استدراج آل سعود لـ (الفوضى الخلاّقة)

الصراع الطائفي يهدد وحدة السعودية

بإمكان السعودية أن تقرر بداية الصراع الطائفي ولكن بالتأكيد لن تكون قادرة على ضبط إيقاعه ووضع نهاية حاسمة له، فضلاً عن السيطرة على تداعياته الاجتماعية والأمنية والسياسية في مدياته القريبة والمتوسطة والبعيدة.

اللجوء الى خيار الصراع الطائفي كبديل عن الحسم السياسي أو العسكري كان أميركياً بدرجة أساسية، ولكن تفجيره يتطلب إقحام دول بحجم السعودية التي تملك ترسانة طائفية ذات قوة تدميرية هائلة، ظهرت خلال الثمانينات حيث وظّفت مؤسستها الدينية للعمل بأقصى طاقتها للاضطلاع بمهمة تعبئة طائفية واسعة شملت الأجواء الثقافية والسياسية والاجتماعية، وأفضت الى تعميق الانقسامات الداخلية وتقطيع سبل التواصل بين فئات عديدة من المجتمع والسلطة. وكان من أخطر ما أفرزته تلك المرحلة ذبول الروح الوطنية، وانحسار مفهوم الدولة الوطنية على وقع التمزقات الداخلية التي تمظهرت في تصنيف الدولة باعتبارها فئوية وطائفية وفقدان العائلة المالكة الآهلية الكاملة كيما تصبح رمزاً لسلطة وطنية تمثّل فئات المجتمع كافة.

في ذلك الوقت، لم تكن أنوية التقسيم مخصّبة بدرجة كافية بفعل الدعم الخارجي (الأميركي بدرجة أساسية)، يضاف الى ذلك عامل آخر وهو عدم بلوغ ردود الفعل على الاحساس بالغبن السياسي والاقتصادي والثقافي درجة القطيعة النفسية والعملية مع الكيان الجيوسياسي القائم، بالرغم من مشاعر القهر والحرمان لدى أغلبية السكان ممثلة في الحجاز أو الجنوب او المنطقة الشرقية. وقد كانت ثمة فرصة تاريخية من أجل تصحيح الخلل التكويني لدى الدولة عبر إستيعاب القوى الاجتماعية والسياسية في المناطق كافة من أجل إحتواء مخاطر التقسيم التي قد تنشأ عن مشاعر الحرمان طويلة الأمد. ولابد من التذكير بأن الرابطة المعنوية بالدولة لدى عموم السكان لا تنعقد دونما إحساس بضرورتها، النابعة من وجود منفعة عامة، على أساس أن الدولة كفيلة بحفظ المصالح العامة وضامنة للحقوق المتبادلة. هذه الرابطة، بهذا المعنى، تقطّعت بوتيرة متسارعة خلال الثمانينات، وبدت الدولة وكأنها كيان فئوي مغلق فيما شعرت الغالبية بأنها خارج سياق عمل الدولة ووظائفها، وبالتالي كانت بذور الثقافة الانقسامية ناشطة بانتظار الظروف المناسبة التي تسمح بتوظيفها في مشاريع سياسية.

لقد تنبّهت العائلة المالكة في منتصف التسعينيات الى جفاف المشاعر الوطنية، التي تكافىء ضعف الولاء للدولة السعودية، فلجأت الى تنشيط الروح الوطنية عبر فرض مادة تعليمية مصممة لغرس الولاء للعائلة المالكة. لم تحقق هذه المادة نتيجة مرضية، والسبب ببساطة أن المدخل الى تنشئة ثقافة وطنية لدى السكان كان مضللاً، كونه تجاهل جذور المشكلة فيما انشغلت المادة التعليمية بمعالجة عوارض المشكلة وليس جوهرها. فقد نزع واضعو الثقافة الوطنية نحو إعادة انتاج وتعميم تاريخ، وثقافة، ورمزية، وهوية، ومذهب، وتراث العائلة المالكة ومنشأها المناطقي، ومعتنقها الأيديولوجي، وبالتالي أبقوا على أصل المشكلة. وللمرء أن يتصور كيف أن تلك المكوّنات التي ساهمت لعقود طويلة في تقسيم المجتمع تصبح ثقافة وطنية عامة أو أن تكون وسيلة لتنمية الروح الوطنية لدى السكان!.

قد يصبح الاعتداد بالقوة عاملاً تدميرياً حين لا تدرك الطبقة الحاكمة تموّجات سياساتها الطائفية والعوامل التي تشارك في تنضيج شروط التقسيم الداخلي. في الثمانينات كانت العائلة المالكة تتمتع بدعم دولي وغطاء عربي وإسلامي ومركزية سياسية إقليمية متميزة، وهو ما درأ عنها أخطار عدة. ويخشى أن تكون هذه التجربة مغرية لدى العائلة المالكة ما يدفعها لتكرار تجربة الصراع الطائفي، والإنغماس فيه حتى النهاية، إحساساً من مهندسي الطائفية في هذه الدولة بأنهم قادرون على إستعمال هذا السلاح الخطير بكفاءة عالية وتحييد ارتداداته.

على السطح، يبدو بريق المكاسب باستعمال خيار الحرب الطائفية مغرياً، فهو يلبي أهدافاً مباشرة، منها على سبيل المثال تجيير النشاط السلفي العنفي في الداخل أو المرشح عودته من العراق الى الخارج تحت عنوان مذهبي، خصوصاً وأن هذا العنوان مازال مدرجاً على قائمة أولويات العمل السلفي. بالمناسبة، يحقق هذا الخيار رغبة أميركية أيضاً فهو يوجه جزءً كبيراً من مخزون العنف باتجاه خصم آخر، سواء في العراق أو خارجه ويدخل ضمن ملفات سياسية أخرى: الملف النووي الايراني والحديث عن تمدد نفوذ طهران في المنطقة (وما الهلال الشيعي عن ذلك الخيار ببعيد)، وكذلك التجاذب السياسي على الساحة اللبنانية الذي تضفي عليه السعودية عبر حلفائها في قوى الرابع عشر من شباط طابعاً مذهبياً، وحتى فلسطين لم تسلم من الفيروس الطائفي عبر دس العنصر الايراني فيه. لم يكن مفاجئاً المفاضلة التي تطرحها مواقع حوارية سلفية تابعة لوزارة الداخلية بشأن التحالف مع اسرائيل لمواجهة إيران الرافضية!! دع عنك تراجع نبرة العداء للدولة العبرية منذ تصاعد الكراهية المذهبية.

ما تغفل عنه العائلة المالكة أن تطييف المناخ السياسي والاجتماعي في الداخل وتعميمه في الخارج، يلتقي في محصلة الارتدادات التي ستعقب انفجار الصراع الطائفي في نقاط مشتركة مع مشروع أميركي رئيسي وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يستند في جوهره الى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، وستكون السعودية في مقدمة الدولة المرشّحة للتقسيم، بسبب هشاشة بنية الدولة، وفشل العائلة المالكة في تحقيق مبدأ الاندماج الوطني، يترافق ذلك مع ما تفرزه السياسية الطائفية في الداخل من مشاعر لدى غالبية السكان تفضي في نهاية المطاف الى القبول بفكرة التقسيم طالما أنها سترفع عنهم الحرمان والغبن وتحررهم من القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تجدر الاشارة الى أن العائلة المالكة لا تحارب في الداخل بإسم الاسلام السني، بل بإسم مذهبها الوهابي الرسمي، وهذا لن يمنحها اصطفافاً داخلياً خصوصاً وأن المذاهب الاسلامية الأخرى المالكي والشافعي كانت ضحايا لسياسة تمييز مذهبية منذ احتلال آل سعود للحجاز وحتى اليوم وبالتالي لن يقبل أهل الحجاز إختطاف الاسلام وبأن تقود العائلة المالكة وأتباعها صراعاً بإسمه.

بدون أدنى شك، ستخسر العائلة المالكة في أية صراع طائفي تخوضه، ولن تعود عقارب الساعة للوراء هذه المرة، وستخرب بيتها بيدها تلبية للمشروع الأميركي التقسيمي الذي سيدخل حيز التنفيذ في اللحظة التي تكون فيها شروط التقسيم جاهزة. وللتذكير فحسب، فإن الفترة القليلة الماضية كانت كافية لاختبار ردود الفعل الداخلية على المناخ الطائفي الذي تساهم وسائل إعلام سعودية محلية وخارجية وكذلك بيانات وفتاوى طائفية صدرت من رجال دين يعملون تحت إمرة وزير الداخلية. فقد تبدّلت المشاعر لدى قطاع كبير من السكان، وبدأت النوازع التقليدية المذهبية تطفو على السطح بما ينذر باستقطابات مذهبية حادة، وتهدد بتصديع بنية الدولة، إذ لا يمكن الآن الحديث عن روح وطنية جامعة، بعد أن اجتاح الخطاب الطائفي الفضاء الثقافي والاعلامي والسياسي.

تقارير عدة صدرت مؤخراً تحذر من مغبة الصراع الطائفي الذي تقوده السعودية في المنطقة، خصوصاً بعد أن كشفت العائلة المالكة في مناسبات وممارسات متكررة عن نواياها بتجييش طائفي سني ـ شيعي على خلفية ما يجري في العراق من اقتتال طائفي، يعكس الى حد كبير فشل الاطراف العراقية المتصارعة وكذلك دول الجوار العراقي في تسوية الملف العراقي بصورة سلمية.

لقد سلّط تقرير نشرته مجلة (أهرام إبدو) المصرية باللغة الفرنسية الصادر في مطلع السنة الجديدة شارك فيه عدد من الباحثين والخبراء الاستراتيجيين على المخاطر التي تهدد وحدة السعودية في ظلّ الصراعات الطائفية التي تشهدها المنطقة ولا سيما في العراق بين السنّة والشيعة وعلى ضوء المشاريع الأميركية التي تطرح إعادة النظر بمستقبل المنطقة.

وذكر التقرير، الذي نشر موقع (الخيمة) مقتطفات منه، أن ثمة خطراً جدّياً يتهدّد وحدة المملكة، وتحدثت المجلة عن سيناريوهات لتقسيم السعودية تشمل قيام دولة شيعية في المنطقة الشرقية على أن يضمّ إليها الجنوب العراقي وشط العرب.

وذكّرت المجلة بتحركات الشيعة في السعودية التي كان أبرزها خلال العام 1979 حين تظاهر شيعة المملكة مطالبين الحكومة باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق وتخصيص كوتا لهم من النفط المستخرج في مناطقهم (المنطقة الشرقية). وقد أرسلت لهم الحكومة 20 ألف من رجال الحرس الوطني لوضع حدّ لهذه التظاهرات مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى وجرح عدد آخر واعتقال نحو 1200 شيعياً.

وتقول المجلة إن الولايات المتحدة الأميركية ترى أن سيناريو البلقنة الذي أصاب عدداً من البلاد العربية مرشح ليتكرر في السعودية التي يمكن أن تكون عرضة للتقسيم.

ويؤكد مصطفى مجدي الباحث في مركز الدراسات العربية والأفريقية أن الصراعات التي تدور في المنطقة العربية لا يمكن أن تحفظ الاستقرار في السعودية، بل على العكس من الممكن أن تقود إلى تقسيم حقيقي قد يحصل خلال 10 أو 20 عاماً. ويضيف مجدي أن الخطر الحقيقي اليوم يتمثل في وجود عناصر خارجية وخصوصاً العامل الأميركي الذي يعزز من الانقسام.

أما محمد عبدالسلام رئيس تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي فيرى أن السعوديين لديهم مخاوف أخرى غير المسألة الشيعية وأبرزها الإرهاب وتقلقهم جداً فكرة عودة المقاتلين السعوديين من العراق. ويشير التقرير إلى أن الأميركيين يعتبرون تقسيم السعودية إذا حصل مدخلاً لتقسيم في كل العالم العربي.

من جهته، يعرب مدير معهد الأبحاث والدراسات العربية أحمد يوسف عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة الأميركية تهتم بالسعودية لأن المملكة هي أكبر دولة خليجية مصدّرة للنفط وتدرك أنها مبنية على الثقافة المحافظة فإذا انهارت هذه الثقافة في السعودية سينسحب ذلك على بقية البلاد العربية.

وتذكّر المجلة بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي وضعه الكولونيل الأميركي المتقاعد رالف بيترز والذي يرسم فيه حدوداً جديدة للسعودية وبقية الدول العربية استناداً إلى التوزع الاثني والطائفي.

ويجعل هذا المخطط من المنطقة الشرقية في السعودية دولة شيعية عربية قوية بعدما يتمّ ضمّ المناطق الجنوبية في العراق ذات الأغلبية الشيعية إليها وكذلك حقول النفط في شط العرب الإيراني. ويقترح هذا المشروع قيام دولة سنّية مؤلفة من مكة والمدينة.

ويقول مصطفى مجدي إن واشنطن تسعى للسيطرة على موارد النفط وتوسيع حدود إسرائيل.

أما عماد جاد فيعتبر ان واشنطن تمتلك الآليات الفعلية للتأثير في الشارع السعودي، فيكفي أن يتوجه الأميركيون مباشرة إلى الشيعة في السعودية لدفعهم إلى التمرد والمطالبة بفتح ملفات حقوق الإنسان.

لكن جاد لا يرى أن الأميركيين اتخذوا بعد قرارهم النهائي بتقسيم السعودية وإلا لكانوا فعلوا ذلك منذ زمن طويل. ويضيف (لكن هل يكون ذلك في صالحهم في حال قرروا؟ إنهم يرون ان الشارع العربي اكثر تطرفا من نظم الحكم نفسها). وتخلص المجلة إلى اعتبار إحتمال تقسيم السعودية وارداً والسبيل لتفاديه يكون بأن تعامل الحكومة السعودية الشيعة بوصفهم مواطنين كاملي الحقوق.

من جهة ثانية، رأى الخبير الاستراتيجي في القضايا الإقليمية والدولية عماد رزق أن صراع الولاءات في العائلة المالكة السعودية يهدد المملكة وليس من المستبعد أن يؤدي إلى تفككها.

وأوضح أن انقسام العائلة المالكة السعودية في الولاء بين أوروبا أو أميركا أو بريطانيا أدى إلى نزاع العائلة غير أن التيار الموالي لأميركا هو الذي يهيمن حاليا على السلطة منذ التسعينيات، وبالتالي فهو الذي يريد فرض الهيمنة الأميركية على المنطقة، الأمر الذي يتجلى بشكل واضح في الخلافات العربية العربية.

ورأى رزق في حديث تلفزيوني أن اتهام السعودية بضلوعها في أحداث سبتمبر وصفقة اليمامة نموذجا للصراع داخل الأسرة وفي الوقت نفسه نموذجا لتنافس القوى الدولية على السعودية، مشيراً إلى أن القوى الكبرى لا يهمها مصير السعودية بقدر ما تهمها مصالحها. وأرجع رزق سبب اضطراب العلاقات السعودية مع كل من سورية وإيران إلى أن الرياض تسعى إلى إبعاد النفوذ السوري عن لبنان والإيراني عن العراق، وتطرق إلى احتجاج السعودية على نفوذ الشيعة وتهديدها بدعم السنة ورأى أنها سياسة أميركية وأن السعودية وكافة الدول العربية ستتعرض لتهديد الانقسام الطائفي إذا استمرت في مسايرة المشروع الأميركي، وتوقع استغلال واشنطن للأزمة الطائفية إذا اندلعت في السعودية من أجل الضغط عليها ومن ثم إخراجها من اللعبة السياسية. وأكد رزق على أن السياسة السعودية في المنطقة تعزز الانقسامات وتخدم السياسة الأميركية.

الصفحة السابقة