تفاهمات الرياض وطهران حول لبنان

تمرير الوقت أم احتواء الأزمة

يحي المفتي

بعد يوم واحد من الاضراب العام الذي أعلنت عنه المعارضة اللبنانية في الثالث والعشرين من يناير الماضي، برزت حقيقة جديدة لم تكن الأطراف الداخلية والخارجية مستوعبة لأبعادها، فقد تمكّنت المعارضة من إحداث شلل تام للدولة، وكان سقوط الحكومة قاب قوسين أو أدنى بما دفع فريق السلطة الى القيام بتدبير استثنائي يحول دون إنهيار السلطة بالكامل، حيث لجأ بعض المناصرين الى إقحام السلاح في التجاذب الداخلي، وقاموا بفرض حصار على طلبة جامعة بيروت العربية على طريق مطار بيروت الدولي، ثم اطلاق النار على عدد منهم، ما أسفر عن سقوط ثلاثة من الطلبة المصنّفين على المعارضة.

لا شك أن إنزال السلاح قد أحرج المعارضة التي تعهّدت بإجهاض أية محاولات الاستدراج للحرب الاهلية، ولكنه في الوقت نفسه أوصل لبنان الى نقطة إنسداد سياسي خطير، ما دفع بالسعودية الى التحرّك العاجل درءً لخسارة محققة لفريقها اللبناني الذي لم يعد قادراً على وقف إيقاع الاحتجاج السياسي المتصاعد. أوكلت العائلة المالكة الأمير بندر، رئيس مجلس الأمن الوطني، الضالع حتى النخاع في الملف اللبناني، الذي قام بجولة مكثّفة بين عواصم إقليمية ودولية بدأت بطهران ووصلت الى موسكو وواشنطن وباريس. وبالرغم من أن بندر بات معروفاً لكل اللبنانيين، كما للايرانيين والسوريين والروس، بأنه طرف غير محايد، وأنه ذو سمات سياسية أميركية، الا أن دوره يبقى مهماً. فحين ذهب الى طهران، كان يدرك الايرانيون بأنه جاء حاملاً رسالة مزدوجة سعودية ـ أميركية، فهو الوحيد بين أمراء العائلة المالكة الذي بإمكانه أن يتحدث كممثل أميركي وسعودي في آن واحد.

وصل بندر الى طهران بعد أن بلغ الوضع اللبناني درجة سخونة عالية، وقد يصل الى نقطة الغليان ثم الانفجار، وهو ما لا تريده السعودية، لأنها بالتأكيد ستخرج كما فريقها في السلطة خاسرة، لأن ذيول الأزمة في لبنان ستتمدد لتطال أماكن أخرى، والسعودية من بينها، التي تشحن حالياً المناخ العربي والاسلامي بلغة خصامية مذهبية، خصوصاً وأنها باتت تدرك خطورة هذا الشحن كون ارتداداته ستأتي من مصادر عدة هذه المرة، وسيترك تأثيراته على الداخل، فالعراق ولبنان واخيراً إيران، باتت ساحات مكلومة بفعل الخطاب الطائفي السعودي الذي حظي برعاية أميركية، وأن ما ينشأ عن ذلك الخطاب من تداعيات سيصيب الجزء الحيوي من الدولة السعودية.

ايران هي الأخرى، تجد نفسها محاطة بطوق عربي على وقع الشحن الطائفي والقومي، بما يضعها أمام تحديات أزمة خطيرة خصوصاً مع استرسال واشنطن في البحث عن رزمة ذرائع لشرعنة حربها على ايران، وبالتالي فطهران تحاول تبديد الاحتقان السياسي والمذهبي في المنطقة، الأمر الذي جعل اللقاء بين الجانبين السعودي والايراني ممكناً بل وضرورياً، من أجل مصلحة الطرفين. المشكلة تبقى دائماً أن الأمير بندر الذي يقدّم نفسه على أنه مفوّض أميركي مطلق الصلاحية لا يبدو كذلك حين يتعلق الأمر بإيران، فواشنطن تهمس في أذن الامير بندر بأن التفاوض مع ايران حول لبنان هو ورقة أميركية لا يجوز التفريط فيها، أو استعمالها لأغراض متعددة، وهو ما دفعه الى الانتقال سريعاً من طهران الى واشنطن لاطلاع الجانب الاميركي على طبيعة المشاورات التي جرت مع الجانب الايراني حول الملف اللبناني، وليست باريس بمنأى عنه التي مازالت ترى في لبنان جزءً من مجال نفوذها التاريخي الحيوي.

بندر سمع كلاماً من الاميركيين بأن لبنان جزء من المقايضة مع طهران، ولكن ليس على حساب الخلاف حول الملف النووي الذي تنفرد واشنطن به بعيداً عن كل حلفائها الاقليميين والاوربيين الذين لم يخفوا قلقهم من الاحادية الاميركية الكارثية.

في ضوء هذا التباين، لا ترغب السعودية أن تخسر كل شيء حين تقرر واشنطن تفجير الأزمة مع طهران، ولذلك فإن الامير بندر لم يحصل على غطاء أميركي بشأن التفاهم مع طهران بخصوص الملف اللبناني، ولذلك مالبث أن تبدّلت اللهجة السعودية حيال المقترحات التي كانت موضع تداول مع طهران حول تشكيل حكومة وحدة وطنية والمحكمة الدولية، ما عكسه أيضاً لاحقاً هجوم رئيس تيار المستقبل سعد الحريري على رئيس مجلس النواب نبيه بري، وتحميله مسؤولية تعطيل إقرار المحكمة الدولية، ثم قيام رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وبصورة منفردة ببعث رسائل الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يحثّه فيها على الاسراع بإقرار المحكمة الدولية وإن تطلب إدراجها تحت البند السابع، وهو ما زاد في توتير الوضع الداخلي.

عربياً، كانت زيارة الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى الى دمشق في الثاني عشر من فبراير محاولة للحصول على المزيد من الضمانات من أجل دعم مبادرة الجامعة العربية، التي يدرك أمينها العام بأن العامل الاميركي يلعب على الضد من نجاحها، ولذلك فهو يسعى الى تحشيد أكبر دعم عربي من أجل كسر الاحتكار الاميركي لقرار فريق السلطة في لبنان، أو إنقاذه من قبضة الاطراف الدولية التي تتحكم في إيقاعه السياسي.

السعودية التي تراهن على نجاح (لقاء مكة) الفلسطيني تتطلع الى تكرار اللقاء المكي لبنانياً، على الأقل من أجل تمرير مبادرة السلام المنتظر إعلانها في القمة العربية المزمع عقدها في الرياض الشهر القادم.

الاتصالات السعودية الايرانية تواصلت، وقد يكون الملف اللبناني مدخلاً لمزيد من الاتصالات إذا ما أراد الطرفان سحب فتيل الأزمة في المنطقة. لقاءات السفير السعودي عبد العزيز خوجة ونظيره الايراني محمد شيباني يأتي في سياق إبقاء حالة التواصل بخصوص الملف اللبناني، بالرغم من وجود أطراف في فريق الرابع عشر من آذار (وليد جنبلاط وسمير جعجع بدرجة أساسية) تتخوّف من هذا التواصل في غياب العامل الاميركي أو الفرنسي الذي ترى فيه هذه الأطراف عضداً لها، بل هي تعوّل على المواجهة المرتقبة بين طهران وواشنطن من أجل جني ثمارها لبنانياً واقليمياً.

التطوّر الايجابي الوحيد كان في العاشر من فبراير حيث بادر سعد الحريري بالاتصال برئيس مجلس النواب نبيه بري قبل اربعة أيام من الذكرى السنوية لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، والذي يأتي في سياق تهدئة الوضع الداخلي اللبناني وسط أنباء عن توصل الجهود السعودية الايرانية الى إتفاق أولي يعطي للمعارضة الثلث الضامن اضافة الى اصدار قانون جديد للانتخابات النيابية، ويعطي لفريق السلطة اقرار المحكمة الدولية. ولكن السؤال: هل هو اتفاق مبدئي أم صوري كجزء من عملية تقطيع الوقت على الطريقة اللبنانية؟

الصفحة السابقة