دولـة الـفـتـنـة

فجأة تفجّرت البؤر الطائفية في المنطقة دونما سابق إنذار بل ودون أسباب معروفة ظاهراً، وخيّل للمرء بأنه يخضع تحت تأثير مخدّر سلبه إرادته أو دسّ إليه جهاز بات يحرّكه دونما إرادة منه ولا إدراك.. ربما هي من المرات النادرة التي يدخل فيها كثيرون الى حلبة الطائفية دونما أسباب وجيهة، سوى أن خلطاً متعمّداً للأوراق في المنطقة يجعل القرار مسلوباً من أصحابه.. وكما هو شأن قضايا عديدة في منطقة الشرق الاوسط شديدة الالتهاب، فإن قضية الطائفية تكتسح المجال السياسي لخدمة أطراف من خارجها، فأميركا تحتل العراق وافغانستان وتعبث بإرادة اللبنانيين والفلسطينيين، وكيما تنسي أبناء الامة ذلك تشغلهم بالطائفية حتى تمرّر مشروعها الاستعماري بسلام.. لم تكن الولايات المتحدة تنجح في الضحك على ذقون هذه الامة لولا وجود قابلية لديها على ذلك، ولولا وجود أطراف من داخلها تجعل من تحقيق أهداف المشروع الاميركي ممكناً..

ليس ضرباً من التعسف والتجني القول بأن السعودية ونهجها السلفي كانا دائماً يعمل على عكس مسار التقارب والتفاهم بين المسلمين على اختلاف فرقهم ومللهم ونحلهم. فالسعودية تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم الاسلامي التي تنفرد بسلطة إحتكار تفسير الدين.. ومنها يصدر أكبر عدد من فتاوى التكفير، التي لا يكاد يسلم من شظاياها أحد من المسلمين خارج دائرة المذهب الوهابي، ولكل نصيبه من التكفير، على قاعدة مخالفة نهج السلف الصالح.

فهي تهيمن على ديار مقدسة وحرمين شريفين رمزا وحدة الامة الاسلامية، ولكنها لا تتورع عن هدم آثار هذه الامة، وتفرّقهم شيعاً وطوائف حين لا يكون هناك سبيل الى تحقيق أغراض سياسية سوى عبر إشعال فتيل الفتنة داخل الامة.

لو سألت أحداً من ضحايا الفتنة الطائفية عن أسباب اندلاعها، وتوقيتها، ودوافعها، لوقف حائراً.. فلماذا أخفى الضالعون آثارهم سريعاً في هذه الفتنة، حتى بات كثيرون منشغلين بتسجيل حضور في هذه الفتنة، دون إدراك، وكأن ثمة غريزة تملي عليهم الخوض فيما يخوض فيه صنّاع الفتن، الذين يتفرّجون بزهو الى ما أحدثوه وشغلوا الساحة العربية والاسلامية به..

وحدها الماكينة السلفية التي بقيت تعمل طائفياً دون توقف، حتى بعد أن شهدت الساحة العربية والاسلامية في بداية التسعينيات جهوداً طيبة من علماء المسلمين لجهة تقريب وجهات النظر، ووأد الفتنة، وتشجيع فرص التواصل، والتعايش السلمي بين المذاهب، وفتح باب الحوار بين أئمة المسلمين من أجل الاتفاق على قواعد للتفاهم والفهم المتبادل.

على الجبهة السلفية، كانت فتاوى التكفير تتدفق ولا تستثني أحداً قريباً كان أم بعيداً، وكان صنّاع الفتنة يتحينون الفرصة السانحة لاشغال الساحة مجدداً بالخلافات المذهبية، حتى تبرز مهاراتهم الفريدة في إدارة دفة الفتنة بحسب أهوائهم وأغراضهم، بل كانوا يهددون الأمة باستعمال هذا السلاح إن لم يركنوا لهم ويستجيبوا لمطالبهم..

لم يلفت إنتباه سوى قلة الى بداية انفجار الخطاب الطائفي في العدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو 2006، حيث بدأت اللغة الطائفية تغمر وسائل الاعلام السعودية، فكانت المفردات في النسيج اللغوي للخطاب الاعلامي السعودي ذات طبيعة طائفية، وقد قرأنا للأميركي والاسرائيلي تصريحات تستمد مفرداتها من تراثنا المذهبي، وتجعل من العدوان الاسرائيلي على لبنان قضية خلافية إسلامية.. فقد لجأ مسؤولون أميركيون واسرائيليون الى اللغة المذهبية من أجل إحداث إنقسام داخل الامة وكسر إجماعها على مقاومة العدوان.

لم تفلح هذه اللغة في اجتياح الفضاء الثقافي العربي والاسلامي خلال فترة العدوان الاسرائيلي على لبنان، خصوصاً مع نجاح المقاومة اللبنانية في صد العدوان، وسقوط الرهان الاميركي بتوابعه العربية (السعودية والمصرية والاردنية واللبنانية) على انزال هزيمة قاصمة بالمقاومة.. ولذلك، وقف الشارع العربي والاسلامي من طنجا الى جاكرتا الى جانب المقاومة، الأمر الذي أساء الى المراهنين، وجعلهم مصنّفين في خانة (أعداء الأمة).. ولكن بعد ارتفاع وتيرة التوتر الطائفي في العراق ولبنان، بدفع من الاميركيين، يضاف الى هذا التوتر تصاعد الخلاف حول الملف النووي الايراني أعيد تحريك الخطاب الطائفي مجدداً، وعلى نطاق واسع، وبدأت الماكينة السلفية بدعم من القيادة السياسية السعودية ووسائل إعلامها ومواقعها على الانترنت، باستدراج الامة الاسلامية الى السجال المذهبي..

من المفارقات المدهشة، أن أقلاماً ومواقع ليبرالية سعودية أصيبت بعدوى الطائفية، حتى لم يعد المرء يميّز بينها وبين أقلام ومواقع سلفية متشددة، فقد وقع المتنوّرون ضحية مكر طائفي سعودي، ونسي هؤلاء مهمتهم الاصلاحية الوطنية، كما نسوا أيضاً دورهم التنويري في إلغاء الوصاية السلفية على الدين والمجتمع والسلطة، فسقطوا في الفتنة، وخلعوا ثوب التنوير، وارتدوا ثوب الفتنة، وغادروا مواقعهم تحت إغراء ما وعدهم به من بغوهم الفتنة.

أعجب من مثقفين تنويريين أفصحوا في وقت سابق وبمرارة عن سخطهم من هيمنة الواحدية السلفية في المجتمع، ونادوا بتخفيض جرعة الدين السلفي في السلطة، وإذا بهم يشاركون الآن في توفير المزيد من الزخم والحشد للخطاب السلفي عن طريق الخوص في المعترك الطائفي الذي يدركون جميعاً بأنه جزء من صراع سياسي على مستويات محلية وإقليمية ودولية.

الصفحة السابقة