابي وفاعل في عملية صناعة القرار، وتمكين المجتمع من القيام بمهامه في ترشيد إدارة الدولة، وإرساء قواعد المسائلة، والشفافية، وتطبيق القانون.

وقد انبرى عدد من الحقوقيين والاصلاحيين بتقديم وجهات نظر حول المشروع الجديد من أجل رفد اللجنة بطائفة من الآراء ووجهات النظر التي قد تعين اللجنة على الأخذ بها إبان إعداد مسودة المشروع. يأمل عدد كبير من الاصلاحيين أن تطلع اللجنة على النداءات والمقالات والأفكار التي تطرح عبر وسائل الاعلام، من أجل وضع مشروع يرتقي الى مستوى التطلع العام في المجتمع ويتناسب وحاجات المرحلة كيما يكتسب مصداقية عملية، حتى لا يلقى نفس المصير الذي لقيه المشروع السابق.

وقد استضافت اللجنة المسؤولة عن إعداد مسودة المشروع عدداً من النساء والرجال في نهاية شهر شعبان الماضي، وكانت من بين النساء الدكتور هتون الفاسي التي دوّنت ملاحظاتها في مقالة نشرتها في (الاقتصادية في 3 رمضان 1427هـ)، إيماناً منها بضرورة تعميم ملاحظاتها على صفحات الجرائد لاعطاء فرصة (لإشراك أكبر عدد من الناس في تداول هذه النقاط قبل إقرارها في شوال) حسب الدكتورة الفاسي. وقد ألمحت الى بعض الاختلافات السائدة داخل اللجنة، بدءاً من الاسم حيث يميل أغلبية اعضاء اللجنة الى تسميتها بـ (نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية أو الخيرية أو الإنسانية أو النفع العام)، وقد فضّلت الدكتورة الفاسي على تسمية النظام بـ (نظام مؤسسات المجتمع المدني) على قاعدة تباين مفهومي. حيث ينظر الى المجتمع المدني بكونه إسماً وليس وصفاً، ويعرّف على أنه الوسيط بين الدولة والفرد، ويضطلع بدور مساندة الدولة وإتمام الوظائف التي تقصر يد الدولة عن القيام بها باعتبار مؤسسات المجتمع المدني رافعة أساسية في التنمية الاجتماعية.

تلفت الدكتور الفاسي الى فلسفة المجتمع المدني باعتبارها مشتملة على (قيم سلوكية تنطوي على قبول الاختلاف وحق الآخرين في تكوين منظمات أو مؤسسات تحقق مصالحهم المادية والمعنوية وتحميها وتدافع عنها. والالتزام في إدارة الخلاف بالوسائل السلمية المتحضرة). وتتمثل هذه القيم في (الاحترام والتسامح والتكافل والتنافس الشريف والصراع السلمي).

ما يأمل الحقوقيون والاصلاحيون توافره في نظام الجمعيات الأهلية هو حماية المجتمع عبر قوانين تحد من تجاوزات الدولة وهيمنتها على مؤسسات المجتمع، التي يراد منها أن تمهّد مناخاً مؤاتياً لصياغة المجتمع السياسي، وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين على أساس المساواة والتكافؤ والمشاركة المتعادلة في صنع القرار دون افتئات على دور الدولة الأساسي في التنمية والتخطيط.

في مقابل ذلك، هناك نزعة ضارية لدى الحكومة من أجل إسباغ لونها وتوجهها على مؤسسات المجتمع المدني كالاتحادات المهنية، والنقابات العمالية، والمنظمات الحقوقية، والنوادي الأدبية والثقافية والاجتماعية، والجميعات الخيرية والدينية والتعليمية، بما يحرمها من استقلالها المالي والاداري والتنظيمي كشروط ضرورية لتجسيد معنى التحرر من هيمنة الدولة وتمثيل المجتمع تمثيلاً حقيقياً ومستقلاً.

لعل واحدة من النقاط المثيرة للسخط والاستفزاز، وهي تعكس نزعة احتكار السلطة لدى العائلة المالكة ما ورد في مسودة النظام الخاص بالجمعيات الاهلية هي دعوة (الهيئة الوطنية للجميعات والمؤسسات الأهلية) لتكون هيئة حكومية برئاسة ولي العهد ومجلس مكوّن من عدد من الوزراء، والأنكى في هذه المسودة أنها تدعو الى تخويل الهيئة هذه صلاحيات مطلقة وهائلة والتي من شأنها ليس تشويه الجمعيات الاهلية فحسب بل إلغاء وظيفتها وصفتها الاهلية المستقلة عن هيمنة الدولة، بل تلغي أصل نشأة المجتمع المدني باعتباره وسيطاً كيميائياً مستقلاً عن الدولة، نشأ لتخفيف غلوائها وجبروتها.

ولادراك الحقوقيين والاصلاحيين في المملكة بأن لدى العائلة المالكة جنوح عارم نحو مصادرة السلطة واحتكارها بصورة تامة، من هنا تلّح الدكتورة الفاسي على ضرورة استبعاد الخيار الحكومي بصورة كاملة في مجال ترخيص المؤسسات الاهلية (إن كنا نسعى إلى تكوين جمعيات مستقلة من جانب، ولكي نرفع جزءا من العبء الملقى على الحكومة وأجهزتها من جانب آخر) حسب الفاسي.

حين الحديث عن مؤسسات أهلية مستقلة عن الدولة، تبرز قضية التمويل بما تنطوي عليه من ملابسات وهواجس وشكوك، فضلاً عن كونها قابلة للاستعمال كتهمة ضد العاملين في المؤسسات الاهلية لتشويه سمعتهم أو حتى اعتقالهم بتهمة التعامل مع جهات أجنبية. تدرك العائلة المالكة حساسية الموضوع، ليس من منطلق نزيه، ولكن من خلفية دراية بتأثيرات المال في سياسات وتوجهات وقرارات الجمعيات بل والحكومات. ففي الوقت الذي تقوم العائلة المالكة بدعم مالي سخي لكثير من المنظمات خارج البلاد (أنظر جانباً من هذه التبرعات في هذا العدد)، لا تسمح لدول أخرى بالقيام بالدور نفسه مع منظمات محلية. تعلّق الدكتورة الفاسي على هذه الازدواجية بالقول (في هذا تناقض غير مقبول من جهة، ومن جهة أخرى يكرس مفهوم الدولة النفطية المانحة فحسب). وترى الفاسي بأن (يفتح باب الاستعانة بالمنح والمساعدات التي تقدمها الكثير من المنظمات في العالم من شرقه إلى غربه) ولكن بشروط معقولة مثل الرجوع الى السفارات السعودية في الخارج لطلب الاستشارة بخصوص المنظمات المانحة والاطلاع على نشاطاتها وخلفياتها الايديولوجية ومصادر تمويلها. وتشدد الفاسي في موضوع التمويل ألا يكون هناك تمويل حكومي داخلي أو خارجي يهدد استقلالية الجمعيات الاهلية.

ولخّصت الفاسي أهم النقاط التي تأمل أخذها بنظر الاعتبار من قبل اللجنة المكلّفة بصياغة النظام الخاص بالمؤسسات الاهلية، ومنها:

1. ضرورة ضمان حرية الجمعيات الأهلية في ممارسة نشاطها دون تدخل من الحكومة أو جهة الإشراف.

2. الابتعاد عن الوصاية من جانب جهة الإشراف وتخليص الجمعيات من منطق الإذن المسبق في عمل أنشطتها، وأن يقتصر دور جهة الإشراف على تنظيم تأسيس الجمعيات وإعداد تشريعاتها والشروط اللازمة لذلك.

3. أن تكون الجمعية العمومية صاحبة السلطة الوحيدة لمساءلة مجلس الإدارة، انتخابه، مراجعة حساباته، ونشاطاته، وحله.

4. إعطاء الجمعيات والأفراد حرية الترشيح لمجالس إدارة الجمعيات والمؤسسات الأهلية دون تدخل من جهة الإشراف أو التدخل في قائمة الأسماء.

5. اختصاص القضاء الإداري دون غيره بجميع المنازعات التي تنشأ عن تطبيق هذا النظام .

6. حظر حل الجمعيات والمؤسسات الأهلية أو إيقاف نشاطها إلا بحكم بات استنفد جميع طرق الطعن عليه.

7. حرية الجمعيات الأهلية في تلقي التمويل اللازم لأنشطتها من مختلف الجهات غير الحكومية مع ضرورة الإعلان عن مصادر هذا التمويل وأوجه إنفاقه.

من جانبها كتبت د. أميرة كشغري في (الوطن) بتاريخ 11/9/1427هـ عن الملامح الأساسية لنظام المجتمع المدني في المملكة. وكانت كشغري من بين من طلبت اللجنة رأيهن بخصوص نظام الجمعيات الاهلية. وتطالب كشغري بألا تستغرق المناقشات فترة طويلة غير معقولة من أجل وضع نظام المجتمع المدني على أساس أن التجربة وحدها الكفيلة بتعديل وتطوير هذا النظام، وهي ـ أي التجربة وحدها التي يمكن اختبار صدقية وقوة النظام، حيث تقترح كشغري بأن تتم مراجعة النظام في مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد عن 5 سنوات، على أن تتمخض عن هذه المراجعة النسخة النهائية للنظام.

تؤكد كشغري على ضرورة تطابق النظام أو على الأقل مراعاته للمعايير الدولية، كيما يفيد من تجارب الامم في قيام المجتمع المدني وجمعياته في بلادنا، وحتى تقوم بمهامها على أكمل وجه على أسس ومبادىء المواطنة والمشاركة واتخاذ القرار وحماية الحقوق. وقد لفت الدكتور عبد الرحمن الحبيب في مقال له بعنوان (تعزيز بوادر المجتمع المدني) الى هذه النقطة الجوهرية في الجمعيات الاهلية مؤكّداً على أنه (ينبغي أن يكون المعيار الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني هو فعالية أدائها الوظيفي ومجال صلاحياتها وسقف الحريات المتاحة لها وليس مجرد إقرارها أو إنشائها).

يذكّر الحبيب بدور الهيئة المسؤولة عن الجمعيات الأهلية بخصوص الرقابة والتفتيش، وألا يؤدي هذا الدور الرقابي الى سلب المؤسسات الاهلية استقلالها مثل التدخل في أسماء المرشحين في انتخابات مجالس إدارة الجمعيات، أو إلغاء نتائج الانتخابات وتعيين مجالس مؤقته أو الاعتراض على قرارات المجالس أو التدخل في تفاصيل محاضر اجتماع كل جلسة من جلسات مجلس الادارة، ولا حتى الاشراف على دفاتر وسجلات ووثائق الجمعيات.

وكما يبدو من خلاصة التعليقات أن اتفاقاً ضمنياً بين الحقوقيين والاصلاحيين على تحييد دور وزارة الداخلية وفروعها من التدخل في المؤسسات الاهلية، لأن هذه الوزارة هي المسؤولة عن سلب استقلالية الجمعيات الاهلية، تماماً كما تفعل مع جمعية حقوق الانسان وجمعية الصحافة، وكما تصرّفت أيضاً مع عدد من رموز التيار الاصلاحي الذين كانوا بصدد إنشاء جمعية حقوقية مستقلة، فكان ذلك سبباً لاعتقالهم وحرمانهم من السفر وحرية التعبير.

الصفحة السابقة