توتّر العلاقات السعودية ـ السورية جزء من حرب أميركا واسرائيل على المنطقة

السعودية تتبنى بشكل صريح مشروع إسقاط النظام السوري

رفعت الأسد: بطل الفضائح والمجازر

الملك عبدالله يستقبل خدام ورفعت الأسد كرمزين بديلين تهيؤهما السعودية وأميركا

كانت الحكومة السعودية تتعاطى، فيما مضى، بصمت مع من تختلف معه، وتحاول أن تسكب ماءاً بارداً على سطح الكرة الملتهبة، وتلوذ بلغة دبلوماسية مواربة كيما تفتح الباب أمام بدائل أخرى تكون بمثابة مخرج طوارىء، فيما لو قررت التراجع عن موقف ما، وحتى لا يقال بأنها تخرق حدوداً رسمتها لنفسها، أو تخالف ثوابت وضعتها لسياستها.

يبدو أن هذا النهج قد تبدّل كثيراً خلال السنوات الأخيرة، فقد تبنّت الرياض مواقف مثيرة للجدل، وبدا وكأنها تتصرف على أساس متغيرات السياسة وليس ثوابت إستراتيجية أو نظام قيمي تزعم بأنها مرهونة به. هكذا ظهر في مواقفها من قضايا محلية كالإصلاح، ومن قضايا خارجية كالموضوع الفلسطيني والعدوان الاسرائيلي على لبنان، وعلاقاتها الإقليمية والدولية التي تبدّلت على نحو لافت. فالعلاقات الخليجية السعودية ليست بالتأكيد على ما يرام، وهي أقرب ما تكون الى التوتر منها الى الهدوء، ولا يقف الأمر عند التوتر المتصاعد بين الرياض والدوحة، الذي يمثل القمة المنهارة في جبل الجليد الخليجي، بل ينسحب الأمر على أغلبية دول الجوار الخليجي، من إيران الى اليمن مروراً بالعراق وسوريا في الشمال وشرقاً الى الكويت وصولاً الى عمان.

فقد باتت السعودية كمن يبحث عن مخرج من حقله المملوء بالأعشاب الضارة فيقوم بحرقه بالكامل. وهكذا، قررت السعودية أن تعزل نفسها عن محيطها الاقليمي لحساب التصالح مع الخارج ـ الدولي ـ الأميركي، وربما الاسرائيلي.

بدا في الشهرين الماضيين أن صانعي السياسة الخارجية السعودية قد حسموا أمرهم لجهة الانضواء في معسكر الاعتدال الذي أعلنته وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس في جدة، والتي اعتبرت دور السعودية فيه بأنه موجّه الى سوريا، الأمر الذي دفع بالحكومة السعودية للبدء بخطوات شديدة التطرف لصالح الاعتدال بالمقاييس الأميركية، عن طريق تبني خطة أميركية شاملة لإنقاذها من المستنقع العراقي، وطرح مبادرة سلام بالشروط الاسرائيلية ـ الأميركية، وإعلان الحرب على خصوم أميركا في المنطقة (وخصوصاً ايران وسوريا)، لا لشيء سوى لاعتقاد الحكومة السعودية بأن ذلك سينجيها من تداعيات مستقبلية على نظامها السياسي، خصوصاً مع التلويح المتكرر للادارة الأميركية بتغيير خارطة الشرق الاوسط، التي وجدت السعودية نفسها منساقة للدخول في عين العاصفة الرايسية من أجل تأمين مكانها بعيداً عن تلك الخارطة، وحتى لا يطالها سيف التقسيم الأميركي.

توتّر العلاقات السعودية ـ السورية بات جزءً من حرب الولايات المتحدة وحليفتها الدولة العبرية على المنطقة، وكان ذلك خطأً فادحاً تقترفه الحكومة السعودية، تماماً كما هو موقفها خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان، لولا أن تدراك السفير السعودي الحجازي عبد العزيز خوجه إستمرار مسلسل الأخطاء. عشوائية السياسية الخارجية السعودية وتخبّطها يفلسفهما بعض رجال الحكم وخصوصاً (الأمير بندر بن سلطان، ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الى جانب عدد من المستشارين والكتّاب) بأننا لابد من تبديل سياستنا الخارجية، وأن لا ننساق وراء العواطف وحركة الشارع، ويجب أن نحتكم الى مصالحنا السياسية فحسب.

لم تكن الحكومة السعودية بحاجة الى مزيد من الاختبارات السياسية من أجل استجلاء فشل هذا النهج الانفرادي في إدارة العلاقات والمصالح السياسية إقليمياً، ما لم تقرر الحكومة العيش في عزلة شبه تامة عن محيطها الاقليمي (بإستثناء علاقات واهنة مع الاردن ومصر) وأن تبقى بقعة ناشزة على الخارطة الاقليمية. لا ندري على وجه التحديد من يصوغ السياسة الخارجية حالياً، وتحديداً بعد موت الملك فهد الذي كان مسؤولاً بصورة مباشرة عن تحديد إتجاه وموضوعات السياسة الخارجية، ولكن ما ندركه بأن كل الذي يشاركون في رسم السياسة الخارجية الحالية هم مقامرون بامتياز، ويتعاطون المتغيرات السريعة بصورة غير راشدة. لقد رهنوا السياسة الخارجية بل ومصير الدولة السعودية بالكامل للبوصلة الاميركية، فصاروا جزءً من الفعل ورد الفعل السياسي الاقليمي والدولي، فإذا ما أخفقت الادارة الأميركية في قضية ما انعكس بصورة تلقائية على الوضع السعودي.

وحتى لا نغرق في تحليل السياسة الخارجية بصورة عامة، نسلّط الضوء على أحد الأمثلة المثيرة التي تتطلب فحصاً دقيقاً كونها تشي بتحوّل خطير في العقل السياسي السعودي، وقد ينذر بأخطاء كارثية على الدولة. فقد شهدت العلاقات السعودية السورية تدهوراً سريعاً عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2004، حيث حمّلت قوى 14 من شباط المؤلفة، بصورة رئيسية، من تيار المستقبل (سعد الحريري)، واللقاء الديمقراطي (وليد جنبلاط)، والقوات اللبنانية (سمير جعجع) سوريا المسؤولية، ثم جاءت تحقيقات اللجنة الدولية للتحقيق في جريمة إغتيال الحريري برئاسة ديتليف ميليس (الرئيس السابق) بملابساتها لتجعل من سوريا متهماً رئيسياً، بالرغم من عدم وجود أدلة كافية لتثبيت التهمة، بالنظر الى ما ظهر لاحقاً من أخطاء في التحقيق. أياً يكن الأمر، فإن الحكومة السعودية بدت وكأنها أقرب الى قوى 14 شباط، بالرغم من ميولها المنفلتة نحو إدخال لبنان في دوامة الصراع الدولي تمهيداً لربطه في المشروع الأميركي شرق الأوسطي.

عبدالحليم خدام: البديل الأميركي ـ السعودي

وفيما كان التوتر بين قوى 14 شباط والحكومة السورية يزداد اضطراماً بتحريض من قوى خارجية، وأميركية بدرجة أساسية، كانت الحكومة السعودية تنزع الى تبني موقف متشدد من القيادة السورية، عكس نفسه في تدهور متسلسل لعلاقات الدولتين. وبعد وقوع العدوان الاسرائيلي على لبنان في 12 تموز الماضي، كانت السعودية أقرب الى الموقف اللبناني الرسمي الممالىء الى حد كبير للعدو الاسرائيلي، ما ظهر بوضوح في تطابق فحوى بيان الحكومتين اللبنانية والسعودية الذي حمّل حزب الله مسؤولية الحرب.

كان يمكن تدارك الخطأ السياسي السعودي في مرحلة مبكرة، لولا أن النهاية غير المتوقعة للحرب فاجأت الحكومة السعودية، كما فاجأت الدولة العبرية والولايات المتحدة وقوى الرابع عشر من شباط إضافة الى حكومات عربية راهنت على انكسار المقاومة اللبنانية.

من الغريب في الأمر، أن السعودية وهي تلمس تداعيات موقفها خلال وبعد الحرب، لم تلجأ للمراجعة، بل قررت الاسترسال في ذات الخيار، وبعناد غير مسبوق، اعتقاداً منها بأنها على حق وأن غيرها على باطل، فقبلت أن تستكمل فصول المعركة السياسية عن طريق الشراكة الكاملة في معسكر الاعتدال الاميركي. لم تبدّل وجهتها السياسية من سوريا بعد الحرب، وقررت أن تتخذ مواقف أكثر تشدداً دون مبرر واضح، بالرغم من ظهور مؤشرات قوية على انكسار الموجة السياسية الاميركية، وانعكاساتها على الأطراف الضالعة في معسكر الاعتدال، الذين لاذوا بالصمت والهروب من أية عمليات توريط أخرى.

السعودية وحدها قررت الدخول في مغامرة سياسية غير محسوبة بدعوة نائب الرئيس السوري السابق المنشق عبد الحليم خدّام لزيارة السعودية. نلفت الى ما نشره كاتب فرنسي حول دور المخابرات الاميركية والفرنسية في إجراء مقابلة تلفزيونية مع عبد الحليم خدام في قناة (العربية) التي تموّلها السعودية، وكان ذلك تدبيراً غير رشيد من الحكومة السعودية، لأن في ذلك إعلاناً صريحاً بدعمها لمشروع إسقاط النظام في سوريا، وفي ظل أجواء التوتر السائدة بين الولايات المتحدة وسوريا، ما يحيل السعودية الى أداة أميركية في هذا المشروع.

الأمر الأخطر أن يجري الملك عبد الله، وهو المعروف باحتفاظه بعلاقات تقليدية قديمة مع القيادة السياسية السورية، لقاءً علنياً مع خدّام، الذي التقى أيضاً ولي العهد الأمير سلطان. وكانت أنباء تحدثت في نهاية أكتوبر الماضي عن احتمال عقد لقاء مع نائب الرئيس السوري الأسبق رفعت الأسد، المقيم حالياً في لندن، خلال وجود خدّام في السعودية، ما يعطي مؤشراً على أن ثمة تنسيقاً عالي المستوى لجهة وضع خطة التحرك السياسي وربما العسكري من أجل إطاحة نظام الرئيس السوري بشار الأسد. هذه الأنباء جاءت في سياق أنباء أخرى حول دعوة الولايات المتحدة لرفعت الاسد من أجل مناقشة مستقبل سورية ومصير نظام الحكم فيها!!.

كل تلك المعطيات تشي بتورط القيادة السياسية السعودية في مشروع تغيير النظام في سوريا، وهو مشروع تشارك فيه أطراف عدة لبنانية وأميركية وأوروبية، فماذا تغيّر في العقل السياسي السعودي حتى يقدم على مغامرة خطيرة وعلنية كهذه قد تعقبها نتائج وخيمة على النظام نفسه، الذي قد يقابل بردود فعل مضادة. ولماذا يكون التورّط السعودي في عهد الملك عبد الله، الذي كان يؤمّل عليه في تسوية مشكلات الدولة خارجياً، مع دول الجوار الاقليمي والحكومات العربية والاسلامية، ولماذا أصبحت السعودية في عهد الملك عبد الله أقرب الى المشروع الأميركي منها الى قضايا الأمة العربية والاسلامية.

لاشك أن ثمة مراهنة أميركية وأوروبية على إحداث تبديل عميق في مواقف الملك عبد الله القوموية، فقد كان الرجل معروفاً في الدوائر الغربية بأنه قومي عربي متشدد، وأنه يحمل فيروس العداء للغرب والولايات المتحدة، هذا ما ذكره بوب وودوورد في كتابه (القادة) وكذا قال عنه وليم كوانت في كتابه (السعودية في الثمانينات) وأيضاً سيمون هندرسون (بعد الملك فهد). هل ثمة طاقم جديد داخل جهاز الحكم يدير دفة السياسة الخارجية السعودية؟ أم أن الملك عبد الله قد خضع تحت تأثير ممليات هذا الطاقم بوحي من إدارة الرئيس بوش، التي ضاعفت جهودها من أجل إشراك السعودية في مشروعها شرق الأوسطي.

كل تلك الاسئلة تبقى مفتوحة على إجابات متقاربة، خصوصاً حين ننظر بأن النخبة الحاكمة لم تعد متمايزة في مواقفها السياسية، محلياً وخارجياً. فمالذي يدفع الملك عبد الله لاستقبال خدّام، الذي لم يكن خياراً مقبولاً شعبياً ورسمياً، وليس هو بالرجل النزيه الذي يمكن التعويل عليه في تقديم وجه سياسي لسوريا يستحق الاشادة والدعم، فقد نبذته المعارضة السورية قبل غيرها. وهل أن مجرد استعمال قوى 14 شباط هذا الرجل ورقة سياسية للضغط والمماحكة مع النظام في سورية حافزاً من أجل الاصطفاف معها في معركة ليست مأمونة العواقب، فضلاً عن أن الكلفة السياسية الباهظة تتطلب التضحية بدولة محورية مثل سورية من أجل قوى سياسية لبنانية متقلبة بل ومخيفة في خياراتها المفتوحة على كل شيء وعلى كل طرف، أميركياً كان أم فرنسياً أم إسرائيلياً.

تخطىء الحكومة السعودية إذا ما فكرت بأن السير في خيار الخصومة مع أي دولة عربية سيجنّبها ويلات ما تقوم به، ولها في تجربة العدوان الاسرائيلي على لبنان عبرة. إن الذين يبشّرون بفكرة تجاهل الشارع العربي والاسلامي غافلون عن حقائق على الارض، فليست أميركا ضامناً نهائياً لاستقرار أنظمة الحكم، فقد سقط صنم في ايران وكان حليفاً أميركياً استراتيجياً، وسقط صنم في العراق وكان يحظى بدعم الغرب كله خلال حربه مع ايران، وفي كلا الحالتين كان للشعب دور إستراتيجي في اسقاط النظامين، فالاولى بمظاهرات شعبية، والثانية بتفرّق الشعب. لقد أدركت العائلة المالكة بأن موقفها خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان أدى الى خسارة شعبية وسياسية فادحة، ما دفع بها للبحث في ترتيب سريع لعلاقاتها مع قيادة حزب الله.

إن مجرد التفكير في إسقاط النظام في سوريا، أو في أي بلد آخر لم يكن جزءً في التفكير السياسي السعودي، ولكن دخول عناصر جديدة على خط صناعة القرار السياسي ينذر بوقوع السعودية في دوامة أخطاء قاتلة. ندرك بأن الأميركيين لعبوا دوراً مركزياً في الاعلاء من أهمية بعض الأمراء، لحاجة في نفس بوش وتشيني ورايس، كيما يحظوا بدور مركزي في إدارة دفة السياسة الخارجية السعودية، ولكن لم يثبت هؤلاء الأمراء بأنهم على درجة كافية من الحكمة تؤهّلهم للعب مثل هذا الدور، ما لم يكن الهدف منه تمرير مشاريع أميركية في المنطقة، على حساب مصالح الوطن والأمة.

الصفحة السابقة