قفزات متواصلة في الهواء

الـكـاريـزمـا الـمـسـتعـارة

حسن الدبّاغ

(أرى فيه قائداً مهماً جداً) هكذا وصف إيهود أولمرت الملك عبد الله في الأول من إبريل، خلال لقائه المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل في تل أبيب. هذا التوصيف المبالغ فرض نفسه على الصحافة الأميركية في سياق تعويل كبير على دور منظور أو مأمول للملك عبد الله في كسر الجمود في المفاوضات العربية الاسرائيلية. وقد نشرت مجلة نيوزويك الدولية مقالاً للكاتب الصحافي كريستوفر ديكي في عددها الصادر 9 أبريل مقالاً بعنوان (ثعلب الصحراء السعودي)، جاء فيه: أن الملك السعودية عبد الله كان غالباً ذا مسحة ضجر للرجل البسيط الذي عاش ليرى ذلك كله، وفي أحوال كثيرة قد كان له ذلك. فقد ولد قبل أكثر من 80 عاماً، في عالم من مقاتلي الصحراء حيث كان والده للتو قد غزا المدن المقدسة: مكة والمدينة، أو أقام دولة يحكمها عبد الله اليوم. لم يكن هناك نفط يتدفق من تحت الرمال، ولم تكن هناك إسرائيل. فالشرق الأوسط الحديث برمته، سواء كان للأفضل أم للأسوأ، قد نشأ في حياته.

ولكن الآن، وكما يقول أمراء سعوديون كبار وأعضاء في الحكومة، فإن عبد الله قد نشأ غاضباً (وعاطفياً) حيال الكوارث التي واجهت المنطقة، ولذلك قرر أن يضطلع بدور جديد. فالسعودية لن تلعب بعد الآن دور العاضد، فيما تعيش حليفتها الولايات المتحدة الفرقة. فقد نشأ عبد الله محبطاً، ضجراً، مع العجز إزاء العالم العربي المنقسم على ذاته. وكأنه يمتثل لخط جمهورية افلاطون (من يرفض أن يحكم يكون مرشّحاً لأن يُحكَم من قبل شخص أسوأ منه). ولذلك يحاول الملك العجوز أن يقود من الناحية كل قضية حساسة في الشرق الأوسط، من السلام العربي الاسرائيلي الى قضية دارفور.

إن الاندفاعة في المبادرة الدبلوماسية قد حيّرت واشنطن. ولكن مسؤولي بوش قلقون إزاء ما إذا كانت الانتقادات الجديدة لعبد الله ستؤدي في نهاية المطاف الى دعم سياسة الولايات المتحدة أو تقويضها. فقد فرم الملك كلمات قليلة في خطابه الافتتاحي لقمة الملوك والأمراء والرؤساء العرب في الرياض. فبدون إحكام دبلوماسي، أدان الملك عبد الله (الاحتلال الاجنبي غير الشرعي) للعراق. كما صرّح بقسوة (أن الدم المتدفق بين الأخوة.. يهدد بحرب أهلية). وقد علّق مسؤولون أميركيون بصورة عاجلة بأن القوات الأميركية تعمل في العراق تحت انتداب الأمم المتحدة، تجدّد في كل عام. ولكن ليس هناك من خطأ حيال الإحباط الغاضب لدى عبد الله بسبب فشل الاميركيين بفرض النظام، وبعد شن غزو غير مدرك العواقب، وولع العراقيين أنفسهم بالعنف.

إن التهديد بالحرب الأهلية بين اللبنانيين والفلسطيين قد أثار أيضاً عاطفته.. ويرى الحكام السعوديون اللهجة الملتهبة للرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد ضد إسرائيل رهاناً شديداً للدعم وسط العرب المحبطين، السنة والشيعة. ويعتبر الحكام السعوديون سباق إيران لأن تصبح قوة نووية تهديداً مباشراً للنفوذ السعودي، إن لم يكن وجودها، وكذلك تحريضاً للولايات المتحدة التي قد تجلب حرباً أخرى الى المنطقة.

وقد حذّر الملك عبد الله الرئيس الايراني أحمدي نجاد خلال زياته للرياض قائلاً:(هل تعتقد بأن تلك البارجات الحربية الاميركية هي هنا لمجرد النزهة؟) بحسب مصادر مقرّبة من العائلة المالكة.

مخاوف عبد الله حيال الطموحات السيادية الايرانية تعود، على الأقل، الى سبتمبر 2005. يقول تركي الفيصل، المدير السابق للاستخبارات السعودية والسفير السابق في واشنطن (بدا في ذلك الوقت كما لو أن العراق كان يقدّم الى الايرانيين على طبق من فضة). وقد التقى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل جورج بوش في مايو الماضي لحشد الضغط حيال مصادر القلق السعودية. وقال سعود الفيصل (لدينا كابوسان حيال علاقتنا بإيران، الاول هو أن إيران ستطوّر قنبلة نووية، والآخر أن أميركا ستقوم بعمل عسكري لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية).

وعلى أية حال، فخلال الصيف بدأ المسؤولون الاميركيون في الحصول على إشارات مختلفة جداً من المسؤولين السعوديين. فقد تم تعيين الامير بندر بن سلطان، الصديق الحميم لعائلة بوش وكان لسنوات الشخصية الكاريزمية في المشهد السياسي، مستشار الأمن الوطني لعبد الله. وفيما قام بندر برحلات متكررة لزيارة أعضاء في إدارة بوش، فإن تصريحات انتشرت في واشنطن بأنه ـ أي بندر ـ كان يؤيد خطاً عدوانياً واضحاً ضد ايران وحلفائها في المنطقة، وقد تشمل الجهود لتقويض حماس في المناطق الفلسطينية، ودعم الجهود الإسرائيلية لإخراج حزب الله في لبنان وأيضاً عمل عسكري ضد المنشآت النووية الايرانية. (وفي ذروة نشاط القناة الخلفية لبندر، استقال تركي الفيصل بصورة مفاجئة من أجل كما قال أسباب شخصية).

الصحافة الاسرائيلية نقلت دونما تأكيد رسمي بأن بندر قد التقى أيضاً مع رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت في بلد ثالث. لم يكن بندر حاضراً للتعليق، وأن المسؤولين الأميركيين رفضوا مناقشة محادثاتهم معه. مسؤولون سعوديون آخرون نفوا ببساطة بأن بندر التقى بأي عضو في الحكومة الاسرائيلية.

وسط هذا الضجيج، طار نائب الرئيس ديك تشيني الى السعودية لقضاء عدة ساعات مع الملك عبد الله خلال عطلة عيد الفصح. ولم تصدر كلمة رسمية واحدة حول اللقاء، ولكن بناء على مصادر سعودية مطّلعة كما هي العادة، إذا كان تشيني إعتقد بأن الملك سيؤيّد عملاً عسكرياً ضد إيران، فإنه مخطىء. ومنذاك، فإن سياسة عبد الله كانت واضحة بالحديث مع ايران وحلفائها ـ سواء أرادت واشنطن منه ذلك أم لا.

ولكنه أيضاً كان يتحدث بخشونه. في لبنان، تواصل السعوديون ليس فقط مع حلفائهم القدامي ولكن مع حزب الله أيضاً، للبحث عن استئناف وحدة الحكومة المنقسمة بين فرقاء معارضين ومؤيدين لسوريا. بل وبمزيد من الطموح، فإن عبد الله حاول أن يعيد بدء عملية السلام العربية الاسرائيلية. ولو كانت عواطفه تسير بوتيرة عالية من ذي قبل، فإنه لابد أن يكون بجانب نفسه حيال المصادمات العنفية المتزايدة بين حماس، التي تحصل على دعم ايران، وحركة فتح برئاسة محمود عباس، دافعاً الفلسطينيين باتجاه الحرب الاهلية. يقول وزير الخارجية سعود الفيصل (لا يمكن أن يتخذ موقفاً كهذا).

بدعوة قيادات فتح وحماس الى مكة، ضغط عبد الله بنجاح عليها لوقف القتال وتشكيل حكومة الوحدة. وحين واجه نقداً من إدارة بوش وإسرائيل لتقويض الجهود بعزل حماس، كان غاضباً، بحسب مصدّر مقرّب من العائلة المالكة.

الآن، عبد الله بات على السكة. فقد استعمل القمة العربية لإعادة طرح مبادرة السلام التي اقترحها قبل خمس سنوات. وتعد المبادرة بالاعتراف والسلام مع اسرائيل في حال انسحابها الى حدود 1967 وإيجاد حل متساوٍ لمستقبل اللاجئين الفلسطنيين. وبعيداً عن رفض الخطة، كما في الماضي، فإن أولمرت ترك الباب مفتوحاً لمحادثات مستقبلية، وقال (أن السعودية بلد هي في النهاية ستحدد قدرة العرب للتوصل الى سلام مع اسرائيل).

وفي وقت، حيث المستقبل في معظم الشرق الاوسط مكشوف، فإن سليل مقاتلي الصحراء قد يجد طرقاً جديدة نحو السلام. على الأقل، فإنه هناك ينظر، ويقود.

الصفحة السابقة