عبدالعزيز التويجري

ورحل صانع الملوك

يحي مفتي

كان محظوظاً أنه لم يكن يملك من أمر الدولة شيئاً.

أمضى عبدالله، الملك الحالي، نحو أربعين سنة ليحكم، أي منذ توليه رئاسة الحرس الوطني في الستينيات الميلادية الى أن أصبح ملكاً قبل عامين، في 11/7/2005، حتى أن نكتة سعودية انتشرت أثناء مرض الملك فهد تقول أن ولي العهد آنئذ عبدالله طلب تغيير إسمه لدى إحدى الدوائر الرسمية واختار اسم (أيوب).. وهناك في الدائرة فاجأه تواجد الملك فهد، فسأله عن سبب ذلك، فقال أنه هو الآخر يريد تغيير اسمه الى (نوح)!

كان أخوة عبدالله ينظرون اليه باستخفاف بالغ، ونقصد بإخوته: السديريين السبعة، أي فهد وأشقائه، من أبناء حصة السديري.

وكان عبدالعزيز التويجري الذي توفي الشهر الماضي عن عمر قارب المائة عاماً، هو صانع (الملك عبدالله)، وقد كافأه بأن جعل كل أولاده مقربين منه، يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم!

التويجري الأب كان داهية بحق، صنع نفسه كما صنع الملك عبدالله. كان مخلصاً للملك مذ كان الأخير أميراً مغموراً، وهو الذي أقنعه بالإحتفاظ بالحرس وتطويره، لأنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن له الوصول الى الحكم.

كانت تلك القاعدة الأولى التي اعتمدها الداهية التويجري، الذي لم ينل أي تعليم رسمي، لكن وعيه السياسي سبق عشرات من الدكاترة والمتعلمين! كان بفطرته نصف البدوية ذا قابليات كبيرة، ووعى السياسة منذ كان صغيراً يتيماً. كان يتحدث عن شيخ أو رحالة نجدي من أبناء قريته طاف الدنيا، وقد لفظته القرية (المجمعة) فعاش خارج حدودها مستظلا بشجرة. عند ذاك الرجل سابق زمانه وعياً وموقفاً تعلم التويجري الأدب والسياسة وعلم الإجتماع ـ كما يقول. أصبح التويجري مسؤول بيت المال في القرية خلفاً لأخيه، وتدرج في المناصب القليلة الصغيرة، لكن طموحه كان عالياً، ووعيه للأحداث جعله يستغل الفرص. كان بحاجة الى رجل يختفي وراءه يصنع به مجده، ويصنع مجد من يقف خلفه. فحانت الفرصة في بداية الستينيات حيث اهتبل الفرصة السياسية المشوشة في تلك الحقبة وعقد صفقة العمر مع عبدالله، الذي اقتنع بكفاءة صاحبه، واهتدى بمشورته، ولم تغمض عين المشير إلا مؤخراً في شهر يونيو الماضي.

كما توقع التويجري، تطورت أهمية الحرس الوطني شيئاً فشيئاً، وبمقدار تزايد أهميته تزايدت قوة رئيسه، وهو الملك الحالي، الذي لم يتخلى عن جهاز الحرس (العسكري) حتى بعد أن أصبح ملكاً، شأنه في ذلك شأن ولي عهده سلطان الذي مازال محتفظاً بوزارة الدفاع حتى اليوم منذ عام 1963م!

كان الجناح السديري يدرك حساسية الوضع طالما أن في ذهنه إخراج عبدالله من الوصول الى العرش. وحاول عبثاً أن يقنعه بالتنازل عنه لصالح أحد من أبنائه، لكنه لم يفعل، وهدد بأن الحرس خط أحمر!

ومن خلال الحرس الذي أشرف عليه من الناحية الفعلية التويجري الأب، فصار نائب رئيس الحرس الوطني المساعد، استطاع الداهية التويجري أن ينسج علاقات عبدالله بالقبائل، ثم بالتيارات الثقافية والإعلامية والشخصيات العامة الداخلية والخارجية.

الحرس كان صمام الأمان لوصول عبدالله الى الحكم. وهو ـ فيما يبدو ـ صمام الأمان لاستمراره في العرش اليوم.

القاعدة الثانية التي هندسها التويجري الراحل، هي أن لا يصطدم عبدالله مع إخوانه السديريين الحاكمين، والفلسفة وراء ذلك كانت واضحة: إن منافستهم تظهره بمظهر الخطر عليهم، فيسعون للتخلص منه مبكراً. كان التويجري ينصح عبدالله بأن الوقت عامل مهم، وأن من الضروري تنسيج وضعه داخل جهاز الدولة خطوة خطوة، وأن لا يتعجل النتائج. على عبدالله الإنتظار ريثما تسقط التفاحة في حضنه بعد نضوجها. اما المنافسة المبكرة فهي خطر عليه، وهو ـ أي عبدالله ـ ليس مستعداً لها، ولا يملك مقومات مواجهة الحلف السديري القوي القابض على معظم أجهزة الدولة، بل كلها تقريباً، ولم يفلت منها إلا الحرس الوطني بصورة من الصور.

إن عدم تدخله القوي في شؤون الدولة، وكأن عبدالله منعزلاً لم تكن إلا خطة تويجيرية صائبة بمقاييس الصراع على السلطة بين أجنحة الحكم. فعدم التدخل يساعد على منع السديريين من التدخل في حريمه الخاص (الحرس الوطني). ثم إن عدم التدخل يتيح فرصة لهم أن يتقووا وفي نفس الوقت أن يخسروا بسبب تلوثهم بالسلطة، وبسبب فسادهم الكبير، وبسبب أخطائهم المتكررة.

وهكذا كان. لقد ظهر عبدالله وكأنه غير معني بالدولة إلا في المناسبات الرسمية، وكأنه لا وجود له ولا قيمة لرأيه. لا تسمع له تصريحاً ولا رأياً في قضية، ولا وجهة نظر مختلفة عما كان يقرره فهد، حتى حين كان هذا الأخير ولياً لعهد الملك خالد.

بالطبع فإن الإنعزال نصف القسري، عن شؤون الدولة جعل عبدالله ضعيف الخبرة بشكل عام، كما ضعيف الإمكانات المادية، وبالتالي لم تتوسع قاعدته داخل جهاز الدولة ولا خارجها على نحو واضح ومثير.

لمن يدين بعرشه؟

القاعدة الثالثة التي أدارها بحذاقة التويجري الأب، تتعلق بعلاقة عبدالله بإخوانه ـ أولاد الملك عبدالعزيز وأبنائهم ـ أي بأجنحة العائلة الأخرى. كان مهماً بالنسبة للتويجري أن يضع عبدالله قدمه على السلّم، وقد أقنعه في البدء ـ في عهد فيصل ـ بأن يقبل منصب رئيس الحرس الوطني، وإلا فإن عبدالله ـ الملك الآن ـ كان زاهداً يومها في منصب بدا وكأنه لا أهمية له، في حين أن فيصل ـ الملك، كان يريد توزيعاً من نوع ما للسلطة داخل العائلة المالكة، وكان يدرك بأن الجناح السديري هو الأقوى والمسيطر، وحاول تحجيمه بقدر ما، لكنه لم يستطع، بل أن ذلك الجناح ـ السديري، متورط بصورة أو بأخرى في قتل فيصل في نهاية الأمر.

حين قبل عبدالله رئاسة الحرس الوطني، وما يتبع مهمات الحرس الوطني من حماية لمنشآت حكومية بعينها، كوزارة المالية ومؤسسة النقد، وهي مهمات كان قد قررها فيصل نفسه تحسباً للظروف، فإن عبدالله كان قادراً على التمدد لو أراد الى فضاء آخر أكثر أهمية، لكنه لم يفعل ذلك، وانتظر حتى مقتل فيصل في مارس 1975، على يد أحد الأمراء (فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز).

يومها كان ما جرى حدث العمر بالنسبة لعبدالله.

لم يكن عامل السنّ الأساس الذي جرت وفقه مناصب الدولة العليا وأهمها تسنّم العرش.

بعد فيصل، فإن أكبر أبناء عبدالعزيز الذين يحق لهم الحكم، هو محمد بن عبدالعزيز، المعروف بـ (أبو الشرّين). فقد كان الأخير أكبر أمراء العائلة، يليه إخوته سعد وناصر أبناء الملك المؤسس، ثم يليهم خالد ففهد ثم عبدالله.

تنازل أبو الشرين لخالد، فغضب سعد وناصر، ورفضا تخطي حقهما في العرش.

هنا ـ حسب روبرت ليسي ـ قال محمد بن عبدالعزيز (أبو الشرين) لأخويه: اسمعا، أنا أعلم بأني لا أصلح للحكم، فتنازلت من أجل (ملك) آل سعود، وأنتما لا تصلحان أيضاً، وعليكما التنازل. وقد تنازلا بالفعل ولكن على مضض، ولم يكن بالإمكان وصول الثلاثة الى العرش واكتفوا بالإحتفاظ بمكانتهم بين العائلة وبالطبع على الكثير من الأموال كأمراء كبار لهم كلمة مسموعة.

الآن خالد سيكون ملكاً، وسيكون فهد بالضرورة ولياً للعهد.

الجميع يعلم أن خالد أيضاً لا يصلح أن يكون ملكاً، فقد كان درويشاً بكل ما في الكلمة من معنى.

ومادام خالد هو المرشح لأن يكون ملكاً، فإن هذا يعني بالتحديد أن كامل السلطات الحقيقية ستكون بيد ولي عهده فهد، وأن خالد سيكون مجرد واجهة لا تحلّ ولا تربط.

الملك الحقيقي بعد فيصل هو فهد، بالرغم من أنه لم يكن سوى ولي للعهد، وولاية العهد في السعودية لا تعني شيئاً كثيراً من الناحية النظرية، فالملك له كامل السلطة بأن يفعل ما يشاء الى أن يرحل. ولكن في حالة الملك خالد، كان فهد هو الملك الفعلي.

وحسب النظام الذي أسسه فيصل، هناك الملك فهو رئيس الوزراء، وهناك ولي العهد الذي له صفة النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وهناك النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء. النائب الثاني يعني بشكل تلقائي هو الرجل الثالث في الدولة. فمن يكون؟

لا بد أنه ـ حسب السن ـ وحسب القوة الفعلية على الأرض سيكون عبدالله.

وهكذا خطا عبدالله أهم خطواته باتجاه أن يكون ملك السعودية المستقبلي بعد فهد. وقد تأكد ذلك بعد موت الملك خالد عام 1982م، حيث أصبح فهد من الناحية الإسمية كما من الناحية الفعلية الرجل الأول، وأصبح عبدالله ولياً للعهد مع سلطات وصلاحيات ضئيلة جداً، في الحقيقة لم تتغير عما كان عليه من قبل، إلا من الناحية الرسمية الشكلية.

من الواضح أن التويجري نصح عبدالله بأن يقنع إخوته الكبار بعدم تجاوزه، وقيل أنه أقنع أبي الشرين والملك خالد بأن يكون هو النائب الثاني. وقيل أن الملك فهد كان مستعجلاً لممارسة الحكم كملك غير متوج فلم يجادل كثيراً بشأن عبدالله ومنصب النائب الثاني الذي شغره.

لكن بعد عام 1982، تبلورت الرؤية داخل الجناح السديري للإطاحة به. وحدثت منازعات وأقاويل وإشاعات كثيرة في هذا الشأن ليس محلها.

ولكن التويجري كان دائماً ينصح عبدالله بالهدوء، وأن يعزز علاقاته الخارجية في المحيط الإقليمي ليتعرفوا عليه كملك قادم، في حين كان الجناح السديري يحط من شأنه أمام الدبلوماسيين والسياسيين العرب والأجانب، بالغمز واللمز وغير ذلك.

في التسعينيات الميلادية، بعد غزو الكويت، وتواجد مئات الألوف من القوات الأجنبية على الأراضي السعودية، لم يعارض عبدالله السياسة العامة التي رسمها فهد وإخوانه، ولم ينتقد ما يفعلونه، ولم يدعو لأي قضية أو يدافع عن أي مسألة.

كان (مستر يس/ السيد نعم) دائماً. بل لم يكن أولئك السديريون يأخذون رأيه في شؤون الدولة العامة إلا لمجرد إطلاعه.

عبدالعزيز بن فهد:
استخدم في اللعبة ثم أخرج منها

ولكن التويجري الأب كان يراقب سلوك السديريين، وكان كثير الشك في أنهم يريدون (إغتيال ولي العهد) في عام 1992م، ثم لما حدثت التداعيات المحلية بسبب أزمة الكويت، قرر آل سعود أن يكون هناك دستور (نظام أساسي) للدولة. اختار ولي العهد عبدالله التويجري الأب نفسه ليكون ضمن اللجنة التي تعد النظام الأساسي ذاك. في موضوع صلاحيات الملك جاءت مادة تقول بأنه يعين (الأصلح) أي يكون تعيين ولي العهد في قبضة الملك نفسه، إن شاء أبقاه أو استبدله، وإن شاء منحه سلطة ما أو منعه منها. ولكن الجدل تطور، وخشي التويجري أن يكون المقصود عبدالله، لكن الملك قال للتويجري نفسه بأن (صاحبك) ليس هو المقصود، وإنما يطبق النظام فيما بعد عبدالله. والحقيقة فإن التويجري نسق مع (معزبه/ عبدالله) الموقف، وأخذ من الجناح السديري ضمانات بأن لا يساء استخدام مواد الدستور وتطبيقها على ولي العهد الحالي (عبدالله).

حاول عبدالله شيئاً فشيئاً، باعتباره ولياً للعهد، أن يدخل ضمن نطاق السيستم (السديري) في الحكم، ولكنه وجد إقطاعيات يتصرف فيها الإقطاعيون بدون مرجعية، ولم يكن السديريون (نايف وسلطان بالذات) يقبلون بلاعب جديد (محتقر) بينهم، حتى وإن كان ولياً للعهد، فهم ـ حتى ذلك الحين ـ يتحينون الفرصة لإقصائه أو قتله.

في ذات الفترة، ومع كثرة الشائعات حول الصراع، بدأ الجناح السديري محاولة اختراق الحرس الوطني لتجريد عبدالله من قوته، واستطاع بالفعل جذب إبن عبدالله (خالد) الى صفه لا ستخدامه ضد أبيه، ممنيه بمنصب كبير، ومكانة عالية ليحل محل أبيه باعتبار أن الأب لا يفقه في شؤون السياسة. تنبه الأب لذلك فأقال إبنه من مهامه في الحرس. وبدأ التويجري الأب يدير معركة مضادة للسديريين مشابهة لتلك التي فعلها في عامي 1983 ـ 1984 حين كان يطوف على البيوتات النجدية المشهورة محرضاً إياهم على الملك فهد، الذي غضب على أخيه واعتكف في المغرب عدة اشهر.

قام التويجري في التسعينيات بهندسة خطة جديدة هي بمثابة تأهيل وتأكيد لحق عبدالله بأن يكون ملكاً قادماً.

حاول التويجري القيام باختراق مضاد للجناح السديري، لكن هذا الجناح صلب، ولا يوجد فيه ثغرات، اللهم إلا من خلال (تركي بن عبدالعزيز) نائب وزير الدفاع السابق الذي أقيل عام 1978م لزواجه من هند الفاسي، فاستقر في هلتون القاهرة منذ ذلك الحين وحتى الآن. استطاع عبدالله جذب تركي الى جانبه، وكان ذلك انتصاراً صغيراً لأن الرجل لا سلطة له، لكن لا تخفى رمزية ذلك الإختراق، كما وطد علاقاته مع ابن تركي، وساعد الأب على تخطي صعابه المالية!

أيضاً خطط التويجري لجذب سلمان ـ أمير الرياض ـ الى جانب عبدالله، خاصة وأن سلمان في ذلك الوقت كان الحصان الرابح بالنسبة للأميركيين ـ أو هكذا تصوروه ـ رجلاً صاحب سلطة ويعتمد عليه وهو صغير السن نسبياً في مملكة العجائز، بل واعتقد الأميركيون أنه الشخص الذي يمكن أن يحقق الإصلاحات. لكن كل هذه التوقعات كانت سراباً، فحين زار سلمان واشنطن منتصف التسعينيات الميلادية اكتشفوا ان الرجل نسخة سيئة من فهد! وراحوا يتطلعون الى سعود الفيصل، كوجه إصلاحي على أمل أن يدفعوا الجيل الثالث للوصول الى الحكم، لكن الرجل كان زاهداً في لعب دور أكبر من حجمه. أما سلمان فإنه تودد لعبدالله ولي العهد آنئذ، لكن كل ذلك ضمن تخطيط من الجانب السديري، وظن عبدالله أن سلمان صار في جيبه، والحقيقة فإن السديريين كانوا يسخرون منه في داخلهم!

في نفس الوقت، بدأ التويجري بتدشين عمل ثقافي يجذب اليه جمهور المثقفين من الداخل والخارج في عمل استعراض للقوة والتحالفات والعلاقات، فكان (مهرجان الجنادرية) الذي لازال قائماً لتحقيق ذلك الغرض، ولازال المهرجان مفيدا كوجه لعبدالله مقابل الجناح السديري الذي يمتلك وسائل الإعلام السعودية المحلية والخارجية.

أيضاً قام التويجري الأب، بالخطوة الأهم، وهي ربط تحالفات عبدالله بالغرب، خاصة الولايات المتحدة التي تساورها شكوك في مواقفه من القضايا الإقليمية بشكل يخالف الأميركيين. وقد دأب جناح عبدالله بقيادة التويجري الأب على تلميع عبدالله، بأنه وجه عروبي ضد الغرب والأميركيين، لكن في التسيعينيات الميلادية اكتشف أن هذه الدعاية مفيدة في العالم العربي وربما في الداخل السعودي، لكنها غير مفيدة في صراعه مع الجناح السديري الذي استثمر ذلك ليقنع الأميركيين بأن عبدالله ضدهم وضد مصالحهم!

ومعلوم على نطاق واسع أن التويجري الأب هو الذي سوّق عبدالله إقليمياً، خاصة لدى عراق صدام وسوريا حافظ الأسد. وكان التويجري على علاقة حميمية مع الأسد، وإن كانت تدهورت بعد وفاته. ولربما يكشف هذا عن ميول التويجري السياسية. فهو يكره السياسة الأميركية والبريطانية بنحو خاص، كما أن ميوله تجاه مصر ضعيفة، وينظر اليها وكأنها فارغة من الروح العروبية خاصة بعد وفاة عبدالناصر.

ازداد قلق جناح عبدالله، خاصة بسبب المعلومات المتداولة حينها بأن الأميركيين يريدون الإطاحة به بالتعاون مع سلطان عبر ابنه بندر السفير السعودي آنئذ في واشنطن. وقد عكس هذا حينها ريتشارد ميرفي حين التقى بعبدالله، فقال له: إننا لا نسعى للإطاحة بك ولا نعمل على ذلك ولا نتدخل في الشأن الداخلي. فقال له عبدالله: إنكم أيها الأميركيون تريدونني ملكاً ضعيفاً!

بسبب ذلك قام التويجري بعدة رحلات الى واشنطن بالذات في محاولة كسب الأميركيين وطمأنتهم على مصالحهم، مع أن الرجل لا يخفي كرهه لهم وللإنجليز، سواء في مجالسه الخاصة أو العامة. قال لهم إن عبدالله لا يسعى لتغيير دراماتيكي في سياسة المملكة الخارجية والنفطية. وفي إحدى الزيارات أخذ معه متعب إبن ولي العهد ـ آنئذ ـ عبدالله لذات الغاية، وفي زيارة ثالثة اصطحب معه عدداً من المثقفين النجديين والمسؤولين في الحرس الوطني. وهناك من يقول بأن اتفاقات تسليح وتدريب الحرس مع الأميركيين التي تصاعدت في التسعينيات الميلادية الماضية، خاصة مع شركة فنيل، كانت بغرض تحسين صورة عبدالله لدى واشنطن.

نايف: لم يصبح نائباً ثانياً

ويبدو واضحاً أنه الملك فهد حين أصابته الجلطة الدماغية عام 1996 أن الصراع كان على أشدّه. حتى أن التويجري الأب رفض عيادة فهد في المستشفى، وكذلك فعل عدد من المساعدين لعبدالله ـ ولي العهد. وبين عامي 1996 و 2005، كان الجناح السديري يضع العراقيل أمام تسلم عبدالله كامل السلطة في غياب الملك بسبب المرض. أصر الجناح السديري على سياسة (إبقاء الملك حياً رغماً عن أنفه)! وهذا كان يعني تقسيم الدولة بين الثلاثة: عبدالله وسلطان ونايف وزير الداخلية. وفعلاً باتت الدولة مزقاً لا يستطيع احد أن يتخذ خلالها قرارا بدون إجماع. ولما كان إثنان من الثلاثة سديريين (سلطان ونايف) بات واضحاً أن عبدالله لا يستطيع مواجهتهما.

كان السديريون يريدون الوصول الى اتفاق على أن يصبح عبدالله ملكاً، ولكن دون أن ينزع مخالبهما وأن يحتفظا بكامل قوتهما، ويقلصا دور الملك الى الحد الأدنى، وأن يكون نايف النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء. في الحقيقة كانوا ولازالوا يريدون أن يصبح عبدالله نسخة من الملك خالد. رفض عبدالله ذلك، وبدا مدافعاً عما يعتقد أنه حقه في غياب الملك بسبب الجلطة الدماغية. لكنه رأى وجهاً إيجابياً ـ لفته إليه التويجري ـ فإن إقالة الملك المريض أو إعفاءه سابقة قد يكررها السديريون معه بعدئذ. بالطبع حاول عبدالله تجربة حظه محاولاً فرض نفسه كملك، لكن الجناح السديري لم يكن يستمع له، ولا يلقي بالاً لقراراته. وقد شكى هو من ذلك علناً بأن الجهاز البيروقراطي لا يطبق قراراته. بل أن معظم الأمراء وفي مختلف مواقع المسؤولية لم يسمعوا كلامه ولا أوامره، حتى سلطان بن فهد، رئيس رعاية الشباب لم يستمع اليه ولم يقبل أمره، فضلاً عن نايف ومن هم في مستواه!

لكن التويجري هندس لعبة حدّت من سلطات السديريين. فإذا كان فهد (المقعد) هو المرجعية رغم مرضه وفقدانه الجزئي لذاكرته، فإن المتحدث عن الملك الحي/ الميت لا يجب أن ينحصر في إخوة الملك الأشقاء (سلطان ونايف وسلمان). هنا أدخل التويجري شخصاً ذا أهمية على الخط.

إنه ابن فهد المدلل.. الأمير عبدالعزيز ابن الجوهرة بنت ابراهيم!

تصاعدت صلاحيات (الإبن المدلل، والإبن الفلتة) كما يطلق عليه سخرية. فعين عضواً في مجلس الوزراء، وقيل أن عبدالله عرض عليه الزواج من إحدى بناته. لكن الولد لم يهمه إلا (تبصيم) أبيه الميت لتحول وزارة المالية له المال، وبمئات الملايين من الريالات.

كانت لعبة التجاذبات داخل العائلة المالكة تستدعي تشكيل لوبي من الأمراء لصالح عبدالله الذي بدا قاب قوسين أو أدنى من كرسي الملك.

من هناك لم يستقطب من الأمراء؟

من من الأمراء لازال ساخطاً على السديريين؟

من هو المهمش منهم ويبحث عن دور؟

من هؤلاء، تشكل ما يشبه اللوبي لصالح الملك القادم (عبدالله).

تحسنت علاقة طلال بأخيه عبدالله.

تحسنت العلاقة بين عبدالله وسعود الفيصل، بل بالجناح الفيصلي عامة، رغم أن هذا الجناح يميل الى سلطان، عدا (عبدالله الفيصل) الذي يكرهه سلطان بشكل أعمى، وعدا محمد الفيصل الذي كان يوماً ما وكيل وزارة المالية، وقد أخرج من دائرة السلطة منذ مقتل والده عام 1975م، بسبب اتهامه المباشر الجناح السديري (فهد وسلطان بالذات) بالتآمر على والده وقتله.

وبالطبع تحسنت العلاقة مع عدد كبير من الأمراء الصغار المهمشين، إضافة الى كبار الأمراء (بدر وبندر ومشعل).

ومشعل بالذات أكبر من سلطان، وهو يريد أن يصبح ولي عهد عبدالله. لكن صفقة بين الرجلين قد تمت أواخر التسعينيات، واكتفى مشعل بالحياد وعدم المطالبة بحقه في العرش، على أن يكون لأبنائه دور في الدولة، وأن يحصل على تعويض مالي معقول على تنازله عن العرش (بضعة مليارات من الدولارات) ودفعات سنوية مالية قوية، قيل أنها ما قيمته 300 ألف برميل من النفط يومياً.

ولكن أين عامة الشعب من هذا؟!

الشعب لا كلمة له، وهي فلسفة يتبناها الأمراء كما تبناها التويجري الأب. لكن إذا ما حدث أمرٌ فيمكن الإستفادة من الجمهور بصورة من الصور. فحين وقعت أحداث 9/11 وما تلاها من تفجيرات داخلية، أنحى عبدالله باللائمة على الجناح الآخر متهماً إياه بالتقصير، خاصة نايف. وقد حدثت مواجهات في مجلس الوزراء، حين وقف نايف ضد عبدالله متهماً إياه بدعم الإرهابيين لأن السلاح الذي وجد لديهم كان من مخازن الحرس الوطني.

وحين تقدم النشطاء الإصلاحيون بعرائضهم، حاول التويجري استثمار ذلك لصالح عبدالله، وإظهار الأخير بمظهر الإصلاحي، فاجتمع بموقعي عريضة الرؤية، وقال لهم جملة هي بالقطع من (صنع) التويجري: رؤيتكم مشروعي! ولم يعلم الإصلاحيون بأنهم إنما كانوا يلعبون في فضاء مختلف لا علاقة له بالإصلاح بل بالصراع على السلطة بين أجنحة الحكم. ففي الوقت الذي رسخ السديريون علاقاتهم بالتيار الوهابي المتشدد بالرغم من كل ما فعله، وبالمؤسسة الدينية بشكل عام حتى صارت طوعاً بيدهم، فإن عبدالله والتويجري اللذان لا يميلان الى المشايخ وجدا نفسيهما بحاجة الى الإصلاحيين والفئات غير الوهابية، ولو من باب الإضطرار. فالمعروف عن التويجري تعصبه النجدي، كما هو معروف عنه دفاعه عن الوهابية كهوية وإن كان يحتقر في داخله مشايخ الوهابية بشكل عام. الشيء الثابت عن التويجري أنه كان حريصاً على وحدة المملكة، وإن استدعى ذلك تقديم بعض التنازلات للفئات غير النجدية، وهو رأي تبناه في أواخر سني حياته حيث أدرك أن وحدة المملكة رهينة لتوافقات مجتمعية داخلية. حينها فقط سعى لتخفيف وطأة (النجدية) في خطابه، وأقام علاقة مع الشيعة والحجازيين، بحيث خفف بشكل كبير من التوتر المناطقي من جهة، وزرع شعبية عبدالله في أرض سبخة جبلت على كره آل سعود. لكن هذا المكسب تبدد بشكل كبير خلال العامين اللذين مضيا على حكم الملك عبدالله بسبب الإخفاقات المتكررة.

مات الملك فهد، فانفتحت الدنيا أمام عبدالله، فقد أصبح بحكم القانون ملكاً، ولكنه أثبت خلال العامين الماضيين، أنه ملك (بلا أسنان) (بلا صلاحيات) (بلا قوّة) حقيقية وإن كانت القوة المفترضة موجودة لكونه ملكاً له من الصلاحيات الكثير. في هذه الفترة كان (صانع العرش الجديد) الشيخ التويجري منهكاً مريضاً، لكنه لا يكف عن العمل، والتخطيط، حتى وهو على فراش المرض. وقد شهد على الأقل وصول عبدالله الى الملك قبل أن يموت. وإذا كان هناك من يدين له عبدالله بما لديه، فإنه عبدالعزيز التويجري، الذي انتفع هو الاخر من مراهنته وعمله الدائب على (صناعة النجم الملكي) الأمر الذي أثار السديريين ضده وضد عائلته، وتم التحريض عليه ووصمه هو وعائلته بأنهم (برامكة) العرش السعودي.

مات صانع العرش الملكي بعد أن زرع أبناءه وعائلته بل وأبناء قريته (المجمعة) والى حد ما رفيقتها (سدير) في قلب البيت السعودي الحاكم، وفي أهم أجهزة الدولة.

الصفحة السابقة