الملك عبدالله يعيد الإعتبار لسعود الفيصل

حل مقترح: تفاهم إيراني سعودي لحل المشاكل

محمد الأنصاري

الورقة التي ألقاها الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق في واشنطن ولندن، ورئيس الإستخبارات السعودية الأسبق، وذلك في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، والذي عقد في شهر مارس الحالي، أدهشت المراقبين للوضع السعودي. فقد تحدث الأمير بلغة مختلفة تماماً عما يجري على أرض الواقع، وكانت تحوي شحنة من الجرأة والإنصاف للمنافس أو الخصم غير مسبوقة في لغة السياسة السعودية، كما انها أيضاً تضمنت بعض ملامح حلول للأزمة في المنطقة.

ما لذي تغيّر في السعودية؟

هل هي مرحلة نضج متأخّر تصيب السياسيين من الأمراء؟

هذا لم نعهده من قبل!

هل الذي نقرؤه من الأمير الذي كان بالأمس يهدد بتدخل سعودي عسكري في العراق عبر وكيله نواف عبيد تحرر من الأعباء الرسمية فصار يتحدث بلغة جريئة كما تقول إيلاف (7 مارس).

ولكن متى كان رجال الحكم السعودي يشابهون نظراءهم في البيت الأبيض؟! ومتى انقطعت روابط الدم والمصلحة بين أطراف الحكم، لتتحرر بهذا الشكل المدهش؟! ومتى كان المواطن السعودي يتخلّص من قيوده الرسمية حتى يتخلّص أميرٌ من تلك القيود، في حين أننا نعرف أن أميراً مثل طلال، الذي لا يتولى منصباً رسمياً منذ عقود عديدة، يصرح علناً في قناة الجزيرة بأنه يحتاج الى إذن مسبق من الملك قبل أن يتحدث للإعلام؟

سيطرة الملك على الملف الخارجي

الأقرب أن الملك عبدالله استطاع بنسبة كبيرة السيطرة على ملف السياسة الخارجية، وإعادة الإعتبار الى وزير الخارجية سعود الفيصل، والى آل فيصل عموماً، وبينهم تركي الفيصل الذي يبدو أن أحد أسباب استقالته من منصبه كسفير في واشنطن تعود الى أن الجناح السديري قد عيّن له وزيراً للخارجية آخر يقوم بكل المهام من لبنان والعلاقة مع اسرائيل وتصعيد الملف الإيراني وغيرها وهو الأمير بندر بن سلطان.

ما يجعلنا نميل الى هذا القول التالي:

1) أن الملك عبدالله اكتشف خلال الأشهر الماضية أنه ضُلّل بمعلومات وتحليلات خاطئة قادته لاتخاذ قرارات خاطئة، كما أنه حُجبت عنه معلومات كانت في غاية الأهمية. من بين ذلك، أن الملك الذي يتمتع بعلاقات طيبة مع سوريا، قد أُوغر صدره ضد الأسد، وقدم له سلطان وبندر معلومات خاطئة ليس عن لبنان فقط بل عن الحلف السوري الإيراني الذي يراد له تدمير السعودية نفسها. فمثلا حين زار وليد المعلم السعودية، قال له الملك ببراءة وبلاهة بالغين: لماذا سمحتم لستة ملايين إيراني يحتلون العراق ويصبحون مواطنين فيه؟! ولماذا تتآمرون علينا بالتعاون مع إيران لتقسيم السعودية؟

ومن الأمثلة أيضاً، أن الملك عبدالله لم يكن يعلم بتاتاً أن اتفاقاً جرى وفي الرياض بين حزب الله وسعد الحريري تحت اشراف بندر، وقد علم ذلك قبل أسابيع فقط، ومن وزير الخارجية السعودي نفسه.

ومن ذلك أن السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد، أسرّ لعدد من السياسيين العراقيين بأن الملك عبدالله تعوزه المعلومات الصحيحة عن الوضع العراقي، فصار يصدق كل المعلومات التي تمرر اليه دون أن يقوم أحد مستشاريه بفلترتها.

المسؤولون العراقيون والإيرانيون والسوريون وبعض المسؤولين اللبنانيين والفلسطينيين، كلهم يصابون بالدهشة من ضحالة التحليل السعودي للأحداث على مستوى القمّة، والأخطر من ذلك اتخاذ قرارات متسرعة غير ناضجة بناء على معلومات خاطئة سهل تمريرها للملك (غير المفلتر!) من أجل دفعه لمواقف تتماشى مع الموقف الأميركي، اليميني المتطرف منه خاصة، والقاضية بتصعيد الصراع مع سوريا ومع ايران وإشعال فتنة أكبر في العراق. وقد كان هذا هو الموقف السعودي الى ما قبل بضعة أسابيع.

2) الذي تغير خلال الأسابيع الماضية، خاصة موضوع التواصل السعودي الإيراني بشأن ملفات المنطقة وعلى الأخص الملفين اللبناني والعراقي، حيث هدأ الأول على أمل التوصل الى تسوية وسطية، ويتمنى الكثيرون أن لو استطاع الطرفان السعودي والإيراني من تهدئة الوضع في العراق ايضاً. زيارة نجاد الى الرياض، كانت إشارة واضحة الى أن طريقة جديدة من التعاطي مع ايران قد تغيرت بصورة لافتة. هل كان ذلك مبادرة سعودية؟ على الأرجح أنها لم تكن كذلك، فالإيرانيون كانوا أصحاب المبادرة على الدوام وزياراتهم لا تنقطع للعاصمة السعودية، لكن الجانب السعودي كان الطرف المتشكك دائماً، والمتألم دائماً، وقد تصوّر خطأ هدف ذلك الإلحاح الإيراني.. لكنه فهم في النهاية أن أمامه طريقان مرّان: صراع أميركي ايراني يؤدي الى حرب تحرق السعودية ودول الخليج معها، دون أن ينهي النظام في ايران، إن لم يكن يسرع بانتاج قنبلتها النووية؛ والثاني، أن تتفق أميركا وإيران، فتصبح المحظية الجديدة، فيكون ذلك ضربة أكبر من سابقتها.

المهم في النهاية ان الملك على الأرجح، وبعقليته البدوية، وبحساباته البسيطة غير المعقدة، رأى أن لا مخرج من الأزمات القادمة الى بإيجاد تفاهم (ما) مع ايران، وهو لا يريد تكرار تجربة الملك فهد السابقة مع صدام حسين والتي ساقت الجميع الى محرقة اليوم. لا يريد عبدالله على الأرجح أن يتذكره شعبه بأنه انساق الى حرب تمّ تجريبها مثلها سابقاً، أتت على كل أرصدة السعودية الخارجية، مع العلم ان هذه الحرب لو وقعت وشاركت فيها السعودية فإنها ستكون أصعب من تلك الأولى وأكثر دماراً ليس للبلدين المتحاربين ولكن للسعودية نفسها ايضاً.

هذه الأمور كلها تشير الى أن ملف الخارجية قد عاد لسعود الفيصل، ولكن هذا لا يعني أن التيار السديري المسيطر قد تخلّى عن قوته، ولكن تشاء الصدف أن الأمير سلطان ولي العهد، كسب هو الآخر أرضاً على حساب شقيقه الأمير نايف الذي هو كما سلمان ـ أمير الرياض ـ قد أضعفا سياسياً. وسلطان الذي طبعه المراوغة، يحاول إرضاء الملك، وإظهار نفسه كرجل توافقي تصالحي لا يسعى الى الإصطدام معه كما كان ولا يزال يفعل نايف.

ولهذا السبب ربما، نرى أن بندر الرجل الأكثر شذوذاً في السياسة الخارجية السعودية، اضطر لتحوير وضعه كأداة أميركية في جهاز الحكم السعودي، الى ممارسة دور الوسيط لتهدئة الجبهة الأميركية الإيرانية، وتقريب الفرقاء اللبنانيين. ولعل هذا الدور السعودي الرافض للتصعيد في المنطقة، قد رضي به الأميركيون أو لم يكن لهم خيار إلا قبوله في حال استمر فشلهم المريع في العراق.

تصريحات تركي الفيصل

3) أما تصريحات الأمير تركي الفيصل فهي الأخرى تدخل في سياق مؤشرات (إعادة التوازن) للسياسة الخارجية السعودية، وذلك عبر (إعادة التوازن) في ميزان القوى بين أجنحة الحكم السعودي، وزيادة سيطرة (الملك) على القرار من خلال الوزير المعيّن سعود الفيصل، و(تكييف) عمل الأمير بندر وفق السياسة التي يصنعها الملك، ولربما (تحييد) جزئي لنشاطه، والحدّ من اندفاعته الحادّة باتجاه توثيق عرى العلاقة مع اسرائيل من جهة، كما هي حدّته غير المبررة تجاه دمشق.

ما قاله الأمير تركي في ورقته بأبو ظبي لا يمكن أن تمثّل وجهة نظر خاصة محضة، كما لا يمكن أيضاً اعتبارها (خارطة طريق) جديدة للسياسة الخارجية السعودية، من جهة ثباتها، وإجماع القيادة السعودية عليها. لكنها ـ في كل الأحوال ـ تعطي الإشارات الممكنة لاتجاهات السياسة السعودية الخارجية القادمة، ما لم تطرأ أمور أخرى في المنطقة قد تقلب المعادلات من جديد. بمعنى أن ما قاله تركي يمثل (سياسة اللحظة) وليس (الإستراتيجية) الدائمة، وإنها تعبر عن (التمني والأمل) كما قال هو، ولكن وفق شروط اللحظة الحالية، ولا تعكس بالضرورة (إمكانية) حدوث ما يُتمنّى.

ماذا قال تركي الفيصل؟ ما أورده من رؤى ومواقف في ورقته (التحديات التي تواجه دول الخليج العربية) يختصر في التالي:

ـ هناك أزمة على ضفتي الخليج، الذي يقطنه سنّة وشيعة، تغذيها كتابات تشق السنة والشيعة تأتي من خارج المنطقة هدفها (تقويض حركة التعايش السلمي بين أطياف المجتمع العربي بمختلف مذاهبه وعقائده التي ظلت قائمة على مدى قرون طويلة).

ـ أن الطرفين السني والشيعي غذّيا الأزمة، فمن جهة الشيعة وايران هناك من لجأ الى العنف لتصفية الحساب مع السنة، ووصفهم بالوهابيين والتكفيريين، والذين أشاعوا فكرة غير صحيحة أن السنة في دول الخليج سكتوا عن اضطهاد صدام لهم في العراق. وفي المقابل (هناك عناصر انطلقت من عالمنا السني بدعوة بغيضة لقتل من سموهم بالرافضة والتنكيل بهم، واجتمعت الفئتان في العراق الذي أصبح مَلْفى ومسرحاً لشتى أنواع الكره والبغض والمنكر).

ـ نجاد وعبدالله اتفقا على إخماد نار الطائفية المشتعلة في العراق ولبنان، وأن النظرة السعودية لإيران هي أنها (دولة جارة وصديقة تربطنا بها روابط تاريخية ومصالح اقتصادية وتقارب في نمط الحياة الاجتماعية). وأن الخلاف الطائفي قديم لا يجب أن يؤدي الى العداء والكراهية، وهو خلاف يصعب حله بين يوم وليلة. وأن الحل ليس بإبراز التنافر في المذاهب وتسخيرها للعداء بين الطرفين، وأن ما يجب التركيز عليه هو (رفاهية المواطن) في الخليج على الضفتين.

ـ ان الخلافات المذهبية حوّلت الى أفعال سياسية صرفة، وأن (السياسة المذهبية) خطر عظيم يبعث على الخوف والتوجس والإرتياب بين كلا الطرفين، وفي حال الإستسلام لهذه المخاوف والتوجسات (لن يكون هناك معنى لوجود نفوذ إيراني في العراق أو لبنان أو فلسطين، ولا لنفوذ سعودي فيها ، إذا كان الغرض أن يتواجه ويتصدى كل فريق للآخر هناك، وما يفترض أن يكون هو تعاون من أجل البناء وشراكة بين دول متجاورة تعمل معا من أجل إخراج المنطقة من الأزمات الخانقة التي تواجهها اليوم).

ـ بدل الحديث عن (هلال شيعي) و (مد سنّي) لا يمثل قاعدة حل لمشاكل المنطقة، (لم لا نأتي البيوت من أبوابها ونحول هذه النفوذ إلى استثمارات في العراق ولبنان وفلسطين ، ودعم للتنمية فيهما ، بل وبيننا أيضا فنتطلع إلى استثمار سعودي في مشهد أو شيراز، يقابله استثمار إيراني في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية أو في الجبيل ، وبذلك نُذهب عنا رجس التوجس والشك).

ـ المنطقة بحاجة الى حلول واقعية وليس الى حلول غيبية أو مهدي منتظر او إمارة اسلامية مزعومة لا تستطيع معالجة تحديات اليوم. انتظار مائدة من السماء، أو نشر أفكار متطرفة تشل القدرة وتورث التواكل وتشيع التعصب، والحل يكمن في (تأسيس فكر سياسي بَنّاء يخص أمور الدنيا، دون إغراق في الغيبيات، ومن ثم نشرع في فتح آفاقٍ للتعاون والبناء المشترك والتبادل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لمواجهة التحديات الحقيقية).

ـ المملكة تؤمن بإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، ولكن مع الإعتراف بـ (حق جميع دول المنطقة المشروع في الاستخدام السلمي لجميع أنواع الطاقة، بما فيها الطاقة النووية، ولقد حثت دول المجلس إيران لمرافقتها في هذا المجال. ولا يحق للمجتمع الدولي أن يكيل بمكيالين فيحرمنا وإيران بل يندد بنا جميعاً عندما نسعى إلى اقتناء أسباب المعرفة النووية من جهة، ويغض الطرف بل ويدير ظهره لما قامت وتقوم به إسرائيل التي أصبحت تملك القنبلة النووية).

ـ (مما لا شك فيه أن أي صراع ينشأ بين السعودية وإيران في لبنان سوف يمتد إلى خارجها، ولن يجد له من مشجعين سوى المتطرفين في الجانبين الذين لا يعيشون ولا يزدهر منطقهم السقيم والأعوج إلا في زمن الفتن والنزاعات، فإذا غابت الفتن أثاروها، وإذا اصطلح الناس فتنوا بينهم وأججوا الخلاف والشقاق، أما المشجع الآخر فأجنبي غريب، يعيش على خلافاتنا ويبرر وجوده بيننا بنزاعاتنا).

ـ لبنان مكان اختبار المصالح المشتركة بين السعودية وإيران، بعد أن اقترب النزاع من حالة الفتنة الطائفية: (ودفعاً للتنافس والشقاق فقد وجدتِ المملكة أنه من الضروري فتح حوار مع إيران بدلاً من الصراع معها في لبنان، لأن الصراع سيضر أولاً باللبنانيين كلهم، ثم بالعلاقة بين الجارين الكبيرين على ضفتي الخليج، وأخيراً وهو الأمر الأهم سوف يضر بالعلاقة المتوترة أصلاً بين السنة والشيعة، وهي علاقة لم نبذل بعد الجهد الكافي لعلاج اضطرابها بطرق تؤدي إلى تأصيل أسس للتعايش الحضاري في إطار روح التسامح الهائلة التي يفيض بها ديننا الحنيف، فإن لم نستطع فعل ذلك فعلى الأقل نمنع الاحتراب بين أتباع المذهبين).

ـ في العراق (هناك حاجة ملحة وضرورية إلى تعاون سعودي خليجي عربي إيراني يسعى حثيثاً إلى رأب الصدع دون انتظار حل الأزمة في لبنان.. وضع العراق لا يمكن تأجيله.. في العراق قوى سياسية لم تتعلم بعد فن التعايش وتقاسم السلطة... وعلينا ألا نسمح لها باستغلالنا من أجل تصفية حساباتها، والتمدد القسري على بعضها البعض مستخدمة سلاح التشدد والمذهبية، لتغطية أطماعها السياسية ، وتحقيق شهوة الزعامة والتسلط).

ـ وأخيراً هناك خطر التطرف والغلو الذي ينشر العنف والقتل والتدمير والتفجير (ومثلما اكتوينا نحن السنة بنار (القاعدة) وفتنتها، هاهم الشيعة يكتوون بنار وفتنة طائفة جديدة بينهم تدعى (جند السماء) رأينا شرها، وفعلها المنكر). لا يمكن لمفاوضات انت تنجح او اتفاقيات ان تحترم أو ثقة تؤسس بحضور هؤلاء: (وليكن العراق الساحة الأولى التي نؤسس فيها لموقف حازم ضد التطرف بكل أشكاله سنياً كان أم شيعياً، فهؤلاء هم الذين فرقوا بين العراقيين ودفعوهم إلى حالة من الاستقطاب، انتهت إلى ما نشهد اليوم من إرهاصات لتطهير عرقي قبيح).

الصفحة السابقة