حرب المحاور بقيادة أميركية

(العبقرية) السعودية تخسر المعركة إن لم تحوّلها الى حربٍ طائفية

تقلصت مساحة المناورة المتاحة للدول الصديقة للولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بسياساتها الإقليمية. فيما مضى، كان من المهم بالنسبة للولايات المتحدة، أن يكون حلفاؤها في الشرق الأوسط (السعودية ومصر والأردن) ملتصقين ببنود السياسة الأميركية العامّة، مع هامش متاح للإختلاف حول بعض القضايا التفصيلية فيما يتعلق بفلسطين والسلام مع إسرائيل. لكن السنوات الأخيرة، سنوات ما بعد 9/11، فقدت الدول العربية الحليفة معظم هامش المناورة، فاضحت ليست تابعة لمشروع أميركي هي في الأصل لم تبتعد عنه، بل صارت مطالبة بأن تلتقي به في الخطوط العامّة كما في التفاصيل.

وما جعل الدول العربية الحليفة لواشنطن أقل استقلالاً اليوم منه في الأمس، هو أن ساحة المعركة الخارجية للولايات المتحدة تقع في صميم الشرق الأوسط العربي والمسلم، والعدو المراد مواجهته هو عدو إقليمي، والأيديولوجيا المراد محاربتها هي صناعة محليّة.. هذا لم يكن كذلك في العقود الماضية حين كانت الشيوعية المحور المشترك في العداء والمواجهة للدول (المعتدلة) وأمريكا. لم يعد الخطر (دولياً) آتياً من خارج منظومة الشرق الأوسط يريد التسلل للمياة الدافئة في الخليج، ولم تعد الشيوعية هي الخطر، بل (الإسلام) أو بالتخفيف هي قوى الممانعة التي يضمها عنوانان: مواجهة الدول المارقة، ومواجهة الإرهاب (الإسلامي بالتحديد).

ان التحول في أولويات السياسة الأميركية من جهة تشخيص العدو الجيوسياسي ـ الأيديولوجي الى الشرق الأوسط، وضع السعودية ومصر على وجه الخصوص في حرج بالغ، كونها مطالبة الآن بمكافحة عدو إقليمي قريب، ومواجهة أيديولوجيا سياسية إقليمية هي غير قادرة بشكل واضح على تبريرها، بذات القدر الذي كانت تبرر فيه مكافحة (الشيوعية). وزيادة على ذلك، فإن الإدارة الأميركية اليوم لا تقبل بأقلّ من الإنحياز الكامل لرؤاها ومشاريعها الإقليمية الكبرى على قاعدة: معنا بالكامل، أو ضدنا بالكامل.

اميركا وحلف المعتدلين

مكافحة الإرهاب

المطلوب من السعودية مكافحة كل الحركات الإسلامية التي كانت أثيرة لديها حتى التسيعينيات الميلادية من القرن الفائت، حتى تلك التي لم تستخدم ولا تؤمن بالعنف الأعمى، والتي كانت تتلقى المساعدات المالية والهبات الكثيرة من السعودية واجهزة استخباراتها ومؤسستها الدينية. المطلوب هنا، إحداث إنقلاب في السياسة الخارجية السعودية، بحيث تصبح خلال وقت قصير ـ وقد تكون وصلت بالفعل ـ الى مصدر العداء والمواجهة لما تسميه واشنطن بالتطرف الإسلامي، ليس على صعيد الدولة السعودية نفسها، وإنما على صعيد العالم الإسلامي بل العالم كافة. والسعودية التي اعتادت استخدام الإسلام كأحد أركان سياستها الخارجية، مطالبة اليوم بأن تصيغ سياستها الخارجية من جديد وفق أجندة مختلفة، لا تجد مبرراً كافياً للإنقلاب على ماضيها بحذافيره، ولا يقبل منها جمهورها المحلي ذلك. فضلاً عن أن تعطيل العامل الديني في السياسة الخارجية السعودية، وهو أمرٌ لم تجربه السعودية من قبل، سيحرمها من أهم أدوات التأثير في المحيط الإقليمي، وسيعطّل ما تعتقد أنه هبة من السماء، تلك المتعلقة بوجود الحرمين الشريفين وما يمكن أن يشكلا من فرصة لتحسين وجه النظام في المملكة، وأداة دعائية جيدة لسياساته، وأحياناً غطاءً مثالياً لعيوبه ومثالبه.

إن الإنقلاب الذي نشهده بتسارع شديد منذ 9/11، والذي بدأ في الحقيقة منذ التسعينيات الميلادية من القرن الفائت، وبالخصوص بعيد اجتياح الكويت من قبل قوات صدام حسين، هذا الإنقلاب يرتّب مضاعفات أكبر، لا تضعف الدور السعودي الإقليمي، ولا تنتقص من شرعيته الدينية المحلية، ولا تفقد النظام أحد أهم الأدوات في النفوذ والتوسع الخارجي فحسب.. بل أن ذلك سيؤدي الى تقوية من تعتقد واشنطن ـ وبالضرورة الرياض والقاهرة ـ أنهم قوى التطرف والإرهاب والممانعة.

ما حدث وسيحدث بصورة أوضح في المستقبل هو التالي: إن السلاح الذي ستسقطه السعودية من يدها، ولو كان بشكل غير كامل، سيلتقطه المحور المنافس، سمّه ما تشاء، هلالاً شيعياً، أم هلالاً سياسياً، أم محوراً إيرانياً ـ سورياً متعاضداً مع حزب الله وحركة حماس. الأمر الذي سيزيد من رصيد هذا المحور شعبياً، وسيقوّي تأثيره لدى التوجهات الإسلامية الناهضة في كل أقطار العالم الإسلامي، وسيؤدي ذلك الى عزلة السعودية بدل عزلة غرمائها، خاصة وأن كل ما يمتّ الى أميركا وحلفائها من أنظمة وسياسات منبوذ لدى الغالبية الشعبية الساحقة في العالم العربي.

قد تتفتّق (العبقرية السعودية) عن حلّ لهذا المعضل الجلل.

على الصعيد المحلي، تبدو السعودية قادرة ـ جزئياً ـ على موازنة متطلبات تحالفها مع أميركا في مكافحة الإرهاب (الإسلامي) مع متطلبات شرعية النظام والحفاظ على قاعدته السلفية/ الوهابية. فقد قدّمت (القاعدة) بأعمالها العنفية داخل السعودية نفسها مخرجاً مريحاً لنظام الحكم السعودي، للفرار من الإصلاحات السياسية باعتبارها مسألة لا تحظى بأولوية، ولتبرير التحالف مع واشنطن على قاعدة مواجهة العنف، ولتعديل بعض السياسات التجميلية فيما يتعلق بنهج الدولة الأيديولوجي الداخلي، وهو تعديل لا يرضي القاعدة الإجتماعية والدينية لنظام الحكم، ولكن الأمر قُبل على مضض، بحجة الخوف من الأسوأ القادم من واشنطن، أو بحجة الحرص على الأمن. وحتى الآن استطاع النظام أن يعوّض تلك التعديلات بتقديم امتيازات أخرى باليد اليسرى للساخطين السلفيين، الأمر الذي جعلهم أكثر استكانة، وأقلّ ميلاً للمشاغبة.

حلف المعتدلين الأميركي

لكن هذا لا يحلّ المشكل في أصله. فالموضوع لا يُنظر اليه من زاويته المحليّة فحسب، فعيون السعوديين جميعاً ترقب سياسات النظام ومواقفه الخارجية، وهي مواقف صادمة، كمساهمته في محاصرة الشعب الفلسطيني بحجة محاصرة حماس، ودعم الحرب الإسرائيلية على حزب الله، وقبلها المساعدة السعودية للحرب الإميركية على أفغانستان والعراق. وتزداد الصورة سوداوية كون التيار السلفي الداعم لنظام الحكم يتعرض لنقد قاسٍ خارج المملكة، وحتى من بين القواعد المؤيدة له في بعض الأقطار العربية، ولا يسع قادة التيار في الداخل من مشايخ وغيرهم، تبرير وإقناع الآخرين بصوابية السياسة السعودية، الأمر الذي قد يؤدي الى هبوط رصيد التيار السلفي بنسخته السعودية بشكل عام، وقد يؤدي الى الفصل أكثر بين (تيار السلطان) وتيار (القاعدة) بما يزيد من رصيد الأخير حتى داخل السعودية نفسها، وهناك مؤشرات الى أن هذا هو ما يحدث بالفعل.

الخطوة (العبقرية) الأخرى التي لم تحسمها السعودية بعد، هو استخراج سهم الطائفية من كنانتها، فبدل أن تكون المواجهة بين قوى معتدلة موالية لواشنطن مكروهة ولا شعبية لها، وبين قوى أخرى سِمَتُها (المقاومة) للمشروع الأميركي تكسب التعاطف الجماهيري، يمكن تحويل المعركة الى عناوين أخرى: بين الشيعة والسنّة. فهذا العنوان ـ رغم خطورته ـ يجهض الإصطفاف الشيعي ـ السنّي على أرضية المقاومة للمشروع الأميركي الإسرائيلي، ويجعل من جبهة حلفاء واشنطن محصنّين من الداخل طائفياً وهم يتقدمون في مشروعهم السياسي.

بدا عشية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أن السعودية بصدد تبنّي هذا المشروع، فطفا على السطح وبكل وضوح ملامح الخطاب الطائفي الذي كان سائداً ابان الحرب العراقية الإيرانية، وانخرط الكثير من الكتاب في التحشيد الطائفي لتبرير موقف السعودية من حزب الله (المغامر). ولكن لسبب ما (قد يكون النكسة السياسية المباشرة لذلك الموقف، أو لعجز ذلك الخطاب في تلك اللحظات التاريخية في استقطاب الدعم العربي الشعبي، أو لإدراك الحكومة بأن استخدام التحريض الطائفي ليس فقط لن ينجح بالقدر الذي نجح فيه أثناء الحرب العراقية الإيرانية، بل قد يؤدي الى تداعيات خطيرة محليّة) أعادت السعودية تقييم ذلك الخطاب، وحتى الآن لم تتخلّ عنه وإن كان قد خفضت من سقفه.

ربما يواجه حلفاء واشنطن (المعتدلون) مشكلة في (إعادة تعريف) المحور الذي يستهدفونه بالمواجهة. فلا هو في جوهره محوراً شيعياً، ولا هو في جوهره محوراً إيرانياً فارسياً صفوياً، ولا هو محورٌ يمكن ربطه بقوى كبرى مقابلة لواشنطن: روسيّة أو صينيّة.

إذن ما هو هذا المحور؟ إنه محورٌ سياسي بامتياز. ولكن السعودية وحليفاتها العربيات (مصر والأردن) عاجزون عن مواجهته في المنافسة على الأرض، ولا يريدون أن تبدو المواجهة أو المنافسة على اساس اختلاف سياسي في الرؤية والمصالح والتحالفات، لأن معسكر (المعتدلين) يعلمون أن مشروعهم ومصالحهم وتحالفاتهم لا تستطيع أن تجذب اليها الشارع العربي المنحاز بقدر كبير للخصم. مشروع الإعتدال مرتبط بواشنطن، وهذا أهم نقاط ضعفه، فضلاً عن ضعف منطقه، وانكشاف صدقيته على مدى عقود من الزمن.

إذن.. لا بد من استدعاء عناصر أخرى تجبر ضعف معسكر (الإعتدال). هنا يأتي تضخيم النفوذ والخطر الفارسي على حساب الخطر الأميركي والصهيوني الآنيّ الذي يشغل بال الأمّة. وهنا يأتي (استدعاء) السلاح الطائفي من أجل استنهاض العامّة الى جانب الحلف الأميركي المعتدل. وبدون هذين السلاحين، تبدو معركة المحاور محسومة النتائج على الأرض وفي قلوب ملايين العرب.

الصفحة السابقة