إشـتراطـات سـيادة الـدولـة

السيادة، في التعريف السياسي، هي السلطة التي تتمتع باختصاصات الحكم العليا، فتعطي لشخص أو مجموعة أشخاص سلطة إتخاذ القرارات وفض المنازعات داخل الدوائر السياسية، وتشترك السيادة، بحسب التعريف السياسي، القدرة على اتخاذ القرارات بصورة مستقلة عن قوى خارجية أو سيطرة قصوى على الفئات الداخلية. ومن أولى خصائص السيادة هي موقعها، كونها الأعلى في التسلسل السياسي القانوني، والثانية: الترتيب فهي سلطة القرار النهائية أو العليا في السلّم السياسي ـ القانوني، والثالثة هي التأثير في مجرى الأحداث العامة، والرابعة: الاستقلال عن أي مصادر تأثير داخلية أو خارجية.

ولكن هذه السيادة بوصفها حاصل مجموع مصادر السلطة في المجتمع، لا تصبح قانونية ما لم تكن نابعة من إرادة الشعب أو بالمعنى الدستوري الناخبين، الذين يؤلفون قاعدة التسلسل السياسي، بحيث تتجه السيادة من أدنى الى أعلى بحسب الطريقة التي تشكلّت فيها السيادة. ولا تقوم السيادة بحسب النهج السائد في الديمقراطيات الحديثة على علاقة الأمر والطاعة حصراً، ولكن جعلت السيادة مشروطة بنظام ديمقراطي، كونه يشتمل على توزيع للسلطة، وسلطة القانون.

من هذه المقدمة يمكن الدخول الى موضوعة سيادة الدولة من بوابتها الثقافية والسياسية، من أجل الالمام بأطراف مشكلة جوهرية مازلنا نشهد آثارها الخطيرة على الروابط الداخلية بين المجتمع والدولة، وخصوصاً مع تزايد حدة الاستقطاب السياسي الداخلي في عدد من الدول الشرق أوسطية.

كبداية نقول، ينشق عن وعي الدولة مدخلان: وطن وسلطة، حيث يبدأ الافتراق في تسوية أزمة الدولة من منظورين متنافرين. وهذا التنافر يعبّر عن أزمة تكوين الدولة المشرقية عموماً، التي شهدت تشويهاً خلقياً منذ نشأتها الاولى، حيث كان مشروع الدولة الوطنية ينبني على قاعدة سلطانية تستمد عناصرها من التراث الاستبدادي الشرقي.

يلزم التذكير ابتداءً، أن الاوضاع السياسية الاقليمية والدولية لم تتح فرصة كافية لشعوب الشرق لتنشئة ثقافة سياسية حديثة كفيلة بإنتاج وتطوير نموذج دولة وطنية ذات صفة تمثيلية وبطابع سواسي واضح، كما فشلت الانظمة السياسية المشرقية التي خلفت عهد الاستعمار الغربي في إدارة عملية الانتقال الى الدولة الوطنية، بل على الضد ساهمت في تكريس النموذج السلطاني الشرقي، حيث اقتفى أهل الحكم اللاحقين آثار السلف، الذين مارسوا تأثيراً أخّاذاً، فتحوّلت الدول المشرقية الى مملوكيات.

تعين هذه المقدّمة المكثّفة على فتح المناظرة المتصاعدة حول سيادة الدولة، التي جذبت قدراً مبالغاً من الاهتمام الاقليمي والدولي، في ضوء التجاذب السياسي الحاصل في لبنان عقب العدوان الاسرائيلي وانتصار المقاومة اللبنانية. تجدر الاشارة هنا إلى أن مناظرة الدولة تعبر حدود لبنان لتستوعب المشرق العربي برمته، حيث مازالت مسألة الدولة خاضعة للفحص البحثي، وستبقى كذلك طالما بقيت حالة التنافر بين الدولة والمجتمع. فهناك من يشأ تشكيل دولة تكون شفيعاً لسلطة مركزية وبين من يريدها معيناً على استدراك وتصحيح الخطأ التاريخي، متمثلاً في إقامة سلطة مستبدة تكفّلت، عبر أدوات قاهرة، بإقامة الدولة والوطن، فجاء جنين الوطن حاملاً معه السمات الوراثية للسلطة التي أنشأته، وليس نابعاً عن إرادة المجتمع بكافة أطيافه، المسؤولة حكماً عن تخليق الوطن.

ما ذلك الوطن إن لم يكن المجتمع ذاته، وما ذلك التضامن الذي سيغدو المصدر الرئيسي لاستقرار واستمرار الدولة إن لم يكن قائماً على المشاركة الجماعية، والتمثيل المتكافىء في السلطة. وإذ لا يمكن لروح الوطن أن تجد ذاتها إلا حين تسري في ألياف الوعي المجتمعي، فإن الدولة كتمظهر أمة تصبح تجسيداً لارادة جماعية وتمثيلاً مشتركاً. ثمة خطأ فادح في تصوير الدولة كأداة إلغاء بإسم تحقيق السيادة، إذ تصبح الأخيرة مجرد تغليف لنيّة إحتكار السلطة. فالسيادة تحقق ذاتها عبر بسط سلطة المجتمع الممثّل في دولة، وأن الأخيرة تصبح التعبير القانوني عنه، أي كونها ناظماً لسلطة المجتمع وليست مهيمناً عليه.

إن تضخّم رقعة هيمنة الدولة لا يمنحها مشروعية ولا يحقق لها سيادة، بل قد تصبح في حال انفكاكها عن المجتمع مجرد أداة سلطوية، سيما حين تختّل عملية التمثيل السياسي لفئات المجتمع كافة في الجهاز الاداري للدولة. لقد أريد للدولة أن تتخفف من أعبائها في ظل إمكانية إنتاج المجتمع لمؤسساته الأهلية القادرة على استيعاب جزء من مهمات الدولة، ولذلك نزعت الدولة الديمقراطية في العقود الأخيرة الى تحرير قطاعات عديدة كانت تابعة لها ونقلها الى المجتمع باعتبارها مصدر السلطة ومنشأها، فيما اكتفت الدولة برعاية الأمن والدفاع تحقيقاً للهيمنة بالمفهوم الغرامشي، وليس السيطرة بالمفهوم الهوبزي، تأسيساً على وعي متطور لمفهوم إدارة الدولة ومتوالياتها: السيادة، والسلطة، والارادة العمومية.

يعتقد صموئيل هنتغتون أن أهم فارق سياسي بين الدول لا صلة له بشكل الحكومة (ديمقراطية حزبية، قبلية، انقلابية عسكرية) وانما يتصل بشكل رئيسي بدرجة الحكومة. هذا الفارق يمثل مفتاحاً لفهم التطابق المدهش في الأنظمة السياسية العربية على اختلاف أشكالها، والسبب في ذلك أن درجة الحكومة، أي درجة تغلغل السلطة السياسية في الشأن العام، تكاد تصل الى حد التفشي بصورة تفقد الدولة الهدف الأساسي من أصل نشأتها والوظيفية الرئيسية التي قررت لها، بل تحيلها الى سلطة مملوكية، تختزل كياني الدولة والوطن، وتجعلهما مجرد إطارين خاويين لجهة ترسيخ السلطة.

ثمة مقولة رائجة في بعض البلدان العربية مفادها: (لا تفكر فالحكومة تفكر عنك)، وهي كفيلة باختصار الفارق الكيبر الذي تحدث عنه هنتغتون في كتابه (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة). فالتمدد اللامحدود للسلطة الى حد اختراق مجال التفكير عند الأفراد يجعل من السلطة مجرد جثة ضخمة متحرّكة، فيما يصبح المواطنون مجرد نزلاء في أرض لا تربطهم بها سوى ما تكفيهم مؤونة الأكل والشرب، إن إرادت السلطة ذلك، والا تحوّلوا الى جيش من المرتزقة والشحادين على أبواب القصر.

فالتورّم المتزايد في الجهاز البيروقراطي جعل من الدولة مجرد آلة ضخمة مترهلة، أو بناء يحتشد بداخله عدد هائل من الكسالى والمنتفعين. وما حدث نتيجة ذلك هو نشوء عدد متزايد من البيروقراطيين ضاعفوا من المطالب على الجهاز السياسي، بمعنى أن تضخم الدولة ضاعف من مسئولياتها، كما ضاعف من ضغوط المواطنين عليها، وبالتالي فإن تزايد توقعات المواطن من الدولة العاجزة عن تلبية هذه التوقعات أسفر عن مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت على درجة من التعقيد بحيث أصبح من العسير جداً تسويته أو حتى إدارته.

في واقع الامر، أن النزعة الفئوية داخل الجهاز الاداري للدولة يوفِّر مبرر تحريرها من قائمة الالتزامات الضرورية تجاه مواطنيها رغم اختراقها المشين للمجال العام، بكل متوالياته. وتحرير الدولة من التزاماتها يرهن كل ثرواتها وأمنها واستقرارها لمجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الخاصة.

فالدولة، بما هي أداة الإجماع وطني، لن تحقق وظيفتها طالما أن سلطة الهيمنة فيها تكاد تكون لصالح جماعة معينة وقاهرة لجماعات أخرى، فهي بهذا السلوك الاحتكاري للسلطة تصبح طرفاً في النزاع بل قد تكون مولّداً له وأحد مصادره الرئيسية. وحال كهذه، يصعب الحديث فيها عن دولة وطنية حيث سياسات الدولة لا تعبّر عن إرادة وطنية جامعة وتوحيدية، فقد تتجه الى تفجير تناقضات السلطة ذاتها فتصبح الأخيرة عامل تقسيم وإجهاض لمبررات الوحدة الوطنية، كما هو الحال بالنسبة للهوية الوطنية، التي لا تعبّر مكوّناتها سوى عن شريحة سكانية صغيرة، فيما تصبح الشرائح الأخرى منبوذة عن عمد وليس مجرد إهمال غير مقصود.

المحاصصة السياسية تفترض عملية دمج سياسي باشراك الفئات الاجتماعية كافة في صناعة القرار وفي المراكز العليا للدولة دون حاجة للجوء الى نظام لامركزي كيما يضمن عدم تحقق الصدام ويوفر فرص الأمن والعدل والمواطنة المتكافئة. من هنا يبدو الفارق الجوهري بين الإندماج والسيطرة، حيث يفترض الإندماج دعوة الدولة لكافة الأطراف بالإندماج في السلطة المركزية، بما يحقق تمثيلاً متكافئاً ومتوازناً في الدولة وبين السيطرة التي تقضي بتمدد المركز الى كافة المناطق بحيث يزاحم المركز الأطراف حتى على مستوى الإدارات المحلية.

إن الدعوات المتظافرة لدعم خيار المحاصصة السياسية من أجل تسوية الإختلال الخطير في عملية التمثيل السياسي يهدف الى إزالة مبررات التوتر الداخلي ومشاعر الغبن المتفاقمة لدى المتضررين. بيد ان هذه الدعوات تفقد قيمتها في ظل الإحباط الناشيء عن الشك في قدرة الدولة على التوصل الى صيغة مضمونة وجادّة تكفل حصصاً متكافئة في السلطة لكل الفئات، خصوصاً مع التغلغل المفرط للغاية لفئة معينة في الجهاز الاداري للدولة، ما يجعل إمكانية تصحيح الإختلال الكبير في معادلة السلطة صعباً إن لم يكن مستحيلاً، كون يتطلب ذلك تنازلاً ضخماً.

في المقابل، فإن القوى الإجتماعية خارج العملية السياسية ستظل في حالة ارتياب من وعود السلطة وتدابيرها، لذات السبب وهو أن الفئة المتغلّبة لن تمنح من تصنّفهم في قائمة الخصوم حصصاً تنافسية تفضي الى حرمانها من إحتكار السلطة أو على الأقل الهيمنة على صناعة القرار السياسي.

وينبىء هذا الاختلال، بكل الارتيابات النفسية الكامنة فيه، عن حاجة الى تأسيس ثقافي جديد، يرسي مفهوم الشراكة القائمة على فكرة الدولة الوطنية الحقيقة بكل متطلباتها.

وهنا ينبري خيار التكامل الثقافي التنوعي (Multicultural Integration)، كيما يؤسس لمناخ ثقافي متسامح يتيح فرص الإنفتاح الثقافي بين الجماعات المتباينة ويتجه إلى خلق أجواء الحوار الثقافي المشدود لغاياته السياسية، بما يجعل إمكانيات إكتساب وتداخل واختلاط العناصر الثقافية المتباينة قابلة للتثمير في شق قناة ثقافية عامة تتولى القوى السياسية كافة رعايتها وشحنها، فتصبح بمرور الوقت قناة ثقافية عليا لجماعات ترى فيها صورتها، وحضورها، وسهمها الثقافي وأخيراً مصدراً نهائياً لهويتها العليا، أي الهوية الوطنية لما تحمله من عناصر ثقافية جامعة. وهذه السياسة تمثل مطلب عدد من القوى السياسية التي تستشعر خطورة (الواحدية السياسية) حيث السلطة تكون مرهونة بصورة شبه كاملة لفريق واحد أو عدد ضئيل من الأفراد النافذين.

مما سبق يمكن القول، أن الدولة التي يراد تجسيدها وطنياً لا تحقق سيادتها ووجودها عبر احتكار أو مركزة السلطة بل من خلال تحقيق درجة تمثيل متكافىء للقوى السياسية كافة، وبها وحدها يمكن الحديث عن بناء وطن له سيادة، حيث تصبح الدولة تجسيداً لإرادة المجتمع بكل قواه الاجتماعية والسياسية.

وهنا يصبح مبدأ السيادة مدركاً في وعي الشركاء جميعاً، باعتباره مكوّناً جوهرياً من ذاكرتهم الجماعية، ووجودهم السياسي الجمعي، وحينئذ يصبح الحديث عن سيادة الدولة ذا جدوى. فتمسرح الدولة لا يتحقق بمجرد الاحاطة الجغرافية بالتراب، فيما يتم إغفال القاطنين عليه، فهذه سيادة سيطرة وليست سيادة اندماج وإنصهار وتعايش وتوافق وهي متطلبات السيادة الوطنية للدولة.

لا يدافع المحروم من حقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية عن سيادة دولة تنتقص حقوقه، وتصادر حرياته، وتحرمه من الحصول على حصته في السلطة والثروة، لأن ذلك خلاف القوانين الدينية والطبيعية، وليس بهذه الطريقة تصان السيادة.

ولذلك، فإن المدخل لتنمية الإحساس بالشراكة هو ما يتأسس على قاعدة ثقافية يلتقي عليها الجميع وينطلقون منها نحو وضع مبادىء الدولة الوطنية: المساواة في الحقوق والواجبات، اشاعة الحريات العامة، احترام حقوق الانسان، الفصل بين السلطات، وتوزيع الثروة، واعتماد مبدأ الشفافية والمحاسبة وصولاً الى بناء دولة القانون.

الصفحة السابقة