إجماع قمة الرياض

سلامٌ مع العدو وحربٌ على الصديق

عُقِدت قمة الرياض في ظروف إستثنائية وفي ظل أوضاع بالغة التعقيد في كل من العراق، لبنان، فلسطين، الصومال، دارفور، التداعيات الامنية للملف النووي الايراني على المستوى الاقليمي. هذه الملفات برزت في ظل تمزقات خطيرة في النسيج الرسمي العربي، فيما يحفر اليأس عميقاً في أوساط الشعوب العربية إزاء شلل الحكومات والجامعة العربية. أرادت السعودية أن تجعل من قمة الرياض حدثاً استثنائياً، وأريد لها أن تكون قمة مصالحة عربية وإعادة نفخ الروح في العمل العربي المشترك، وفي الاجماع العربي من أجل تمرير مبادرة استسلام جديدة تحظى بإجماع عربي بعد أن طبخت على عجل في الشهور الماضية بين أطراف الاعتدال بالمقاييس الاميركية ووزيرة الخارجية في إدارة بوش كونداليزا رايس وحكومة أولمرت.

المبادرة العربية/السعودية كانت صيغة مختلفة، فقد كانت مصممة لاسقاط مبدأ عودة اللاجئين وإحلال خيار التوطين بتمويل خليجي.. فهناك مبالغة في إسباغ النجاح على القمة..في الواقع الغمامة الاعلامية الكثيفة أريد منها أن تسوّق نجاحاً وهمياً. إسرائيل رفضت من حيث المبدأ المبادرة السعودية بعد أن أبدت استعداها للقبول بها كمبدأ للتفاوض ولكنها أعربت عن رفض صريح بعد يوم من اعتراض واشنطن على ما جاء في كلمة الملك عبد الله من توصيف الاحتلال الاميركي في العراق بأنه غير شرعي. فأرادت تل أبيب الافصاح عما تحفّظت عليه وقبلته بمرارة.

ولكن الموقف الاسرائيلي تبدّل لاحقاً وعاد أولمرت وامتدح المبادرة العربية وقيادة الملك عبد الله، تمهيداً للقاء قمة ترسم تفاصيلها رايس وأطراف أخرى في المنطقة. لم يكن مؤمّلاً لأن تحدث القمة اختراقاً أو معجزة سياسية فالملفات شديدة التعقيد وخصوصاً في ظل الاستقطاب الحاد في العالم العربي بعد تقسيمه الى معسكرين: معتدلين وأشرار.

إذا كانت أجندة القمة متوقفة على تسويق المبادرة السعودية فإن موقف الحكومة الاسرائيلية الاولي واضح لأنها بحسب عمرو موسى تريد التطبيع فحسب، وترفض الحقوق الفلسطينية الشرعية، وهي ما عوّلت أطراف عربية في معسكر الاعتدال على إقناع حكومات عريبة أخرى بالتنازل عنها ولكنها واجهت رفضاً. من الواضح أن قضايا القدس، ووقف الاستيطان، وعودة اللاجئين خطوط حمراء حتى الآن.

قمة الرياض لم تكن معنية بملفات المنطقة كأولويات على جدول أعمالها، على الأقل هكذا أرادت السعودية التي قبلت استضافة القمة من أجل تحقيق منجز (المبادرة السعودية للسلام) كيما تكون مبادرة عربية. ولذلك، لم تأخذ القضايا العربية والاقليمية الساخنة حيزاً هاماً في المداولات العلنية والسرية للقادة العرب. بل لحظ المراقبون غياب أو بالأصح تغييب قضايا على درجة كبيرة من الحساسية والخطورة مثل التجاذب السياسي بين الفرقاء اللبنانيين حول المحكمة والحكومة، فيما لم يلتفت الى قضايا أخرى ذات صلة بالمشاكل اليومية للشعوب العربية ومنها: الفقر، والبطالة، وتصاعد وتيرة الجريمة المنظمة وصولاً الى موضوعة الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تراجعت بدرجة حادة خلال العام الماضي بعد أن كان الآمال معقودة على أن تكون أولوية كبرى في أجندة الحكومات العربية.

بصورة إجمالية، كانت أمام قمة الرياض قضية واحدة: إعادة تفعيل المبادرة السعودية/العربية للسلام، وقد أجمع القادة العرب عليها بالإجماع في الثامن والعشرين من مارس، وكان ذلك من وجهة النظر السعودية نجاحاً كبيراً. ومن اللافت أن قرار الموافقة بالاجماع على المبادرة أعقبه وضع آلية محددة من أجل تنفيذه، فيما لم تحظ الملفات الأخرى باستثناء دارفور الى حد قليل بتوجّه عملاني لعلاقتها بضغوطات دولية.

إذن كانت المبادرة السعودية للتطبيع الشامل مع الدولة العبرية وحدها القضية الجوهرية في قمة الرياض، وبقية الملفات ثانوية وتندرج في إطار تحقيق الحد الأدنى من الالتزام العربي المتبادل، ولذلك لم يكن اللبناني الذي كان ينتظر من القمة إعانته على الخروج من مأزق سياسي مرشح لأن يأخذ أبعاداً أمنية خطيرة، ولربما هو ما دفع فريق من اللبنانيين للإستعانة بمجلس الأمن على قضاء حوائجه السياسية، ولربما كان يدرك مسبقاً مهمة القمة فأراد الانتظار ريثما تقضي الرياض وطرها من القمة لتعقد قراناً مع مجلس الأمن يكون مهره حرية واستقلال وسيادة لبنان تحت عنوان المحكمة الدولية.

بالنسبة للعراقي، فالحال لم يختلف كثيراً فبالرغم من العبارة القاسية التي وجهها الملك عبد الله الى الاميركيين في خطابه الافتتاحي متهّماً إياهم بأنهم (إحتلال غير شرعي)، الا أن هذه القمة لم تضع آلية فاعلة كتلك التي وضعت لتفعيل المبادرة مع الدولة العبرية من أجل حقن الدماء ودعوة أخوة التراب من أجل تحقيق مفهوم المصالحة الوطنية وتجسيد مبدأ العيش المشترك، كل ذلك لم يحصل، واكتفت السعودية بإعادة تلاوة ما اتفقت عليه مع حلفائها في معسكر الاعتدال في تعديل مواد الدستور العراقي، وتوسيع المشاركة، التي يصعب تحقيقها في ظل حمامات دم متنقلة، تكاد آثار (الاعتدال) تنطق بإسم المتورطين فيها.

قضية دارفور، ولولا ارتباطها بأطراف عربية مثل مصر التي مازالت تتحفظ على وجود قوات دولية في السودان خشية تداعيات مستقبلية معروفة، فإن القمة أرادت أن تهدي إجماعها، غير المعهود في القضايا العربية المصيرية، الى القوى الكبرى بالموافقة على إرسال قوات دولية الى دارفور. تعهّد الملك عبد الله للرئيس السوداني عمر البشير بعدم تحوّل هذه القوات الى قوات غازية كان مثيراً للشفقة، فالشيم القبلية لا تصنع قراراً دولياً ولا تؤثر فيه، ولذلك لم يأخذ البشير تعهّد الملك عبد الله على بياض، وإنما وضع قيداً إنقاذياً يمثل حلاً وسطاً حين قبل بتواجد قوات أفريقية مدعومة تقنياً ولوجستياً بقوات دولية.

أما الصومال، الدولة العربية المحتلة من قبل أثيوبيا، فإن قمة الرياض تعمّدت عدم الالتفات إليها لأن الحمل ثقيل والمسؤولية أثقل عليها، خصوصاً وأنها تدرك بأن الشعوب العربية لا يمكن أن تفسّر ما جرى في الصومال بغير ما فسّر به سعود الفيصل وجود القوات الأميركية في العراق، فهل وجود القوات الأثيوبية في الأراضي الصومالية كان له صفة أخرى، هل للنزهة مثلاً؟!

ماذا يعني ذلك كله؟

ببساطة، أن قمة الرياض جاءت لتقطف ثمار نشاطات دبلوماسية سرية قادتها السعودية بالتعاون مع حليفيها المعتدلين للغاية مصر والاردن برعاية أميركية بدرجة أساسية وأوروبية بدرجة ثانية من أجل إعادة تفعيل المبادرة السعودية على أن يتم التخلي عن عنصري: اللاجئين، والقدس. وفيما قبلت أطراف فلسطينية مقرّبة من الرئيس محمود عباس التنازل عن أكثر من نصف الحق الفلسطيني في موضوع عودة اللاجئين، كانت السعودية ممثلة في الأمير المثير للجدل والريبة بندر بن سلطان تراهن على إقناع عدد من الدول العربية بالتنازل عن حق العودة، وتقديم مساعدات سخيّة لهذه الدول لاستضافة المهجّرين من ديارهم ظلماً وعدواناً وتواطئاً.

شعرت القيادة السعودية خلال مشاورات ممثلها مع قيادات عربية برعاية رايس ومشاركة أولمرت، بأنها تسير في حقل ألغام قد تتفجر تحت أقدامها، خصوصاً وأنها تعمل داخل (المقدّس) وتقايض على الحقوق المقدّسة والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني، وهو ما يسبغ عليها صفة (الخيانة) كيف وهي تدّعى خدمة الحرمين الشريفين، وتقطع الصلة بثالثهما، وماذا تقول للفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم بغير ذنب، ومتى كان الشتات خياراً فلسطينياً نهائياً، وماهي الاجابة التي ستقدّمها للعرب الذين ينظرون الى حق العودة جزءً مصيرياً من القضية الفلسطينية.

وفيما يبدو، ومن حسن الطالع أن تحوّلات سياسية هامة حالت دون التنازل عن القدس وعودة اللاجئين، فليس هناك من القادة الاسرائيليين من هو على استعداد لقبول مبادرة بيروت، ولا إدارة بوش قادرة على رعاية عملية سلام من أي نوع، وهي الراحلة عما قريب الى مثواها السياسي والبيولوجي بنهاية العام القادم، يضاف الى ذلك إصرار قوى الممانعة الفلسطينية والعربية والاسلامية على رفض المساومة على حق العودة والقدس.

كان التشديد على القبول بالمبادرة السعودية/العربية (بكافة عناصرها) كفارة عن ذنب المعتدلين وربطاً على مواقفهم كيما لا يعودوا لما نهوا عنه من تسويات تحت الطاولة ومشاورات الغرف المغلقة في عمان وشرم الشيخ قبل أن تنتقل الى واشنطن وغيرها. فكان شرط قادة عرب القبول بالمبادرة السعودية/المعرّبة لاحقاً أن تكون مشفوعة بعبارات تلزم الدول العربية قبل الدولة العبرية، فكان النص التالي واضحاً في رسالته (التأكيد على تمسك جميع الدول العربية بمبادرة السلام العربية كما أقرّتها قمة بيروت عام 2002 بكافة عناصرها والمستندة الى قرارات الشرعية الدولية

ومبادئها لانهاء النزاع العربي الاسرائيلي واقامة السلام الشامل والعادل الذي يحقق الامن لجميع دول المنطقة ويمكن الشعب الفلسطيني من اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف).

تجدر الإشارة الى وهن خفي أريد إهماله في القمة العربية، وهو مسألة اللاجئين الفلسطينيين رغم التركيز من قبل أوساط سياسية واعلامية عليها إحساساً منها بخنوع قمة الرياض عن طرحها بصورة حازمة وواضحة. كان مثيراً للانتباه السقوط السهوي اللافت في المؤتمر الصحافي الذي عقده سعود الفيصل وزير الخارجية، وعمرو موسى، الأمين العام للجامعة العربية حين تحدّث الاخير عن الحقوق الثابتة التي يجب أن تكون مفاوضات السلام على أساسها، فذكر القدس، ووقف الاستيطان، وما أشبه، وكاد أن ينطق بحق العودة ولكن ما لبث أن سحب الحروف التي تومىء الى ذلك الحق، مستعيضاً عنها بتغليظ القول في الموقف الاسرائيلي المتعنت حين قال بأن (اسرائيل تريد التطبيع فحسب).

نص القرار الصادر عن القمة هو الآخر كان مثيراً، لما فيه من عناصرقوة لصالح المبادرة السعودية المعرّبة حكماً، يبدأ بتكليف لجنة وزارية خاصة لمتابعة الاتصالات مع الامين العام للجامعة العربية والدولة الاعضاء في مجلس الأمن واللجنة الرباعية والاطراف المعنية بعملية السلام (بما فيها إسرائيل بطبيعة الحال)، وبدء مفاوضات جادة، وحشد التأييد لهذه المبادرة العربية، وعلاوة على ذلك توّجت البيان بدعوة (حكومة إسرائيل والاسرائيليين جميعاً الى قبولة مبادرة السلام العربية) التي أقرّت في بيروت 2002.

لم تكن الدعوة الى السلام مقبولة عربياً وفلسطينياً ما لم تصحبها دعوة موازية برفع الحصار الاقتصادي عن الشعب الفلسطيني (ومن الخزي القول أن دولاً عربية كانت شريكة كاملة في هذا الحصار)، ووقف الاعتداءات المتكررة على المدن الفلسطينية قتلاً وهدماً وتشريداً.

بالرغم من حضور (الاجماع) كمبدأ في إمضاء القرارات العربية، وفي القلب منها إقرار المبادرة السعودية/ العربية، الا أن هذا الاجماع لم ينعكس في مشاركة القادة العرب، ولا في أدوارهم، فقد غاب المغرب العربي عن المشاركة الفاعلة في ملفات المنطقة، فقد أبعد المغرب عن مناقشة ملفات العراق ولبنان والسودان، وربما هو ما دفع ملك المغرب محمد السادس الى الغياب عن القمة، كما دفع الزعيم الليبي معمر القذافي للاحتجاب غاضباً من سلوك القادة المعتدلين، حيث عدّ القمة مجرد امتثال لإملاءات أميركية، والتي قلبت الأولويات رأساً على قلب فصارت ايران عدواً بدلاً من إسرائيل وصار القضية الكبرى هي الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة.

كل شيء في هذه القمة مثيرٌ ويدعو للتأمل، حتى اختيار اللجنة الرباعية العربية التي كانت تصميماً أميركياً خالصاً، وهي المؤلفة من الدولة المصّنفة في خانة المعتدلين، أي السعودية ومصر والاردن والامارات العربية المتحدة، وهي التي ستضطلع بدور المتابعة في حشد التأييد للمبادرة العربية، والتفاوض مع الاسرائيليين وصولاً الى الاتفاق على المبادرة.

نخلص في قراءة نتائج القمة بالتذكير بما قاله الكاتب والاكاديمي محمد المسفر في مقالته بعنوان (بعد كل قمة عربية تحدث كارثة للعرب): ان وراء كل قمة عربية تحدث لامتنا العربية كارثة: في عام 1981 عقدت قمة في المغرب لدراسة مواضيع متفرقة من بينها الوضع في فلسطين والاعتداءات الصهيونية علي جنوب لبنان، وقدم مبادرة بإسم الأمير فهد ولي العهد السعودي في ذلك الزمان وتم اعتمادها في مؤتمر قمة الرباط وبعدها تم اجتياح لبنان في منتصف عام 1982م، في قمة القاهرة عام 1990 حدث بعدها ادخال جحافل الجيوش الغربية وتقدر بـ 800000 الف جندي منتشرين في جزيرة العرب ومصر ومياه البحر الاحمر والخليج العربي وحلت الكارثة في شباط (فبراير) 1991 بتدمير العراق ومحاصرته لثلاثة عشر عاما، وبعد مؤتمر قمة شرم الشيخ العربية الأمريكية حدثت مجزرة قانا في جنوب لبنان، وفي عام 2002 بعد مؤتمر القمة العربية في بيروت بساعات اجتاح الجيش الاسرائيلي الضفة الغربية ودمر مخيم جنين للاجئين، وفي اقل من عام تم احتلال العراق علي الرغم بأن إحدى فقرات البيان الختامي لقمة بيروت تدعو الي عدم المساس بالعراق وان أي عدوان عليه يعتبر عدوانا على الوطن العربي. ويخلص للقول:

أتوقع كوارث كبرى تحدث في هذه المنطقة من العالم وأهمها عندي هو قبول آل سعود بالجلوس جنباً الى جنب مع الاسرائيليين سراً أو علانية للتفاوض على حقوق الشعب الفلسطيني وأهمها حق العودة غير القابل للتفاوض حوله ومدينة القدس، أشير الي خطورة الفقرة 3 من قرار تفعيل المبادرة (...)، والاتصال بالاطراف المعنية بعملية السلام (...) وهذا تشريع للتطبيع المباشر مع اسرائيل دون ان تقدم الاخيرة أي تنازل للشعب الفلسطيني. وهذه احد الكوارث القادمة علينا. انتهى

وفي الأخير يمكن القول: لقد حققت القمة للدولة العبرية أكثر مما حققت لدول عربية تعيش المحنة مثل العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال.

الصفحة السابقة