السعودية والعراق من جديد

أزمة وعي بالواقع أم عمى طائفي؟

مؤتمر لجوار العراق قد يخرج العراق من محنته فيكون حل اللحظة الأخيرة

كيف ترى السعودية العراق؟ هذا هو السؤال المحوري الذي تجب الإجابة عليه قبل الخوض في الإستراتيجية السعودية تجاه ما يجري في ذلك البلد.

بديهي أن قراءة واقع العراق كما هو على الأرض يشكل الخطوة الأولى لصانع القرار كي يبني عليها سياساته.. فإذا كانت قراءة الواقع مغلوطة أو متوهمة أو قائمة على معلومات الدراويش (على وزن: حدثني من أثق به!) فإن ما يُبتنى من سياسات تشطّ في معظم الحالات عن غاياتها.

مشكلة الحكومة السعودية قد تكون فريدة من نوعها، ليس فقط فيما يتعلق بقراءة الواقع العراقي كما هو على الأرض، بل الأعظم والأدهى هو قراءة الواقع السعودي نفسه. قد يكون هذا الكلام مستغرباً من أوجه عدّة: فهل يعقل أن لا يفهم صانع القرار ما يجري في بلده، فضلاً عما يجري حوله في دول الجوار، فيتخبط في قراراته بسبب قراءته المغلوطة؟

نعم هذا هو ما يحدث بالضبط. آل سعود القادمين من خلفية اجتماعية معيّنة يحكمون بلداً متعدد الثقافات والتاريخ والمذاهب، وهم إن وعوا ما يجري في المنطقة التي تشكل خلفيتهم الإجتماعية والسياسية (ونقصد بها نجد) فإنهم لا يفهمون الحجاز ولا الجنوب ولا الشمال أو الشرق. هم يرون بقية المواطنين غير النجديين بعينين: طائفيتين أولاً، وأمنيتين ثانياً. وكلتا النظرتين سطحيتين غير كاشفتين للواقع، وتحملان قدراً من العدوانية كونهما تتضمنان موقفاً عنفياً تحاملياً مسبقاً.

نعم آل سعود لا يفهمون المناطق الأخرى. لا يفهمون شعبهم (غير النجدي). لا يعرفون نبضه ولا يقيسون ردّ فعله. هم يدركون أن هناك شعباً محكوماً من قبلهم وينظرون اليه بدونية قبلية ومذهبية، ويدركون أن ما بيدهم من قوة أمنية قادرة على مواجهة أي تحد يأتي منه. وهذا هو الحدّ الأدنى من العلم! الذي يحتاجونه للإستمرار فيما هم عليه. وهذا ما أوقع السعوديين في مشاكل ولازالوا مع مختلف الشرائح الإجتماعية بسبب أخطائهم وتعدياتهم التي يعتقدون أنها صغيرة، بينما هي تلامس أوتاراً حساسة لدى تلك الشرائح الإجتماعية التي تتعرض للضغط والتمييز.

في موضوع العراق الذي نحن بصدد الحديث عنه، فإن معلومات الحكومة السعودية ناقصة وتعتمد على السماع من أشخاص أو أطراف معينة أو وجهة نظر واحدة.. لا يوجد مركز أبحاث يقوم بجمع المعلومات و(يفلترها) ثم يحللها ويقدم الصورة الصحيحة عن مراكز القوى السياسية والإجتماعية واللاعبين الأساس برؤية مستقبلية. وهذا ما يجعل الصورة مختلفة عند كل أمير، والحلول كذلك، وهي حلول اندفاعية وردود افعال على آخر معلومة أو خبر يصل الى ذهن صانع القرار أو بالأصح صنّاع القرار الكثر.

لا تقف السعودية على مسافة واحدة من الفرقاء العراقيين، وبالتالي فالصورة التي تقدم لهم نمطية واحدية الإتجاه لتحقيق غايات محددة. وحتى المعلومات المختلفة التي قد تأتي من هنا وهناك، تقوم العين الطائفية بفلترتها، وقد اكتشف السياسيون العراقيون وغير العراقيين منذ زمن (الذهنية السعودية الطائفية) فصاروا يقدمون المعلومات التي تتوافق مع تلك العقلية، ويستثيرونها لتحقيق أغراضهم الخاصة عبرها.. والمدهش ان هذا هو ما يجري في السعودية ذاتها فيما يتعلق بالمواطنين أنفسهم، فمن يبحث عن وظيفة أو ترقية أو مكسب ما، لا يمتنع أن يحدث المسؤول الطائفي باللغة التي تستثيرة حتى يحصل على ما يريد. الغريب أن العمال والموظفين غير المسلمين فهموا اللعبة أيضاً، وراحوا يمارسونها، فإذا وجد موظف زميلاً لا يعجبه أو يقف بوجهه أو يحول دون تحقيق مبتغاه، وإن كان مواطناً، فيكفي أن يثير حوله أنه: صوفي، أو شيعي، أو اسماعيلي.

لهذا فإن قراءة المسؤولين السعوديين للعراق، هي قراءة طائفية، وكان المنظار الطائفي حاضراً حتى في التعامل مع حكم صدام حسين الذي نصب السعوديون له العداء وشنوا عليه الحرب. ولذا فلا توجد استجابة سياسية سعودية حيال تلك الرؤية إلا أن تكون طائفية. ويمكن قراءة موقف السعودية من رفض غزو العراق مبكراً لهذا السبب بالتحديد، وكذلك موقفها من الحكومة العراقية الحالية، وأفضل ما يجسد هذه الرؤية: المقالة التي كتبها نواف عبيد مؤخراً للواشنطن بوست. فما كتبه عبيد يستشف منه أمران: جهل بما يجري في العراق، واستجابة سياسية سعودية خاطئة بسبب اعتمادها على المعلومات والقراءة المغلوطة.

الآن، وقد اشتعلت الحرب الأهلية بين العراقيين بفضل مقاتلي السعودية الوهابيين، وبفضل أموال النفط التي تحدث عنها تقرير بيكر ـ هاملتون، كيف يرى السعوديون الخروج من المأزق؟ حسب عبيد: إنه المزيد من الحرب الطائفية وصبّ الزيت على النار، وجعل الحرب الطائفية حرباً إقليمية أوسع.

ثم ماذا؟ وهل هذا سيفيد السعوديين، إن كانوا في الأساس قادرين على إشعال تلك الحرب؟

بسبب غياب الإستراتيجية والرؤية الواضحة، يأتينا من السعودية مواقف متقلبة ومتجددة كل يوم. وخلال شهر واحد، رأينا مواقف متعددة:

أولها ـ الموقف الذي كشف عنه عبيد، والذي يمثل خلاصة رؤية السعوديين، خاصة الجيل الثالث من الأمراء، وبالخصوص رأي تركي الفيصل السفير السعودي في واشنطن، وهو رأي قريب من صناع القرار السعودي أنفسهم. هذا الموقف الجديد يصل به التهور الى حدّ دخول السعودية في حرب العراق الطائفية مباشرة بالسلاح والمال وتشكيل ألوية عسكرية، ومواجهة إيران بشكل مفتوح عبر تخفيض أسعار النفط الى النصف.

وثانيها ـ ظهر في لحن قرارات مجلس الوزراء السعودي، فقد طالب بيان لمجلس الوزراء السعودي أميركا بأن تتصدى للتدخلات الخارجية في العراق. أي أن تقوم أميركا بإيقاف التمدد الإيراني، ولم تطلب من أميركا المتدخل الأكبر في العراق الخروج أو تصحيح سياستها. هذا ما أشار اليه بيان مجلس الوزراء السعودي في 21/11/2006.

وثالثها ـ زيادة على ذلك ـ وهو الأهم ـ إن السعودية تريد العودة بالعراق الى ما قبل العملية السياسية. أي أنها تريد الغاء العملية السياسية كاملة والبدء من الصفر، وكأن صدام حسين سقط للتوّ. ولا يقول بهذا، أو بإمكانيته، إلا جاهل مركب حقاً!

فلا أميركا تستطيع أن تعيد الوضع الى ما كان عليه، ولا القوى السياسية الحالية ستسمح به، ولا العراق يحتمل أن يكرر تجربة ما فعله بريمر بالجيش العراقي، ولا العالم يقبل بأن يلغى البناء السياسي والإنتخابات والدستور والذي وضع بمباركة شعبية وعلى مدى سنوات ثلاث، أن يلغى هكذا فيصبح العراق في فراغ سياسي جديد. إن مجرد الطلب السعودي هذا، يشير الى ان السعوديين فقدوا بشكل كامل بوصلتهم العراقية. ومع أنهم حرضوا كوفي عنان ـ الذي سيرحل قريباً ـ على الدعوة لمؤتمر دولي هدفه إلغاء العملية السياسية، فإنهم جوبهوا بمعارضة شديدة من الأميركيين أنفسهم، قبل العراقيين، لأنه طلب لا يدخل في خانة المعقول السياسي.

بيان مجلس الوزراء السعودي ـ آنف الذكر ـ وضع كل هذا تحت عنوان (التحذير من المساس بالتوازن الاجتماعي في العراق) والذي يقصد منه باللغة الطائفية السياسية: إعادة الحكم للأقلية السنيّة العربية. وكذلك تحت عنوان: (دعوة قوات الاحتلال الى القيام بمسؤولياتها الدولية تجاه حماية الحدود العراقية والتصدي للهيمنة الخارجية السياسية او الاستخباراتية او الامنية علي اجزاء من العراق).

الحل المعقول

الأزمة العراقية يتداخل فيها المحلي مع الإقليمي والدولي. الحل الدولي (الغربي ـ الأميركي) القائم على الإحتلال والعنف فشل كما هو واضح. والعراقيون فشلوا في إيجاد حل بأنفسهم يرضيهم جميعاً، فهناك من يريد العودة الى حقبة صدام، أو الى احتكار أقلية للحكم كما كان في الماضي، وهناك من يسعى للإستئثار بكامل الكعكة، وهناك من يتمنّى الإنفصال لو أسعفته الظروف الإقليمية، وهي لن تسعفه فيما يبدو في المدى المنظور.

الحل الإقليمي بديل للحلول الأميركية، ومساعد للحل الداخلي. فكل الدول المجاورة للعراق لها أيادي في الداخل العراقي وتساهم بصورة مباشرة في توتير الأوضاع لغايات مختلفة. لكن هذه الدول متفقة فيما يظهر على ثوابت واضحة:

أ ـ كل دول الجوار ترفض الوجود الأميركي في العراق، ومعظمها يخشى أن يتحول ذلك الوجود الى أداة لتغيير نظمها، خاصة في السعودية وايران وسوريا. وبهذا المعنى فإن هذه الدول تمنت وعملت لإفشال المشروع الأميركي هناك كل بطريقته، ولكن على حساب العراقيين، وعلى حساب قيام عراق مستقل، وعلى حساب نشوء نظام أقرب الى تمثيل العراقيين بمختلف شرائحهم ومصالحهم.

ب ـ كل دول الجوار لا تقبل بغير عراق موحّد. فتقسيم العراق خطّ أحمر لديها. لا تركيا ولا إيران ولا السعودية ولا سوريا ولا غيرها تريد رؤية دولة كردية وأخرى شيعية وثالثة سنيّة. لأن شرارة التقسيم ستصيبها بشكل مباشر وفي الصميم.

ج ـ كل دول الجوار تخشى من انتقال العنف الطائفي العراقي اليها وإن بدرجات متفاوتة. وجميعها تخشى من انتقال عدم الإستقرار في العراق الى أراضيها.

لكن هذه الدول المجاورة لها أولويات مختلفة ولكنها كلها قابلة للتحقق: فأولوية الإيراني والسوري: درء الخطر الأميركي الذي يستهدف نظامي الحكم فيهما. وأولوية التركي أن لا تقوم دولة كردية. وأولوية الكويت أن يهدأ الوضع السياسي في العراق وأن لا يأتيها خطر منه، وهذا يتم عبر قيام نظام يحترم المعاهدات والحدود. وأولوية السعودية أن لا يسيطر على العراق لون شيعي يقرر مصيره بمعزل عن الآخرين السنّة خاصة العرب منهم. وهذه الأمور تبدو من المتفقات بين جميع الجيران.

وبالرغم من أن الفسحة الزمنية أمام هذه الدول كي لا يتحول العراق الى مسرح حرب أهلية شاملة قليلة جداً، إلا أنه كان من المتوقع ـ على الأقل من السعودية ـ أن تطرح مبادرة يقرر فيها جيران العراق بصدق (ويضاف لأولئك الجيران مصر لثقلها الإقليمي) ضبط الأوضاع بديلاً عن الضبط الأميركي المستحيل. ان تبادر السعودية لمؤتمر من هذا النوع يستهدف تأطير اللعبة ضمن حدود معقولة بين المتحاربين، بحيث يستخدم كل طرف نفوذه في صالح قيام نظام وفق أسس معقولة تحترم مصالح شركائه في المواطنة.

هذا ما ينبغي أن تقوم به السعودية، لا ان تهدد بدخول الحرب الطائفية العراقية كما أفادنا عبيد، ولا أن تفتح جبهة حرب اقليمية مرة أخرى مع إيران، ولا أن تنتظر أن يقوم الأميركيون بدور بديل عنهم.



الصفحة السابقة