لماذا تحدث الإنقلابات العسكرية

(السعودية نموذجاً)

محمد شمس


(إنه لأمر مستحيل بالنسبة لأولئك القادرين على استخدام القوة

أو مقاومتها أن يقبلوا طوعاً بالبقاء خاضعين دائماً.

بالنسبة لأولئك الذين يحملون السلاح، فإنهم

دائماً يقررون مصير الدستور) (أرسطو).

دور الجيش في معظم الدول ليس منحصراً في الجانب العسكري فحسب، بل وأيضاً في الجانب السياسي، بالرغم من ضرورة إبقاء العسكر بعيداً عن التدخل في السياسة وأن يطيعوا أوامر سادتهم المدنيين. ويبدو واضحاً أن تدخل الجيوش في السياسة أمرٌ محتم في معظم دول العالم إن لم يكن كلها. جزئياً هذا بسبب عدم وضوح الفواصل بين المؤسسة العسكرية والفضاء السياسي، خاصة إذا ما أعطيت مفردة (السياسة) تعريفاً واسعاً. وسبب آخر للتدخل هو ـ جزئياً أيضاً ـ أن تدخل العسكر في السياسة أوسع من حصره في حيازة السلطة واستزراع حكومة عسكرية. فتدخل الجيوش قد يتخذ أشكالاً متعددة، بعضها تدخل معتدل، وبعضها تدخل عميق يهزّ أركان السلطة. هناك أربعة مستويات للتدخل العسكري في السياسة:

1) التدخل من أجل التأثير على المؤسسة السياسية لتغيير سياساتها أو بعض منها، خاصة فيما يتعلق بالميزانية العسكرية. ويمكن القول بأن معظم جيوش العالم تمارس هذا المستوى المحدود من التدخل.

(2) هناك مستوى آخر من التدخل يمكنه عرضه كـ (إبتزاز) للسلطة السياسية القائمة. حيث تهدد القيادة العسكرية الحكومة المدنية من أجل تلبية مطالبها. والتهديد عادة ما يكون باستخدام القوة، أو عبر الإحتجاج من خلال الإستقالة الفردية والجماعية لقيادة الجيش، وهذا أمرٌ مشهود وقد حدث مراراً في دول عديدة.

(3) مستوى التدخل الثالث الأشدّ، هو (الإزاحة) أي تغيير الحكومة القائمة ووضع أخرى مدنية مكانها ومراقبة الوضع عن بعد، وهذا ما قام به عسكر تركيا أحياناً، وكذلك حدث في بعض البلدان العربية كالعراق بين عامي 1936-1958.

(4) التدخل الأخير والأشد في المستوى، هو أن يقوم العسكر بالإطاحة بالحكومة المدنية القائمة، ووضع بديل عسكري لها، اي حكومة يضعها العسكر ويسيطر عليها ويديرها بشكل مباشر (حكم العسكر).

السؤال هو: أين تقع الإنقلابات، أي أين تقوم الحكومات العسكرية. لا تقوم الإنقلابات وتنتعش إلا في الدول التي توفر مناخاً ملائماً يدفع بالعسكريين للإنقلاب. هناك مجموعة من العوامل التي تجعل بلداً ما أكثر عرضة للإنقلاب من غيره. الإنقلابات تقع في الدول التي تفتقد الحكومة المدنية فيها الشرعية، أو حين يكون الإعتماد على القوة الباطشة في السيطرة على الوضع السياسي، وحين تفتقد الدولة المؤسسات الديمقراطية التي يشارك فيها المواطن في إدارة العملية السياسية، وأيضاً تقع الإنقلابات في الدول الوليدة الجديدة، وفي الدول التي تتعرض لهزات داخلية جراء الصراعات الأثنية والطائفية، وفي الدول التي لا تستطيع السيطرة على الجيش ابتداءً كأداة من أدوات الدولة، وأيضاً حين تتعرض دولة ما لأزمات خانقة سياسية واقتصادية، وحين تكون الدولة عرضة للغزو الأجنبي، وهناك الكثير من الإنقلابات تقع في الدول بفعل وتآمر أجنبي/ غربي خاصة.

الشرعية

مقدار الشرعية التي يحظى بها النظام السياسي يلعب دوراً حاسماً في تفادي الإنقلاب العسكري. ماذا تعني الشرعية؟ إنها تعني خضوع المواطنين الطوعي للنظام السياسي وعدم القيام بأعمال تشكل تحدياً لحق النخبة الواقفة على رأسه في ممارسة الحكم. الخضوع الطوعي قد يتأتى عبر الإنتخابات الديمقراطية التي تعتبر مؤشراً على قبول أكثرية المواطنين بنمط معين من الحكم وبطبقة محددة من الحاكمين لهم برامج واضحة يدركها الجمهور حول ما سيقومون به. والإنتخابات تعتبر وسيلة واضحة ومعترف بها عند الجمهور ـ إن شاركوا فيها بنسبة معقولة ـ تضمن خضوعاً طوعياً من الأكثرية الناخبة للحاكم أو الطبقة الحاكمة.

ولكن أكثر دول العالم الثالث تفتقد هكذا نوع من الشرعية، ولهذا فهي عرضة للإنقلابات. إن الفشل في تطوير مؤسسات ديمقراطية، والإعتماد المفرط على القوة في البقاء في السلطة دون استخدام الوسائل السلمية، وكذلك فإن فشل تلك الأنظمة العالمثالثية في توفير إنجازات اجتماعية واقتصادية، وتآكل مصادر الشرعية التقليلدية.. كل ذلك مجرد مظاهر تفيد الباحث في استقراء مستقبل هذا النظام السياسي أو ذاك. في مثل هكذا ظروف، قد يقتحم مغامرون من الضباط مراكز الحكم ويستولون على السلطة معتمدين أولاً على صمت الجمهور، أو قبوله بإزاحة الحكم القائم، أو حتى قبوله بهم كحكام بديلين. هذا ما حدث في انقلاب مصر عام 1952، وفي العراق عام 1958م، حيث تظاهر المواطنون داعمين القادة الإنقلابيين.

لقد كانت مصر ـ مثلاً ـ تعيش أوضاعاً مضطربة لسنوات قبل الإنقلاب، حيث الإغتيالات والحرائق وتغيير الوزارات، والتدخل الإنجليزي السافر في الشأن السياسي المحلي.. بل والهزيمة العسكرية مقابل إسرائيل، وفضيحة الأسلحة الفاسدة، وغيرها من القضايا، تجمعت كلها لتحفز الضباط على القيام بانقلابهم. وشيء شبيه بهذا حدث في العراق وغيره.

في بعض الدول، كالسعودية التي تعرضت هي الأخرى لسلسلة من الإنقلابات الفاشلة على مدى عقود عديدة، فهي شأنها شأن غيرها ليست محصنة ضد هكذا نوع من التغيير، طالما أن الشرعية متآكلة. هناك حديث يدور حول (الشرعية التقليدية) وهي الشرعية التي تأتي من غير طريق الإنتخابات والعملية الديمقراطية. فبعض الدول ـ كالسعودية ـ وجدت لها زعماً يحقق لها بعض الشرعية، فرفعت شعار الإسلام كمصدر لشرعية الحكم معتمدة على الوهابية. لكن هذه الشرعية التقليدية في جذب الولاء قاصرة على شريحة من المجتمع التي تدين بالوهابية، وهي في كل الأحوال لا تزيد عن عشرين بالمئة من السكان، هم عدد من يدين بالوهابية، مع افتراض أن كل الوهابيين يؤيدون الحكم القائم ويرون شرعيته، وقد ثبت أن هذا غير صحيح، بدليل أن من يقوم بالعنف اليوم هم من نفس الشريحة.

ثم إن هذه الشرعية الدينية اندغمت بصراع أشبه ما يكون بالأثني/ الطائفي/ المناطقي، وبالتالي فإن انحياز العائلة المالكة لفئة وتمثيلها لها مذهباً ومنطقة ومصالح، فضلاً عن أن تلك الفئة الوهابية هي أداة السلطة في الحكم والمستحوذة عليه، ولها تراث دموي حديث ضد فئات المجتمع وشرائحه، كل هذا يجعل من شرعية العائلة المالكة ليست فقط ناقصة ومتآكلة، بل يمكن اعتبار استحصال تلك الشرعية (الدينية/ الوهابية) خسارة الشرعية (الدينية/ العامة) من شرائح المجتمع التي تمثل الأكثرية، وهي كلها لا تدين بالوهابية وتنظر اليها على أنها عدو مثلما تنظر الوهابية نفسها اليها.

وإذا أخذنا بعين الإعتبار، فشل النظام السعودي، وعلى رأسه العائلة المالكة، في تبني الإصلاح السياسي السلمي التدريجي ـ ربع أو نصف الديمقراطي! ـ ورفضه توفير الحدود الدنيا (من التنفيس الداخلي) عبر قيام مؤسسات المجتمع المدني وحرية الإعلام واحترام الحدود الدنيا من حقوق الإنسان، فإن الطريق الذي يبقى مفتوحاً أمام الباحثين عن التغيير، هو الإستعانة بالجيش كأكبر قوة منظمة في الدولة قادرة على تغيير نظام الحكم، أو أن الأوضاع غير الطبيعية التي تعيشها المملكة تحفز بعض العسكر للإنخراط في تنظيمات تستهدف في النهاية استخدام القوة العسكرية لتغيير الوضع القائم.

لا شك أن طلب العون من قبل أحزاب وفئات سياسية مهمشة من الجيش للتدخل في السياسة وتغيير الوضع القائم أمرٌ خطير، لكن الكثيرين ـ كما تشهد على ذلك تجارب دول تعرضت للإنقلابات ـ يرون تدخل العسكر أهون بكثير من استمرار نظام مدني مستبد وفاسد لفترة طويلة، ويرون في التغيير العسكري فاتحة لتغييرات قادمة، أو يرون أن مواجهة الإنقلابيين كطبقة حاكمة أهون بكثير من مواجهة طبقة سياسية أو عائلة مالكة تمرست في التلاعب واستخدمت العنف في حدوده القصوى وبشكل غير مبرر في معظم الأحيان. زد على هذا، فإن بعض الدول التي شهدت تغيرات ديمقراطية مهمة، كما في تركيا، فإن بعض اللاعبين الخاسرين من العملية الديمقراطية قد يطلبون تدخل العسكر، كما هو واضح الآن، ولكن العسكر حين يتدخل فلن يكون لصالح فئة مدنية، بل على حساب الحكم المدني، وهذا ما حدث في تركيا فعلاً وبشكل متكرر، كما حدث في الباكستان وبنغلاديش.

بيد أن الشرعية يحتاجها الإنقلابيون حين ينجحون في إسقاط الحكم المدني أيضاً. كثير من تلك الإنقلابات نجحت في صيانة وبناء شرعية للإنقلابيين، وعبر وسائل مختلفة، من بينها:

ضبط الوضع الأمني؛ وتحقيق إنجازات إقتصادية واجتماعية، وهذا عادة ما ينجح فيه الإنقلابيون في سني حكمهم الأولى: كوريا الجنوبية، مصر في سنوات ثورتها الأولى، وعبدالكريم قاسم في العراق، وتايوان، وغيرها. وهذا ما أدهش الباحثين، فأرجعوا السبب الى أن مؤسسة الجيش أكثر انضباط وأقدر على ضبط الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بعقلية عسكرية، حيث يتم تحويل الضباط الى موظفين كبار يديرون مؤسسات الدولة فتتجمع فيهم خصلتان: خصلة الإنضباط والإلتزام، وخصلة الخبرة البيروقراطية.

بعض الإنقلابات تطور شرعيتها من خلال صناعة قيادة كارزمية، مثل عبد الناصر. أو من خلال تقليص استخدام القوة المفرطة، أو من خلال الإتكاء على مصادر تقليدية للشرعية: ولاءات دينية وقبلية، أو عبر تبنّي أيديولوجية جديدة، اشتراكية، قومية وما أشبه. أو من خلال توظيف النجاح في السياسة الخارجية لتكون واحداً من مصادر الشرعية (مواجهة اسرائيل بشأن فلسطين، أو مواجهة الهند بشأن كشمير، أو مواجهة الباكستان بالنسبة للبنغلاديشيين، أو مواجهة كوريا الشمالية من الجنوبية، أو التمدد وتوسيع نفوذ الدولة في أقاليم متنازع عليها كما في أندونيسيا سوهارتو) وهكذا.

الأزمات السياسية والإقتصادية

في الغالب، فإن العسكر يتدخلون في السياسة أو يقومون بانقلاب حينما يكون وضع الدولة والمجتمع غير طبيعي، ويعيش أزمة إما بسبب السلطة أو بسبب صراع أهلي داخلي (نيجيريا في 1966) حيث تدخل العسكر بحجة حماية الدولة من التفكك. وفي الغالب أيضاً، فإن الإنقلابيين لا يغادرون مواقعهم إلا في حال وقوع أزمة أيضاً، يثبت من خلالها أن المجتمع لا يريد ولا يحبذ بقاءهم (عسكر كوريا الجنوبية وسوهارتو أندونيسيا). الإنقلابيون في البداية يتدخلون فيحلون الأزمة، فيأكلون من رصيد نجاحهم فيها لمدة قد تطول كثيراً، ولكنهم في النهاية يتحولون الى نظام مدني، بعد أن ينزعوا عنهم ملابسهم العسكرية!، وتتفشى فيهم أمراض سابقيهم المدنيين، من فساد واستبداد وفشل، فتتطور الأزمة ولا تحل إلا بانقلاب آخر، أو بثورة شعبية تطيح بهم، أو بإعلان انسحابهم من الحكم وتسليمه للمدنيين، حين يجدوا أن المجتمع لا يقبل باستمرارهم في السلطة، أو أن ذلك الإستمرار قد يكلف البلاد الكثير من العنف والدم.

الأزمات الإقتصادية والسياسية الحادة قد تشجع العسكر لاستثمار السخط الشعبي كمبرر للسيطرة على السلطة. وحين ينجحون في حل الأزمة الإقتصادية كما حدث في انقلاب سوهارتو في أندونيسيا والإنقلاب العسكري في تايلاند، تتطور لدى العسكر القناعة بأن لهم الحق في الإستمرار بالحكم، وهو ما حدث بالفعل قبل أن يفشلوا مجدداً. كل الدول في العالم قد تواجه أزمات عميقة، ولكن (عدد) تلك الأزمات وأسبابها وطبيعة الإستجابة لحلها مختلف. في الدول الديمقراطية قد تستقيل الحكومة، أو لا ينتخبها الناس مرة أخرى إن كانت الإنتخابات على الأبواب، وقد تتراجع الحكومة عن بعض برامجها الإقتصادية مثلاً إذا ما ووجهت بسخط وشغب في الشارع (ضريبة الرأس في عهد ثاتشر). أما في دول العالم الثالث التي تغيب عن كثير منها المؤسسات الديمقراطية، تحدث الإضطرابات رداً على الأزمات واحتجاجاً عليها، وتتواصل المظاهرات أحياناً، وتنفجر أعمال الشغب، وقد تتطور الى ثورة أو الى تدخل عسكري عبر الإنقلاب، حيث تعتبر الأجواء ملائمة جداً لذلك (انقلاب سوار الذهب على النميري).

على سبيل المثال، كانت هناك أزمة من نوع ما قبل كل الإنقلابات التي شهدتها مصر عام 1952، وسوريا عام 1949، وايران 1952، والعراق 1958، وسودان النميري عام 1985، وتركيا عام 1980، وانقلابات موريتانيا المتكررة، وكذلك انقلابات فيجي، وبنغلاديش والباكستان. في مثل تلك الظروف المتأزمة، يستعيد العسكر العبارات التي رسخت في داخلهم (ثقافة عسكرية) بأنهم هم حماة الدولة والمحافظين على مصالح الأمة وليس المدنيون الأغبياء المترهلين، وأنهم هم عماد الدولة، وأن واجبهم الحفاظ عليها وقطع يد الحكام الفاسدين، وبالتالي فهم يعطون لأنفسهم الحق في التدخل لتصحيح الوضع بطريقتهم في أي وقت يشعرون فيه بأن ذلك ضرورياً.

في مصر، بين 1945 و 1952، يمكن وصف تلك الفترة بفترة العنف المحمي، حيث شهدت الدولة موجة من الإغتيالات السياسية، واعتماداً مفرطاً من الحكومة على القمع لإبقاء سلطة العرش مستديمة على كامل التراب الوطني، وقاد ذلك الإستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين وغيرهم من المثقفين الى اضمحلال مستمر لشرعية العائلة المالكة الحاكمة. وقد عكس الإضطراب السياسي في مصر قبل الثورة نفسه على شكل حكومات قصيرة العمر، ما تلبث أن تتشكل حتى تقال. أما الوضع الإقتصادي خاصة بالنسبة للأكثرية الفلاحية فأصبح أكثر سوءًا. وجاءت هزيمة الجيش المصري في فلسطين في حرب 1948، لتكشف حجم الفساد المستشري في القصر والمتعاونين معه، ولتخلق تلك الهزيمة سخطاً بين ضباط الجيش الكبار. أيضاً فإن تدخل السفارة البريطانية الصارخ والفاقع في السياسة المحلية، مترادفاً مع وجود قواعد عسكرية بريطانية على الأرض المصرية، كلا الأمرين أقنعا المواطن المصرية أنه في واقع الأمر تحت احتلال مباشر من قبل قوة إمبريالية. وجاء السؤال: من يستطيع أن يواجه القصر، ويواجه البريطانيين غير الجيش؟!

نفس الصورة يمكن رسمها بالنسبة للعراق، ففي عام 1949م، بعض الضباط الساخطين، والذين خططوا لاحقاً لانقلاب عسكري، رجعوا من فلسطين مهزومين، ورأوا أن الأوامر التي أعطيت لهم من السلطات العليا، منعتهم من المشاركة الكاملة في الحرب ضد الدولة اليهودية الجديدة.

الجيش السوري أيضاً تأثر بهزيمة فلسطين/ النكبة. فكان أن قام الجيش السوري بأول إنقلاب (عربي!) بمجرد أن عاد مهزوماً من الحدود وذلك عام 1949 على يد حسني الزعيم. وقد اعتبر إنقلاب الجيش المهزوم على السلطة السياسية دفاعاً عن شرف الجيش في خضم صراع حاد بين السياسيين والعسكريين حول مسؤولية الأداء الضعيف في حرب 1948م.

الجيش المهزوم ربما يكون أكثر خطراً من الجيش المنتصر. وقد تأثرت الإنقلابات الثلاثة الأولى في العالم العربي في مصر وسوريا والعراق بالهزيمة الأولى، كما تأثرت أيضاً بالأوضاع السياسية والإقتصادية المتأزمة. فقبل انقلاب 1958م في العراق، وقعت انتفاضتان شعبيتان وأخمدتا، الأولى في فبراير 1955م، حينما حاول زعماء مدنيون إشعال انتفاضة شعبية ضد حلف بغداد. والثانية جاءت بعد العدوان الثلاثي على مصر في نوفمبر 1956م، ولكن نوري السعيد، قمع الإنتفاضتين. مضافاً الى ذلك كانت هناك بعض الصعوبات الإقتصادية، وكانت تلك الإنتفاضتان مؤشراً على حاجة النظام لتغييرات اجتماعية ضرورية تطالب بها أجيال شابة جديدة وطبقات اجتماعية قد تشكلت، كانت تبحث لها عن دور في النظام السياسي، وتمثيلاً واقعياً بين القوى السياسية التقليدية العتيقة والعجوزة التي قاومت التغيير المتدرج فتحطمت عبر الإنقلاب العسكري بعنف وتمت تصفيتها.

في السعودية، ورغم تصاعد الإيرادات النفطية منذ منتصف الأربعينيات الميلادية، إلا أن الدولة نخرها الفساد، وكان الشعب نصف عار، وخزينة الدولة تم تفريغها من قبل الأمراء، وكان الحكم (الأبوي) يفرض قيوده الصارمة على الحياة الإجتماعية والسياسية، وكانت هناك شرائح مجتمع جديدة وأجيال جديدة تبحث لها عن موقع وتطالب بالتغيير في حدوده الدنيا. ولما كانت الملكيات في الغالب رعناء، فقد توجهت الأنظار الى الجيش المشكل حديثاً من عناصر مدينية/ حجازية في الغالب، وتبين أن الإنقلابات الفاشلة كانت تحظى بدعم شعبي لو نجحت، في ظرف سياسي واقتصادي بالغ السوء. والمدهش ان العائلة المالكة لم تغير من نهجها، وما خفف من وقوع انقلابات خاصة بين 1970-1982، هو أن الوضع الإقتصادي بدأ بالتحسن الى حد ما، لا لأن العائلة المالكة قد ضبطت فسادها، بل لأن أموال النفط كانت بالحجم الكبير الذي ترك شيئاً للشعب.

الإنقلابات العسكرية التي وقعت في البلدان العربية المجاورة كان لها هي الأخرى انعكاس على الجيش السعودي. فبعد انقلاب العراق 1958، خرج طلاب المدرسة العسكرية في الطائف وهم يلوحون بقبعاتهم: باقي اثنين، واحد (المقصود الملك سعود) وحسين (الملك حسين). وانقلاب الشمراني الفاشل ايضاً في منتصف الخمسينيات الميلادية يمكن عزوه الى التأثير المصري. فالإنقلابات الناجحة تشجع غيرها على الوقوع.

وهذا الإنقلاب الأخير الذي أعلن عنه الشهر الماضي جاء في فترة اقتصادية بالغة الصعوبة. ففي الوقت الذي تجني فيه العائلة المالكة أكبر إيرادات نفطية في تاريخها، نرى في المقابل الفساد يزداد، والطبقة الوسطى تضمحل، والفقراء يزدادون فقراً، والخدمات تتدنى، والأكثر أهمية هو انهيار سوق الأسهم الذي أتى على الجزء الأعظم من ثروات المواطنين. ولا يمكن أن تمرّ هذه الأزمة بدون تبعات سياسية. ولا بد أن الإنقلابيين الجدد، كانوا يدركون حجم السخط الشعبي على العائلة المالكة من جوانب عديدة: سياسية حيث لا إصلاحات، وحيث القمع، وحيث المفارقة واضحة بين النظام السعودي وكل الأنظمة المجاورة فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية والخدمية. واقتصادية، حيث البطالة المتزايدة والتعليم السيء وفشل سياسات الإسكان وغياب الرقابة المالية وتصاعد حدة الفساد مع تصاعد الإيرادات، وحيث غياب التنظيم، وسرقة المواطن في وضح النهار عبر الأسهم والمكاتبات العقارية وغيرها.

السعودية ومنذ 1985 تمرّ بأزمات اقتصادية وأمنية وسياسية وفكرية وأيديولوجية وتربوية وتعليمية متلاحقة، وحتى الآن لم تحل أزمة واحدة منها، رغم تبدل الأحوال وزيادة الإيرادات، وإن مثل هذه الأزمات المزمنة ليس فقط أكلت من رصيد العائلة المالكة وشرعيتها، بل جرّأت المواطنين على مواجهتها، ودفعت بمجاميع عديدة للإطاحة بها أو تغيير مسارها. وما نشاطات القاعدة والتيار السلفي عامة منذ بداية التسعينيات الميلادية الماضية وحتى الآن إلا دليلاً على عمق تلك الأزمة التي أصابت ليس الأبعدين، بل حتى أولئك المحسوبين في دائرة الولاء للعائلة المالكة.

طبيعة العسكر

أين تكمن قوة العسكر؟

بالطبع تكمن القوة الأساس في أنه يمسك بالسلاح، ولا شيء أقوى من السلاح.

لكن هناك أمراً آخر ذو أهمية بالغة، وهو أن الجيوش في كثير من الأحوال أكثر تنظيماً من بقية مؤسسات الدولة، وتتمتع الجيوش بالإنضباط الشديد، والتنظيم التراتبي، ومجموعة من القيم الخاصة بالعسكريين، تفصلهم عن المجتمع المدني روحاً وعقلاً وممارسة، وهي كلها تساعد في زرع الإستعلاء لدى العسكريين مقابل المدنيين (الساسة) كما تشعر القائد العسكري بحجم القوة التي يمتلكها في حال أصدر أوامره لمرؤوسيه من الرتب الأدنى.

يضاف الى هذا، فإن تحديث الجيش بالأسلحة الحديثة يغري قادته بالإنقلاب، وكلما كانت مؤسسة الجيش قوية مترابطة كبيرة الحجم وبيدها السلاح المناسب، كلما تعاظم خطرها. وقد لوحظ في السعودية ـ على سبيل المثال ـ أن أغلب الإنقلابات جاءت في فترات تحديث الجيش، خاصة القوة الجوية. يكفي أن نعرف أن أول انقلاب معروف في الأربعينيات الميلادية والذي استهدف قتل الملك عبدالعزيز، وهي المحاولة التي رأسها الحجازي عبدالله منديلي الساخط على حكم الوهابية النجدية للحجاز، اعتمدت في أحد جوانبها على استخدام الطائرات في قصف مخيم الملك ومن معه. وكذلك فإن أخطر انقلاب مرّ على الحكم السعودي عام 1969م كان أحد أهم ركائزه استخدام الطيران في القصف، بل نجد أن الإنقلاب الحالي الذي كشفت السلطة عن بعض تفاصيله في ابريل الماضي، حوى حديثاً عن استخدام الطائرات، والتي لها أهمية بالغة في بلد مترامي الأطراف كالسعودية.

تحديث الجيش لا يرتبط فقط باستخدام السلاح، وإنما يعني تطوير الجندي والقيادة، وتوسيع قابلياتهم، وفتح الآفاق أمام طموحاتهم، وزيادة مهارتهم وتواصلهم مع العالم الخارجي، وكل هذا يشجع على مطالبة العسكر بالمزيد من السلطات والتدخل أكثر في الشأن السياسي. باختصار إن تحديث الجيش يخرج ضباطاً لهم مطامح النخبة السياسية، فإذا ما كانت أجواء البلاد السياسية مغلقة وإذا ما كانت تمرّ بأزمات متواصلة، فإنه على الأقل يفكر في العمل على إحداث انقلاب عسكري شامل لتحقيق الهدف.

الحكومة السعودية النجدية، أسست الجيش السعودي على أنقاض جيش دولة الحجاز، أما قوات الإخوان النجدية فقد تحولت الى قوات قبلية، وجرى تطويرها الى الحرس الأبيض ثم الحرس الوطني. كان آل سعود ـ ولازالوا ـ بحاجة الى الإثنين. الجيش النظامي لا بد منه لحماية الحدود، وحماية الدولة من الشرور القادمة من الخارج، من اليمن، ومن مصر الناصرية، ومن صدام حسين، ومن إيران الخميني (اسرائيل لا تشكل خطراً!). والحرس الوطني قوة موازية لمواجهة التمردات الداخلية، وكذلك لموازنة قوة الجيش في حال قرر الإنقلاب، فالجيش السعودي لا يوثق به كثيراً، في حين أن القوة البدوية القبلية التابعة للحرس أكثر ولاءً وأقل خطراً لأن قادة الحرس وعناصره أقل طموحاً باتجاه السلطة السياسية وأقل تعليماً ومهارة. ولهذا استخدم الحرس بكثافة في قمع الداخل كما حدث في المنطقة الشرقية عام 1979م، ومع جهيمان أيضاً.

الجيش كان على الدوام بقيادة مدينية، حجازية. والحرس نجدي وهابي. ولما تكررت الإنقلابات، أُقصي الحجازيون عن الجيش منذ بداية الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، فيما يشبه المذبحة، خاصة في القوات الجوية، وتولى الضباط النجديون منذئذ كل المراتب العليا في الجيش، في حين أوكلت المراتب الدنيا للقادمين من المنطقة الجنوبية. ومع هذا، فإن الثقة في الجيش لاتزال ضئيلة.

أما الحرس، فلازال أثيراً لدى آل سعود، وقد بدئ بخطة تطويره منذ منتصف السبعينيات الميلادية، حيث أنشئت مدارس محو الأمية بين عناصره، وطعمت عناصره ببعض المتخرجين من الجامعات، كما تمّ تسليحه ببعض الأسلحة المتوسطة، وطائرات الهيلوكبتر، تحسباً لتوسيع دوره في حال الأزمات الداخلية أو في حال المواجهة مع الجيش نفسه. ولكن زيادة تحديث الحرس الوطني قد تزيد من جديد الخوف منه، وتطور بين قيادته طموح النخب السياسية.

السيطرة على العسكر

وهي مشكلة تواجه كل الدول في العالم. في الدول الديمقراطية كان الحل عبر تأسيس سيطرة ديمقراطية على العسكر وعلى جهاز الإستخبارات، وعبر تقعيد الإستقرار من خلال الإصلاحات السياسية والإقتصادية المستمرة، للحفاظ على حيوية النظام الديمقراطي.

ومع أن كثيراً من دول العالم الثالث صارت لديها الخبرة في التعامل مع الإنقلابات، خاصة دول عديدة في العالم العربي (سوريا مثلاً والتي تعد أكثر دولة عربية تعرضت للإنقلابات الناجحة والفاشلة) إلا أن خطر الإنقلابات لازال قائماً رغم الإجراءات الإستباقية. من بين هذه الإجراءات المتعارف على استخدامها للتقليل من خطر الإنقلابات التالي:

1 ـ حصر عدد أفراد الجيش ومنعه من التضخم عددياً. فكلما كانت نسبة عدد أفراد الجيش الى المجموع الكلي للسكان قليلاً، كلما تضاءل الإنقلاب. فعدد الجيش الصغير يمكن ضبطه من جهة، ويمكن إشباع رغباته ورغبات قيادته من جهة ثانية من حيث الميزانية والخدمات والرواتب. والطريف أن القوى الإستعمارية التي خلقت عدداً غير قليل من الجيوش العربية، أبقت عدد تلك الجيوش صغيراً وتحت السيطرة ولا يتزود إلا بأسلحة بسيطة متدنية، حتى لا يتمرد على صانعيه. وحين جاءت الحكومات في فترة ما بعد الإستقلال زادت من حجم الجيش وتسليحه، فأصبح هذا الأخير اللاعب الأكبر في السياسة!

العائلة المالكة السعودية اعتادت هي الأخرى على جعل الجيش السعودي وبكافة فصائله البرية والبحرية والجوية لا يزيد عن 60 ألف جندي، حسب التقديرات، والأقرب أن العدد هو أقل من ذلك. وزاد الأمراء عدد أفراد القوى الأمنية التابعة لوزارة الداخلية ليصل عدد موظفي الداخلية في كل القطاعات الى أكثر من 350 ألف شخص، في حين يبقى الحرس الوطني في حدود 30 ألفاً، اكتشف أثناء حرب تحرير الكويت أن أكثر من نصفهم مجرد مسجلين يستلمون الرواتب ولا يمارسون عملاً في الحقيقة. ويبدو أن الخطر الخارجي الذي يهدد الدولة كلما تضاءل، كلما كان النظام أقدر على تقليص عدد الجيش، وعدم اعتماد التجنيد الإجباري. والعائلة السعودية الحاكمة مطمئنة الى دعم الغرب لها بالسلاح والمقاتلين، ولذا فاهتماماتها محلية، وهي لا تخشى هجوماً اسرائيلياً أو إيرانياً أو عراقياً، وإذا ما جاء مثل هذا الهجوم، فتجربة 1990-1991 يمكن أن تتكرر ويستدعى الجنود الأجانب لحماية العرش السعودي.

2 ـ تعمد معظم الدول الى إجراء تبديلات في القيادة العسكرية بين حين وآخر، للخبطة الإنقلابيين إن وجدوا. وفي السعودية يقوم الأمراء إضافة الى ذلك بإحالة الضباط على التقاعد المبكر وهم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر، وإلحاقهم بإحدى المؤسسات الحكومية لينتفعوا منها، أي يتم إبقاؤهم في دائرة المنتفعين من الحكم ومراضاتهم عما حدث لهم من الإقالة المبكرة!

3 ـ اعتادت الأنظمة على منع الجنود من ممارسة العمل السياسي أو الإرتباط بحزب من الأحزاب، ولكن هذه الممنوعات لا فائدة منها في بلدان عديدة، فالجيش مهما جرى فصل أعضائه عن المجتمع، لا بدّ وأن يتواصل مع المجتمع ويحسّ بمشاكل المواطنين، وإذا ما اطمئن الى سلامة العملية الديمقراطية والإصلاحية الداخلية ـ كما في الدول الديمقراطية ـ فإنه يلتزم بذلك في أغلب الأحوال، أما إذا كان الحال كما في البلدان العربية، فإن الجيوش تكون قريبة من الهم العام وتتدخل فيه عبر الإنخراط في تنظيمات تستهدف قلب نظام الحكم.

4 ـ تحويل الجيوش الى جيوش أيديولوجية (عقائدية) بحيث يصبح الجيش جزءً من العملية السياسية، وخادماً لأيديولوجيا النظام كما في ايران الحالية وكما في الصين، وبالتالي فإن الجيش المحكوم بقيادات مدنية، لا يستطيع الإنقلاب نظراً للأيديولوجيا التي يحملها في الأساس.

5 ـ وللسعوديين تجربة خاصة بهم في محاولات منع الإنقلابات. فالأمراء حين وجدوا أن جزءً من المشكلة يعود الى أن فئات اجتماعية غير موثوقة، كالحجازيين فإنهم جردوهم من سلطاتهم في الجيش بشكل شبه نهائي في عملية (تنجيد الجيش) منذ بداية الثمانينيات الميلادية الماضية. وحين وجدوا أن بعض القبائل (شمر والعجمان وغيرهما) والمناطق والمذاهب غير موثوقة، لم يسمحوا لها بالخدمة في الجيش ابتداءً، كما هو حال الشيعة والإسماعيلية. ولذا أُبقي الجيش كما الحرس بيد (نجد/ أهل التوحيد).

ومع هذا، حين وجد الأمراء أن نزعة الإنقلاب متأصلة، خاصة من القوات الجوية، دفعوا بعدد غير قليل من الأمراء ليصبحوا طيارين عسكريين، ولذا فإن أكثر من نصف الطيارين العسكريين السعوديين هم من الأمراء أنفسهم. زد على هذا فإن وزارة الدفاع بيد الأمراء، وقيادة الجيش بيدهم من الناحية الفعلية، وقيادة القواعد العسكرية، وغير ذلك. لكن من يضمن أن لا يظهر بين الأمراء من يقوم بانقلاب؟! ومن يستطيع أن يضمن أن لا يخترق القوات الجوية أفراد من نفس المذهب المحبب للعائلة المالكة ومن نفس المنطقة الأثيرة لدى الحكم/ نجد؟! ومن يستطيع ضمان أن لا تقوم مخابرات أميركا بالإتفاق مع أمراء وغيرهم بإعداد انقلاب عسكري، إذا ما رأوا أن مصالحهم تتطلب ذلك.

إن الإنقلاب الأخير لم يكشف عن أسماء، حتى نعلق عليها هنا، ولكن من المرجح أن بعض النجديين منخرطين في الإنقلاب كقيادة، كما أن معظم الإنقلابيين من ذوي الميول السلفية/ الوهابية. وقد ثبت من خلال الصراع مع القاعدة خلال السنوات الماضية أن الجيش والحرس اللذان أريد لهما أن يكونا نجديين سلفيين، لتحصين العائلة المالكة والدفاع عنها، قد تم اختراقهما بذات الأدوات ولكن ليستخدما ضد العائلة المالكة والإطاحة بها!


مصادر

Aristotle, The Politics and The Constitution of Athens, ed. Stephen Everson, Cambridge, 1996

Morris Janovitz, Military Institutions and Coercion in the Developing Nations

J. Blondel, Comparative Government, Cambridge, 1995

Paul Cammck, David Pool & William Tordoff, Third World Politics, Kent 1993

R. Hrair Dekmajean, Egypt under Nasir, New York, 1971

Majid Khadduri, Republican Iraq, London 1969

Roger Owen, State, Power & Politics in the Making of the Modern Middle East, London, 1997

Andrew Heywood, ‘Militaries and Police Forces’ in Politics, pp 359-378

Rod Hague, Martin Harrop & Shaun Breslin, Comparative Government and Politics, London, 1998

الصفحة السابقة