دعوة لبتر اليد الضاربة للعائلة المالكة والمؤسسة الدينية

الهيئة أسقطت حقّ الحياة

محـمـد فـلالـي

تصاعدت وتيرة الجدل حول مصير الجهاز الأكثر إثارة للخلاف الداخلي ممثلاً في (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والتي تسبّب رجالها خلال الشهر الفائت بقتل شخصين على الأقل إضافة إلى عشرات الإنتهاكات الصارخة لحقوق الأفراد، الأمر الذي صعّد من نبرة المطالب بحل الجهاز ومعاقبة المتسبّبين بإزهاق أرواح، أو على الأقل وضع تدابير قانونية صارمة للحد من صلاحية هذا الجهاز.

وزير الداخلية الأمير نايف بدا مدافعاً عنيداً عن الهيئة ورجالها، وحذّر وسائل الإعلام المحلية من مغبّة الانتقادات التي يوجّهها بعض الموتورين ضد هذا الجهاز المدلل لدى وزير الداخلية، واتهم في الثامن عشر من يونيو وسائل الإعلام بالمبالغة في قضية مقتل سعوديين كانوا رهن الإحتجاز لدى الهيئة!. حيث علّق الأمير نايف على حادثتي القتل بالقول: (التحقيقات الاولية تظهر أن أعضاء الشرطة الدينية لا علاقة لهم بوفاتهما... المحكمة ستتخذ قرارا في القضية بناء على نتائج التحقيقات).

لكن الهيئة التي يقول رجال الدين المتشددون انها أساسية للنظام الاسلامي للمملكة تعرضت لانتقادات متزايدة من الصحف ونشطاء حقوق الانسان بسبب سلوكها المتعصب وافتقارها للقواعد الواضحة في أداء عملها.

وخلال شهر مايو الماضي توفي رجل يبلغ من العمر 50 عاما بسبب أزمة قلبية بينما كان في الحجز في تبوك وتوفي شاب يبلغ من العمر 28 عاما في الرياض وسط اتهامات من عائلته بأنه تعرض للضرب حتى الموت للاشتباه في تعاطيه الخمور، وسقوط عاملة آسيوية في جدة من الطابع الرابع لدى مداهمة شقتها من قبل رجال الهيئة.

الأمير نايف وهو الحليف القوي للهيئة التي تعمل بلا ضوابط قانونية طالب الصحافيين والناس في وسائل الاعلام (الى عدم المبالغة وألا يضخموا الأخطاء التي ترتكبها هيئات حكومية)، بل دعا الأمير نايف في 20 يونيو الى توسيع دور هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم الجدل حول تجاوزات أعضاء فيها، وقال في تصريحات نقلتها الصحف السعودية (دور الهيئة ليس محصورا في محاربة الفساد بل يجب أن يتسع ليشمل أمورا أكثر)، ولم يحدد ماهية هذه الامور.

وتحظى الهيئة بنفوذ كبير وينشط عناصرها البالغ عددهم أكثر من خمسة الاف ومعروفون باسم (المطوعون) أو (المطاوعة)، في المدن خصوصاً حيث يحضون المارة على الصلاة والنساء على ارتداء الحجاب والعباءة ويحرصون على منع تناول الكحول والمخدرات والحفاظ على الاخلاق.

الملفت أن حجم القضايا التي تنظر فيها الهيئة قد تزايد خلال العقد الأخير، وقد تضاعف المنكر خلال خمس سنوات ما يثير سؤالاً كبيراً حول جدوى الدور التربوي والعقابي لهذا الجهاز لمنع أو الحد من المنكر. وبحسب إحصائيات أعدّتها الهيئة توضح أن عدد القضايا التي باشرتها الهيئة عام 1418هـ حوالى 170 ألف قضية بينما بلغت في عام 1423هـ حوالى 318 ألف قضية. وفيما تنظر الهيئة الى ارتفاع عديد القضايا التي تنظر فيها الهيئة بكونه إنجازاً على أساس أنه يعكس تمدّد سلطة الهيئة في المجتمع، إلا أنه يلفت من جهة أخرى إلى إخفاق حقيقي في دور الهيئة من أجل تخفيض والحد من انتشار المنكر.

حتى عام 1421هـ كان هناك 486 فرعاً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل أرجاء المملكة، منها 117 في منطقة الرياض، ويبلغ عدد المنتسبين إليها أكثر من خمسة آلاف محتسباً، ويحظون باهتمام خاص من قبل الملك وكبار الأمراء، ولطالما كانت الهيئة تحصل على هدايا وهبات عبارة عن سيارات وتجهيزات لتسهيل عمل رجال الهيئة.

من المفارقات الملفتة أن عدد مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العاصمة الرياض هي ضعف عدد مراكز الشرطة، ما أثار سؤالاً لدى مراسل صحافي: هل أصبح الغزل وشرب الخمر مقلقاً أكثر للمعنيين بالشأن الأمني من القتل والسرقة والسطو المسلّح؟ فقد بلغ عدد مراكز الشرطة في العاصمة الرياض 18 مركزاً مقابل 38 مركزاً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موزّعة على الأسواق والأحياء وضواحي العاصمة الرياض. ليس هو الفارق الوحيد بين الجهازين، فرجل المرور أو الشرطة في العاصمة ملزم بكمية وقود محددة للإستهلاك يومياً، بينما تبقى صنابير الوقود ممدودة على الدوام لخزّانات الوقود الخاصة بسيارات الهيئة، كما هو حال المرتبات والهبات والعلاوات، فأفراد الهيئة لا يخضعون إلى الرقابة المالية أو قوانين العمل والعمّال، فهناك عدد كبير منهم مسجّل في كشوفات المنتسبين للهيئة ويحصلون على مرتبات شهرية دون التزام بدوام عمل محدد، وعادة ما ينسب إلى هذه الشريحة التي يطلق على أفرادها بـ (المتعاونين) المخالفات.

هذه الحظوة انعكست أيضاً في التعامل الخاص حيال تعديّات رجال الهيئة على حقوق وحريات الأفراد، فالمحاكم الرسمية تحجم عن توجيه إتهامات لهؤلاء في قضايا تصل أحياناً الى تعمّد القتل، وترى هذه المحاكم بأن الهيئة تضطلع بدور تربوي يعصمها من العقاب. ونقلت بي بي سي في الثالث من يوليو عن طالب جامعي يعيش في الرياض بأن محاكمة بعض أفراد الهيئة ليست سوى (محاولة شكلية لإسكات وسائل الإعلام واحتواء غضب المواطنين).

وفي حالات كثيرة، كان قضاة يمارسون ضغوطاً أو عمليات إقناع قاسية على الذين يرفعون دعاوى من الجنسين على رجال الهيئة، وفي حال الفشل فإن المحاكم تنهي القضايا بطريقتها الخاصة. فقد أجّلت محكمة سعودية الشهر الماضي يونيو الحكم الصادر بحق أربعة من رجال الهيئة مثلوا أمام المحكمة بتهمة وفاة مواطنين تحت التعذيب في مقر الهيئة، حيث أدى الى موت المواطن أحمد البلوي، 50 عاماً، أثناء احتجازه في مدينة تبول شمال غربي المملكة في مايو الماضي، بتهمة (الخلوة) غير الشرعية، فيما نفت عائلة المرأة التي تزعم الهيئة بأن المجني عليه كان يختلي بها بصورة غير شرعية أنه كان يقوم بتوصيل هذه المرأة بصورة مستمرة بمعرفة شقيقها وذلك ضمن نطاق عمله كسائق تاكسي. وقد نفى مسؤول في الهيئة تعرّض المجني عليه للتعذيب، فيما طالبت عائلته بتشريح جثته للكشف عن أي آثار التعذيب.

في فترة متزامنة، توفي الشاب سلمان الحريصي، 28 عاماً، بعد مداهمة رجال الهيئة لمنزله غرب الرياض، حيث أكّد أخ المجني عليه تعرّض الأخير لضرب شديد خلال مداهمة أعضاء الهيئة لمنزله، وتم نقله إلى مركز الهيئة لكنه فارق الحياة. وقالت عائلة الحريصي بأنه ضرب حتى الموت داخل مركز احتجاز تابع للهيئة.

ونقلت رويترز في الثلاثين من يونيو الماضي عن خالد الكعبي (24 عاماً) وهو واحد من 12 شخصياً ألقي القبض عليهم بمن فيهم المجني عليه سلمان الحريصي، قوله (ضربة واحدة جاءت بالعصا وبعدين صار الضرب بالرجل وباليد ... أكيد انهم هايجين .. هذا مو طبيعي .. صاروا يضربون عشوائيا والضرب أكثر شيء على سلمان). وأضاف بأنهم قالوا لهم (إنتم مخانيث..عبيد (إشارة الى أنهم سود البشرة)..هذا مستواكم)!. وقد تم ايقاف أحد أفراد الهيئة على ذمة التحقيق في مقتل الحريصي فيما برأت المحاكم الشرعية ساحة عشرة آخرين. يقول الكعبي بأنه شاهد إثنين من أفراد الهيئة يضربون سلمان لنحو ساعة في أحد مكاتب الهيئة، فيما طالب محمد الحريصي والد المجني عليه بالقصاص، وقال بأنه (بقي محتجزاً لعدة أيام بعد وفاة إبنه)، وسئل عن شعوره لما جرى فقال (شعوري طبيعي.. شعوري اتكدر.. الناس ما عندهم ضمير.. لو كان عندهم ضمير ما سووا (ما تصرفوا) بالطريقة دي (هذه). اذا عندهم استدعاء يطرقون الباب ويطلبوا أبوه ويقولوا لأبوه سلمه لنا).

شكاوى المواطنين ضد اختراقات رجال الهيئة لحقوقهم وخصوصياهم تزايدت في الآونة الأخيرة، منها شكوى تقدّم بها المواطن سلطان الردادي الى إمارة المدينة المنورة يتّهم فيها الهيئة باقتحام منزله واقتياده بالقوة بسبب بلاغ كاذب عن وجود إمرأة في بيته. وقال الردادي بأن شخصاً تسلّق جدار منزله وفتح الباب من داخل المنزل لزملائه الثمانية الذين قاموا بالدخول الى المنزل ومنعوه من الحركة للقيام بعملية تفتيش المنزل، وحين لم يعثروا على إمرأة في بيته اعترفوا له بعد اقتياده الى مركز الهيئة بالمدينة المنورة بأن البلاغ كان كاذباً، ما أثار غضبه ودفعه لتقديم الشكوى الى إمارة المدينة المنورة وهيئة حقوق الانسان.

في مقابل السخط الشعبي المتعاظم، يتزايد إصرار وزير الداخلية الأمير نايف على تفعيل دور الهيئة وتوسيع صلاحياتها، حيث اعتبر وظيفتها إداءً لركن من أركان الإسلام. وقال في كلمة له بعد لقائه مجلس الشورى ونقلتها صحيفة الوطن في الاول من يوليو (فإذا كنا مسلمين يجب أن نعرف هذا، وإذا كان غير ذلك فليس هذا وطناً لغير المسلمين).

ومن اللافت أن الأمير نايف استبق مناقشات مجلس الشورى لملف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن يصدر قراره بدعم أو خلافه للهيئة وقال (مستحيل ألا يدعم مجلس الشورى الهيئة)، وقال بأن (الهيئة مدعومة من جميع الجهات) وأن (اعتراض عضو ليس اعتراض المجلس ككل..الهيئة مرفق عام يجب أن يدعم من كل النواحي).

الانتقادات الواسعة لمخالفات رجال الهيئة دفعت بصحافيين مقرّبين من الحكومة الى طرح سؤال عن مبرر وجودها. فقد طرح هاني نقشنبدي سؤالاً في الثاني من يوليو: هل من حاجة حقيقية لوجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية؟ وخلص بعد استعراض مكثّف للموقف الشرعي والواقع التاريخي لمفهوم الحسبة، وكيف تسببت سوء تصرفات رجال الهيئة في تشويه صورة الحسبة، الى سؤال جوابي: مالحاجة إذاً الى هيئة تتكرر تجاوزاتها يوماً بعد يوم؟

من وجهة نظر داود الشريان (الحياة، 4 يوليو)، أن تجاوزات بعض أفراد الهيئة لا تخلو من فائدة، فقد (أتاحت للمواطنين السعوديين ممارسة حق نظام منسي، وبدّدت وهم الحصانة الذي طالما استند اليه بعض من يكتب عن علاقة الهيئة بالنظام العام، فضلاً عن أنها كشفت عن الحرية النسبية التي وصل إليها الإعلام السعودي)، وبالرغم من التحفّظ على الرأي القائل بأن تصرفات الهيئة كشفت عن الحرية في الاعلام، وقد ينطوي على تبرير ما لسياسات الحكومة في مجال الحريات العامة، إلا أن مجرد إخضاع الهيئة للفحص العلني يبدو خطوة هامة على طريق النقد العام لسياسات وأجهزة بقيت خارج إطار المسائلة.

نشير هنا الى تقرير الهيئة الوطنية لحقوق الانسان الذي صدرتقريرها مؤخراً ولم يتجاوز مستوى النبرة الاحتجاجية في الشارع المحلي، فقد كرّرت الهيئة الاتهامات السائدة: لغة فاحشة، اتهامات غير مسنودة، إهامة الناس خلال فترة التحقيق، الضرب، التفتيش الذاتي، الدخول الى البيوت بالقوة والإكراه، وانتزاع اعترافات عن طريق القوة.

في المقابل، إختار بعض ضحايا الهيئة وسيلة أخرى من خلال تصميم موقع على شبكة الانترنت متخصص في نشر ما اعتبروه جرائم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تضمّن الموقع (http://alhea.blogspot.com) قصصاً وصوراً لمخالفات صارخة لحقوق الإنسان وأخلاقيات الحسبة كما وردت في كتب الشريعة.

تطوّر المجتمع وكذلك المؤسسات الحكومية لم يرافقه تطوّر المؤسسة الدينية وجهازها الدعوي الصارم، التي تضغط باتجاه الحصول على مزيد من الأرض والسلطة وأيضاً التسهيلات المالية. وتبقى النساء دائماً صيداً سهلاً ورئيسياً بالنسبة لرجال الهيئة الذين يحملون نظرة قاتمة حيالها، كونها مصدر الشرور بحسب عقيدتهم، ما يعبّر عن مطالبتهم الدائمة بتدخّل القوة في أكثر الأحيان بأن تبقى محجوبة بالكامل عن العيون، ولطالما هوت العصي على رؤوس بعضهن بحجة كشف الوجه.

هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كتمظهر وتجسيد لسلطة المؤسسة الدينية تمثّل محك العلاقة بين المؤسسة الدينية والحكومة، إذ إن أي تدبير يهدف الى إضعاف فضلاً عن إلغاء الهيئة يعدّ بداية إعلان المواجهة المفتوحة بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة، وهو ما لم تقرره الأخيرة بعد، ولن تفعل ذلك طالما أن الهيئة تزوّد العائلة المالكة بمصدر قوة غير عادية، فهي جهاز ضبط إجتماعي وسياسي ولا يغفل دورها الأمني المغلّف دينياً.

الصفحة السابقة