إعادة ثمير (الوديعة) الطائفية في لبنان

إنزلاق سعودي نحو (المحورية)

هل تريد السعودية مواجهة هؤلاء؟

حين تساءل رئيس تحرير جريدة (الأخبار) البيروتية جوزف سماحة في 28 سبتمبر الماضي عن الدور السعودي في الداخل اللبناني بعد عودة رئيس تيار المستقبل من المملكة، كانت الساحة اللبنانية تتهيأ لإطلاق حزمة من الشكوك حول نشاطات الدبلوماسية السعودية، ما أوصل كثير من المراقبين والمنشغلين بالموضوع اللبناني الى قناعة بأن الرياض باتت على وشك أن تحسم أمرها لدفع لبنان نحو أزمة عبر الإنزلاق الى لعبة الاصطفافات الداخلية، والإنخراط في معركة داخلية تديرها أطراف دولية أميركية وفرنسية على لبنان.

كان الاعتقاد، أو بكلمة أصح، الأمل بأن تتدارك الحكومة السعودية الخطأ التاريخي بوقوفها بجانب المعسكر الاميركي ـ الاسرائيلي خلال العدوان على لبنان منذ 12 يوليو الى 14 أغسطس، خصوصاً بعد أن جاءت نتائج الحرب على خلاف رغبة كل المراهنين على هزيمة المقاومة اللبنانية، واللياقة الأدبية العالية التي أبدتها قيادة المقاومة في طي صفحة الحرب مادامت القيادة السعودية مؤهلة لأن تبدي رغبة في التوبة عن خطأها الفادح، حين بررت ببيانها الصادر في اليوم الأول للدولة العبرية شن عدوانها الهجمي على لبنان.

تحرّك السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجه بقدر من الإرتياح بعد اطمئنان لمرونة قيادات المقاومة، ولم يكن مطلوباً من السفير خوجه تحقيق إختراق سياسي حين دخل على خط التجاذبات الداخلية، لجهة تسوية الخلاف الناشب بين قوى السلطة وقوى المعارضة، فقد نظرت الأخيرة الى الرياض بادىء الأمر باعتبارها (وسيط خير)، بعد أن خفّض السلوك السعودي خلال العدوان من توقعات قوى المعارضة من أن تلعب دور (الراعي). وقد أوحت تحرّكات السفير خوجه بأن ثمة إنتباهة إستثنائية قد حانت لتعديل مسار الدبلوماسية السعودية، حيث جاءت جولات السفير السعودي على القوى السياسية اللبنانية سلطة ومعارضة، لتمنح فرصة متكافئة لكل الأفرقاء للإفصاح عن وجهات نظرهم بما يعين على صوغ فهم وموقف متوازنين. وكان لقاء السفير السعودي خوجه بالسيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله في نهاية أكتوبر الماضي مؤشراً إيجابياً على أن صفحة جديدة على وشك أن تفتح في العلاقة بين الجانبين، وهو ما دعا البعض للاعتقاد بقرب انفراج الأزمة السياسية اللبنانية، وسيكون الانفراج حلاً استثنائياً بعد أن عجزت طاولتا الحوار والتشاور عن التوصّل الى صيغة حل مقبولة.

صحيح أن الحكومة السعودية لم ترغب في أن تهبط من عليائها بعد توقف الأعمال العدائية واعتراف الجانب الاسرائيلي بالهزيمة، وصحيح أيضاً أنها أوحت لجحفل الصحافيين والكتّاب بـ (تبهيت) وهج الانتصار، وصد تموجاتها على الداخل والجوار العربي، حتى لا تعقبها عقوبات شعبية، ولكن ما هو غير صحيح أن تنقلب تارة أخرى على عقبها بعد أن أمضى السفير الخوجة وقتاً طويلاً وبذل جهداً مضنياً من أجل طلاء الصورة القبيحة للحكومة السعودية، وإعادة تسويقها بوصفها، زعماً، راعياً للبنان وليست طرفاً في صراعاته.

لقد بدا وكأن اللبنانيين أقدر على تجاوز اقترافات الدبلوماسية السعودية أكثر من المسؤولين السعوديين أنفسهم، وهم الذين اكتووا بنار مواقفها خلال العدوان. فقد قرر رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري أن يزور الرياض خلال شهر رمضان ولقاء كبار المسؤولين بمن فيهم الملك عبد الله لوضعه في مناخ مرحلتي (الحوار) و(التشاور) بموضوعاتها المتشابكة بدءً من المحكمة الدولية، ورئاسة الجمهورية، وسلاح المقاومة، وتالياً حكومة الوحدة الوطنية، وقانون انتخابي جديد.

كان بري يدرك سلفاً بأن حسم الخيارات على طاولة التشاور يتطلب اتصالات بالخارج، ولا شك أن السعودية هي جزء أساسي من ذلك (الخارج)، فلم يعد خافياً أن سعد الحريري حليف سعودي بامتياز، تماماً كما أن وليد جنبلاط حليف أميركي بامتياز، ولقوى السلطة أن تقول الشيء ذاته عن قوى المعارضة بتحالفها مع سوريا وايران.

السفير خوجه: كفاءه دبلوماسية مخطوفة

وقد تعمّد بري في زيارته للرياض أن يقدم مطالعة مطوّلة للملك عبد الله عن الوضع اللبناني من أجل صنع ذاكرة سياسية وتاريخية عن لبنان، خصوصاً وأن الملك عبد الله لم يكن في السابق معنياً كثيراً بالملف اللبناني فقد كان الملك فهد وعصبة السديريين منغمسين فيه ومحتكرين له.

أبلغ نبيه بري مضيفه رسالة واضحة تتعلق بنذر الفتنة المذهبية ومخاطر الإنزلاق اليها، لدفع السعودية كيما تلعب دوراً إيجابياً من أجل وأد الفتنة، في إشارة واضحة الى أنها وحلفائها على الساحة اللبنانية ينوون استعمال ورقة (التجييش الطائفي) وقد لوّحوا بها مؤخراً وجرّبوه في حدود ضيقة.

على أية حال، عاد بري من زيارته الى الرياض، مبشّراً بمناخ إيجابي عكسه رد الفعل السعودي الإيجابي، وكل ذلك مازال في حدود الزعم، وكان ذلك خير معين للسفير خوجة من أجل استكمال تحرّكه الرعائي على الساحة اللبنانية. ولكن الخلاف السعودي السوري والسعودي الايراني غير المبررين والذي بلغ في تدهوره مستوى خطيراً جعله عامل تعويق لأية تسوية سياسية هادئة في لبنان بل وفي المنطقة عموماً.

كان لبنان بحاجة الى أكثر من (نخوة عربية) يضفيها عادة الملوك السعوديون على أدوارهم وردود فعلهم حين يطلب منهم التدخل في قضايا هم طرف فيها، وإن كانت تلك النخوة تصلح أحياناً لتسوية مشكلات إستثنائية ولا ترتبط بالمواقف الاستراتيجية. فقد تدخل الحكومة السعودية في صراعات قذرة كالتي يديرها حلفاؤها في لبنان وتجيّش لهذه الصراعات أصوات وأقلام تبدي (عبقرية) فريدة في إشعال حرائق الفتنة الطائفية.

منذ سقوط بعض الضحايا في الرمل العالي قرب مطار بيروت على يد أجهزة الأمن التابعة لقوى 14 شباط وتحت إدارة الوزير المثير للجدل أحمد فتفت، كانت الرسالة واضحة بأن السلطة مستعدة نفسياً وتسليحياً لخوض مواجهات مسلّحة مع المعارضة وإن أدى ذلك الى عودة الحرب الأهلية، وتأكد ذلك بعد اكتشاف مجموعات عسكرية تتدرب على السلاح في منطقة كسروان ومن ثم انتشار السلاح بين أحزاب لبنانية متحالفة مع السلطة، وصولاً الى سقوط قتيل وعدد من الجرحى خلال الإعتصامات.

حين تقرر الرياض، وقد قررت، أن تضفى طابعاً مذهبياً على رؤيتها وسلوكها السياسي من الوضع اللبناني المتأزم، تقرر أيضاً أن تخسر قيادة سياسية بحجم نبيه بري، الذي ينظر اليه كل القوى السياسية اللبنانية بوصفه ضمانة الإستقرار في لبنان، وإن كان ذلك لا يخلو من استبطان، فهناك أكثرية لبنانية تتمسك بدور حسن نصر الله بوصفه صمام أمان أمام الحرب الأهلية وتضييع فرصة استدراج اللبنانيين الى المواجهة المسلّحة.

على أية حال، فإن الحكومة السعودية بانزلاقها نحو تطييف التجاذب السياسي بل والدخول فيه كطرف على قاعدة مذهبية قد أدى الى تقزيمها لبنانياً ويعيدها مجدداً الى الإطار الذي حبستها فيه الإدارة الاميركية حين صنّفته على أنه قطب في معسكر الإعتدال في مواجهة معسكر الممانعة في الشرق الاوسط.

لبنانياً، وعربياً لاحقاً، كانت الخطة الأميركية المؤلّفة من خمسة بنود لمواجهة أي تطوّر يؤدي الى تأليف حكومة وطنية تقضي في بندها الثاني الطلب من السعودية التحرك سياسياً ودبلوماسياً ضد نظام الرئيس بشار الأسد، بالتزامن مع الخلاف بين الرياض ودمشق حول دور الاخيرة في لبنان، سعياً الى عزل سوريا عن أي دعم عربي. لم يكن يتطلب إختبار صدقية وجدوائية هذا البند طويلاً، فالتأطير الأميركي للسعودية كفيل بأن يوصلها الى ذات النتيجة التي حصلت عليها بعد انتصار المقاومة اللبنانية، وكذلك بعد سلسلة الإخفاقات التي واجهتها الإدارة الأميركية في العراق وفي الشرق الأوسط عموماً.

مشكلة السعودية أنها تريد معاقبة دمشق على خلفية اغتيال الحريري، وهجوم بشار الاسد على القيادات السياسية العربية التي وقفت بجانب الدولة العبرية خلال عدوانها على لبنان الصيف الماضي ووصفها بـ (أشباه الرجال). المعاقبة السعودية لسوريا ينظر اليها بأنها تتم عن طريق استعمال أدوات مشبوهة، أميركية واسرائيلية، وهذا ما يكبّدها خسائر متوالية بعضها من صنع يدها وبعضها الآخر من صنع حلفائها سواء في لبنان أو الساحة العربية أو الولايات المتحدة أو الغرب عموماً.

الحكومة السعودية، شأن أطراف السلطة في لبنان، تبدّل مواقفها بحسب إيقاع التجاذبات الداخلية والاقليمية والدولية، فبعد أن أعلن السفير السعودي عبد العزيز خوجة، كما هو الحال بالنسبة لسفير مصر في لبنان حسين ضرار، دعم مبادرة بري، التي تقوم على مبدأ البحث في تأليف حكومة وحدة وطنية عبر توسيع أو تبديل بعض الحقائب الوزارية، وهو ما بعث أجواء ارتياح وسط قوى المعارضة، ودفع بالسفير خوجة لتقديم دعوة لرئيس التيار الوطني الحر الجنرال ميشيل عون لزيارة الرياض، وهو دعوة مالبثت أن سحبت من التداول سريعاً بعد أن تحرّكت قوى الاكثرية في السلطة اللبنانية لتحفيز الادارة الاميركية للدخول على الخط وتخريب المبادرة السعودية، الأمر الذي زاد من درجة سخونة الأزمة فرطت معها الطبخة السعودية، وتقطّعت أواصر مازالت طرّية، وحصلت القطيعة بين الأطراف جميعاً ولم يعد سوى الشارع خياراً نهائياً ووحيداً للحسم السياسي.

التحوّل في الموقف السعودي إنعكس سريعاً على سلوكها والمساحة التي تتمسرح عليها سياسياً في لبنان، بل وانعكس أيضاً على لهجتها في التعبير عن موقفها الجديد، فبعد أن كان الوشم الوحدوي واضحاً على سلوكها السابق، تدفق المخزون المذهبي مجدداً ليصبغ موقفها، وإعلامها، وبياناتها، ونداءاتها وتصريحاتها. وتحرّكت الكتيبة الطائفية في الإعلام السعودي لتعمل بأقصى طاقتها لتغرق الساحة الاسلامية بفيض من الكتابات المشحونة بلغة طائفية قميئة.

كان مثيراً عودة المحور المصري السعودي الأردني مجدداً للواجهة بعد تصاعد نشاط قوى المعارضة في لبنان لإسقاط حكومة السنيورة وإقامة حكومة وحدة وطنية، مستعيناً، هذا المحور، بالتراث المذهبي السجالي وتحويل التجاذب السياسي على أنه صراع سني شيعي، فيما يدرك الجميع بأنه أكبر من مذهبية السعودية وأصغر من مشروع الشرق الأوسط الجديد، فهو تجاذب يدور حول الشراكة السياسية على قاعدة توافقية.

الشيخ قباني: عاد من الرياض بوجه آخر

أميركا وفرنسا وقوى في الرابع عشر من شباط يهددون بالتدويل، ومصر والسعودية والاردن وتيار المستقبل يهددون بالمذهبية، وكلها تجتمع على هدف إبقاء الوضع المختّل في لبنان حتى تحقيق أهداف الادارة الاميركية وفريق في لبنان. السعودية التي تخشى التدويل تنزلق بطائفية محضة نحو الإنخراط فيه دون حساب عواقبه المستقبلية عليها، راكنة الى تطمينات أميركية وفرنسية غير مأمونة.

السعودية تكرر الخطأ في العراق، وتجنح الى الاصطفاف الطائفي، فبعد أن صمتت دهراً عما كان يجري في العراق منذ الاحتلال الاميركي له في 2003 عادت ودخلت إليه من الباب الخاطىء، وهي الآن تكرر الخطأ ذاته في لبنان بعد أن لاذت بالصمت منذ وقف الأعمال العدائية في الرابع عشر من أغسطس الماضي، عادت الى لبنان على جناح الطائفية والمذهبية.

ثمة تأكيد على خيار (الحوار) .. هذا ما ينطق به فؤاد السنيورة، ويردده الثلاثي القيادي النكدي: مبارك وعبد الله وعبد الله الثاني، فيما يغيب الخيار نفسه في أوطانهم، وكانت وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي بعثها التيار الوطني بكافة أطيافه الى عبد الله حين كان ولياً للعهد في يناير 2003 لمعالجة المشكلات الكبرى في الدولة، ولكنه أحال من الحوار مجرد مناسبة كرتونية تخاطب الحكومة نفسها، وتعالج فيها مشكلاتها مع الخارج وليس الداخل.

السعودية لم تعد وسيطاً نزيهاً في نظر اللبنانيين، بعد ان جنحت في تأييد فريق السلطة على حساب الفريق المعارض الذي يضم طيفاً سياسياً وشعبياً واسعاً ومتنوعاً. وأن السفير الخوجة الذي كان بارعاً في نشاطه وانقاذياً في دبلوماسيته أوهنته ملزمة الأوامر القادمة في الرياض، فقد حرقت الاخيرة جهوده المخلصة.

الشحن الطائفي الذي انطلق من السعودية ووسائل إعلامها وصحافتها لم يعد خافياً، فيما ينبعث السؤال: لماذا يذهب مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ قباني معتدلاً ويعود ملتهباً، ولماذا يهدد بعض أقطاب السلطة بورقة الطائفية والتجييش المذهبي ولماذا يعاد تشغيل ذات الاسطوانة الطائفية التي كانت تعمل خلال حرب تموز الاخيرة.

السفير السعودي عبد العزيز الخوجة الذي كان يتحرك كوسيط خير بين الأفرقاء اللبنانيين، فجأة وفي 24 نوفمبر الماضي وصلت الأوامر من الرياض بدعم حكومة السنيورة، فأطلق تصريحاً مثيراً يدعو فيه الوزراء المستقيلين بالعودة عن استقالتهم والانضمام مجدداً الى حكومة السنيورة.

وفيما كان رئيس مجلس النواب نبيه بري يحاول في زيارته الى الرياض تحييد الدور السعودي كيما يتحول الى راعي وليس الى طرف، قررت الحكومة السعودية أن تكرر الخطأ العراقي فتتحول الى محور غير محايد، وأن تقود معركة السلطة ضد الأغلبية الشعبية، وبدا بعد أسبوع من الاعتصامات الشعبية في وسط بيروت أن السعودية أصبحت تغذي الماكينة الطائفية والمذهبية بحيث باتت معروفة للجميع، حتى أن قطباً بارزاً في المعارضة تحدث عن المحور السعودي الطائفي. وبات قادة المعارضة لا يخشون من التصريح بالموقف السلبي الذي تلعبه الحكومة السعودية في التجاذب السياسي اللبناني.

لم يكن من قبيل المصادفة أن يقول الملك عبد الله بأن يصف الاعتصامات أو التظاهرات في بيروت هي اختراقات أمنية!! وهو تصريح ردّده الرئيس المصري حسني مبارك بطريقة أخرى حين قال بأن التظاهرات هي الدمار الحتمي!!. ولم نكن نسمع مثل تلك التصريحات خلال المظاهرات التي خرجت في عهد حكومة الرئيس عمر كرامي أو حتى خلال حكومة السنيورة. فضلا عن ذلك، فإن الملك عبد الله يسقط وضع بلاده على لبنان، فيما يكفل الدستور اللبناني حق التظاهر وحرية التعبير للأفرد، فيما يحرم النظام الأساسي وخصوصاً التعميم الأخير الموقّع من قبل الملك عبد الله حق التعبير في وسائل الاعلام بما يخالف السياسات العامة للدولة.

الحكومة السعودية، بالرغم من خبرتها الطويلة في الشأن اللبناني أخفقت في التعاطي معه بحسب الطبيعة المجتمعية والسياسية والدستورية اللبنانية. وهذا يكشف عن أن الدبلوماسية السياسية السعودية لا تقوم على تراكم الخبرة وإنما على التجارب المقطوعة والظرفية، ويضاف اليها العقلية المذهبية التي تحكم مواقفها وسلوكها السياسي في الخارج كما في الداخل.

الصفحة السابقة