بندر المتهوّر يدير مملكة من ورق

أل كـابـوني الأسمـر!

هاشم عبد الستار

وجه الشبه بين رئيس مجلس الأمن القومي الأمير بندر سلطان ورئيس المافيا في الولايات المتحدة المشهور (ألفونس كابوني)، هو القدر الفريدة والمدهشة على الإقناع والمراوغة والتصميم الشرس في تحقيق الهدف بأقصر الطرق وبشتى الوسائل.

بوادر العدائية وحب التملّك ميزة أخرى تجمع بين الشخصين منذ الصغر، ربما تعود لأسباب إجتماعية، فقد كان كابوني يعاني من قسوة إجتماعية وأسرية، وهي صفة رافقت الأمير بندر وتعود الى كونه إبن إمرأة أفريقية في عائلة تصنّم العرق، وتتفاخر بصفاء النسب وأصول العائلة، فكان أبوه ولي العهد الحالي ووزير الدفاع الأمير سلطان قد تبرّأ منه منذ ولادته، ولكن ضغوطات الملك فيصل أجبرت الأمير سلطان على القبول به، وكان يطلق عليه وسط العائلة (بندر السلطان) وليس بندر بن سلطان، في إشارة الى نفي نسبته لأبيه، ولكن في وقت لاحق جرى وضع ترتيبات عائلية تسمح بإدماج الأمير في نسيج العائلة، فزوّجه الملك فيصل بإبنته، ما كسر حاجزاً نفسياً أمام هذا القادم الجديد. مهما يكن، فإنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها العائلة المالكة قضية من هذا القبيل، فمازالت هناك زوجات تشكو من تخلّي أمراء عنهن بعد فترة قصيرة، وقد اشتهر بين السديريين الملك فهد والأمير سلطان اللذان أفرطا في عقد الروابط العاطفية، وهناك قضية مازالت قيد التحقيق بالنسبة لسيدة لبنانية جمعتها بالملك فهد رابطة زوجية ولكن لم يتم الاقرار بها وبإبنتها. كما نقلت قصص كثيرة عن علاقات خاطفة بين الأمير سلطان ونساء يقضي معهن زواجاً لليلة واحدة، ثم يحرمن من الزواج بآخرين بقية أعمارهن، فيما يطلب منهن البقاء خارج البلاد. وحالة والدة الأمير بندر بن سلطان تندرج في السياق نفسه، فقد تخلى الأمير سلطان عن زوجته الحبشية بعد رابطة فجائية (قيل أنها كانت اعتداءً من سلطان على المرأة) أنجبت الأمير بندر.

نشأ الإبن الأسمر على عقدة النسب التي عانى من آثارها النفسية والأسرية، فقد عاش حياة التهميش والإقصاء والتمييز داخل عائلته، فنمت بداخله نزوعات عدوانية بجانب طموحات خيالية، فكان يريد تسوية الخطأ التاريخي باقتناص أكبر قدر من الفرص نحو الثروة والسلطة والشهرة وإن تطلب ذلك تدمير الحدود الأخلاقية والسياسية وتسخير الدم للوصول الى هدفه، فقد أراد الحصول على كل شيء يجعله متميزاً للتحرر من ربقة عقدة الإنتماء، فوجد في الولايات المتحدة، حيث الليبرالية الإجتماعية، من يزخم تطلّعاته عبر الإشادة بكفائته ودهائه السياسي، وقدرته على تقديم الإستشارات السياسية والأمنية للإدارة الأميركية، وربما هذا ما نمّى حلماً بأنه سيصبح ملكاً قادماً.

وصف بأنه بندر بوش بفعل العلاقة الحميمية التي ربطته بعائلة آل بوش خلال أكثر من عقدين من السنوات، فقد كان الدبلوماسي الأجنبي الوحيد الذي كان لديه تداخل خاص مع الرئيس بوش وعائلته وإدارته. وقدّم الأمير بندر نصائح للرئيسين بوش الأب والإبن خلال ثلاث حروب وكذلك الحملة الواسعة ضد الارهاب، وكان يُستقبل في المكتب البيضاوي دونما مواعيد سابقة، ودعم بلاده لمبادرات السلام في الشرق الاوسط، فقد وصف بأنه (خاص الخاصّة). ولكن بعد أكثر من عشرين عام، وبالرغم من إصراره على أن يبقى في موقع الوسيط والمستشار وربما وزير الخارجية الاميركي المنافس لكونداليزا رايس، هناك من يحاول وضع حد للاعتماد الطويل عليه.

يلزم الإقرار بأن الأمير بندر نجح في عزف موسيقى تناسب ذوق إدارة بوش، ولكن لم تطرب دائماً عمه الملك عبد الله. وبحكم الواقع، فإن الملك وقلة من الأمراء الكبار هم من يقررون السياسات العامة، ولكن الأمير بندر يتقن فن المراوغة وتسويق أفكاره ومواقفه بطريقة خادعة، فهو يعتمد على مجموعة شركاء وأصدقاء ومسؤولين في الحكومة.

صحيح أن بندر نجح في ترميم العلاقة بين واشنطن والرياض وعمل على ترميم التحالف الاستراتيجي بين الحكومتين، الا أن الأثمان التي حصدها من وراء دوره تفوق حجم الدور الذي قام به.

لم يتردد كابوني الرياض في تسميم المجتمع السياسي الأميركي من خلال تقديم الهدايا للمسؤولين في البيت الأبيض وتمرير تبرعات لحزب المحافظين في الحملات الانتخابية، ما جعل العلاقة معه مغرية، فقد أهدى كولن باول وزير الخارجية السابق سيارة جاجوار، وكان يستضيف المسؤولين وعائلاتهم في منتجع إسبن بولاية كولورادو، ويغدق الهدايا عليهم، بل كان يستأجر صالات سينما خاصة لضيوفه فيما كانت مطاعم البيزا والماكدونالدز تتلقى طلبات بتزويد الضيوف بوجبات ساخنة ومتميزة.

وكما هو شان كابوني، فقد جعل بعض الأوساط السياسية والإعلامية في واشنطن من الأمير بندر أسطورة سياسية، جرى تسويقها للداخل، حيث استعاد إعتباره العائلي، بعد فترة تأهيل تربو عن عقدين من الزمن، وعاد الى الديار ليتسلّم المكافأة ممثلة في منصب رئاسة مجلس الأمن القومي الذي أنشيء خصيصاً للأمير بندر.

إلا أن عودة الأمير بندر الى الديار لم تكن حميدة بالنسبة للدول الإقليمية، فقد بات إسمه حاضراً بكثافة في ملف الأزمات الإقليمية، سواء في فلسطين أم لبنان أم العراق بل والوضع الإقليمي برمته. فثمة من يرى في بندر بأنه يمارس دوراً مشبوهاً لخدمة أغراض خاصة وخارجية، فقد أصبح علماً من فوق نار الأزمات التي تشتعل بدماء تسيل على يد شبكات تنظيمية مسلّحة تم إنشاؤها وتمويلها وإدارتها من قبل فريق يمثّل الأمير بندر مهندّساً رئيسياً فيه.

قصر بندر عرض للبيع بـ 135 مليون دولاراً

كابوني آل سعود.. هل يشهد نهايته!

فضيحة رشى الملياري دولار التي تسلّمها الأمير بندر من صفقة اليمامة خلال عقد من الزمن كانت دون شك صدمة عنيفة لموقعه ومستقبله السياسي، وقد تضع حداً لمغامراته المالية والسياسية، وهي تأتي في سياق انكشافات متوالية لملف حافل بالإقترافات الخطيرة في لبنان وفلسطين والعراق، ما جعل الأرض تهتز وتشتعل تحت قدميه، إذ لم يعد الرجل مقبولاً في موقع (الوسيط) الذي كان يعتقد بأنه الدور المتميز الذي لعبه طيلة عشرين عام ومنحته ألقاً وشهرة وثروة، فقد بات شخصية ممقوتة ومشبوهة، ولم يعد هناك من يقبل به وسيطاً، بعد أن افتضح أمر تدبيراته القاتلة.

وكما هي عادة كابوني الذي كان يرشي السلطات للإفلات من العقاب، فإن الأمير بندر اعتاد أن ينفق بسخاء بعض ما يحصل عليه من مال بوسائل غير شرعية، كيف وقد قلل من شأن سرقة خمسين مليار دولاراً إذا كان الإنفاق على التنمية يصل الى 350 مليار دولاراً. حسناً، إذن لا ضير بأن يتم سرقة ثمن الثروة الوطنية طالما أن ذلك يضمن توظيف بقية الثروة في التنمية، ومن أجل شراء ذمم السياسيين والإعلاميين!.

في العشرين من يونيو الماضي، تحدّث وزير الإعلام اللبناني الأسبق ميشال سماحه عن وجود (غرفة عمليات في دولة عربية تقودها أميركا وتشارك فيها عدة دول عربية ويمولها الأمير بندر بن سلطان)، تقف وراء عمليات الاغتيالات السياسية التي يشهدها لبنان، مضيفا أن نشاطها يشمل أيضا الفلسطينيين، وسورية وإيران والصومال، وقال إن ما يقوم به بندر يتم دون علم ملك السعودية.

في لبنان، كلما تعثّرت مساعي التقريب وتبدّدت فرص الحوار فتّش اللبنانيون، والمعارضون بصورة أساسية، عن دور الأمير بندر في عملية التخريب، فقد لحظ هؤلاء حضوره الغائب خلال جلسات الحوار قبل اندلاع الحرب الاسرائيلية على لبنان، وجلسات التشاور بعدها، فكان يدلي على لسان حليفه ومواطنه سعد الحريري الموقف الذي يجب أن يطرحه على الطاولة، وإن ناقض موقفاً سابقاً، فالالتزام الأدبي والإخلاقي لا مكان له في هذا العالم، طالما أن القضية مرهونة بما تجنيه من مكاسب وليست ما تعكسه من مواقف، خصوصاً في ظل سيولة سياسية تجيز استغلال كل الأوراق بصرف النظر عن توافقها وتعارضها.

في غمرة التدهور الأمني المصاحب لعمليات تهويل متواصلة في لبنان، تنشق سحابة الحرب في نهر البارد عن إسم الأمير بندر المهندس لشبكات تنسج في ليل خيوطها، ولكن الضحايا في العراق ولبنان وفلسطين لا يخيبون في التعرّف على أصولها. ورغم بعد المسافة وتباين المصالح والانتماءات، فقد صوّب الضحايا أصابعهم نحو كابوني الرياض.

فقد وصف صحافي لبناني ما جرى في نهر البارد بأنه (فتح الإسلام غيت)، حيث أن الطبقة السياسية الأميركية بدأت تشعر بأن النهج الذي رسمته في دعم جماعات سنيّة أصولية في العراق ولبنان وفلسطين يقترب من حافة الفضيحة، وأن الضمانات التي قدّمها الأمير بندر لفريق ديك تشيني بأن هذه الجماعات، كما القاعدة، ستبقى تحت السيطرة تهاوت على وجه السرعة. لم يتنبّه المسؤولون الأميركيون الى النصيحة التي اندست في ثنايا تقييم الرجل داخل الدوائر البحثية الأميركية والتي تقول بأن الأمير بندر يعاني من مرض (المبالغة) في الأمور، فهو يسوّق آراءه بدهاء وبكثير من التضخيم. ولكنهم تجاهلوا كل ذلك، بما في ذلك التقارير الإعلامية الرصينة التي نشرها سيمور هيرش ولامب وروبرت فيسك وآخرون عاشوا تجربة تنفيذ المخطط الذي أعدّه بندر مع فريق ديك تشيني، وتحوّل الى كابوس مقيت. في السابع عشر من يونيو نشرت صحيفة (واشنطن بوست) تحقيقاً للصحافية إيلين نيكماير كشفت فيه عن العلاقة بين التيار السلفي/ الوهابي في شمال لبنان وسعد الحريري، والأخير ليس سوى واجهة للمهندس الخارجي، الأمير بندر، وأن (ثمة وجوه بارزة في الجماعة السلفية يعملون كوسطاء مع الحريري)، ونقلت الصحافية عن الداعية السلفي اللبناني الشهال قوله: (هناك علاقة بيننا وبين الشيخ سعد الدين حين تدعو الحاجة).

أسطورة السطو على المصرف في شمال لبنان فتحت شهية الصحافيين الأجانب واللبنانيين على السواء من أجل العثور على خيوط قصة أطول مما أريد لها أن تكون البداية، ومنذ اليوم الأول لاندلاع المواجهات في مخيم نهر البارد بدأت صورة أخرى مغايرة تبرز، خصوصاً مع تكشّف هوية المقاتلين الذين تساقط بعضهم داخل المخيم أو تم إلقاء القبض عليهم وخضعوا لتحقيقات أمنية مكثّفة، فقد بدا الحضور الكثيف للمقاتلين العرب وعلى رأسهم السعوديين مثيراً للدهشة. وتوالت الانكشافات تباعاً لتضع الرعاة المحليين والخارجيين في (لعبة اللوم)، حيث حمّل الأميركي مسؤولية فضيحة نهر البارد الأمير بندر الذي لم يتقن إدارة مجموعاته، ولا وضع ضوابط صارمة على التسلسل التنظيمي لتنفيذ المخطط. ويبدو في هذا السياق معقولاً أن يحجم نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني عن استقبال الأمير بندر بن سلطان أو الرد على إتصالاته، فقرر أن يلجأ الى قصره الفاحش في منتجع أسبن بولاية كولورادو، والذي أنفق عليه 135 مليون دولارا فقط، ولكن لم تطب له الإقامة فيه طويلاً، فقام بعرضه للبيع هو ومزرعة فارهة في لوس أنجلس بقيمة 140 مليون دولارا بحسب فايننشال تايمز البريطانية الشهر الفائت، بعد أن شعر بعزلة خانقة نتيجة تقطّع الروابط بينه وبين تشيني، الذي يعاني من وضع لا يحسد عليه بعد تهم بالفساد والمخالفة القانونية، وهناك من يطالب بمحاكمته وإقالته من منصبه، وهو وضع يشبه الى حد كبير وضع الأمير بندر، الذي يواجه إنهيار جبل ثلج عارم بعد فضيحة اليمامة.

الصفحة السابقة