خيارات السعودية في العراق

السعودية (الصامدة!) فجأة تصبح (دولة ممانعة)!

محـمـد قـسـتي

من المدهش حقّاً أن أنظمة الإعتدال الشهيرة (السعودية ومصر والأردن) والتي يعرف الباحثون والمواطن العربي العادي أنها (تكاد) تكون أداة بيد السياسة الأميركية، وتلتزم بمفردات السياسة الأميركية ـ مع متغيراتها ـ سواء فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب ومواجهة إيران والتصعيد ضد حماس، وعزل سوريا، وتبني خيار السلام مع اسرائيل دون الرجوع الى أصحاب القرار المعنيين (سوريا ولبنان وحكومة حماس).. هذه الأنظمة التي أثبتت مراراً أنها (مطواعة) تميل حيث السياسة والغايات الأميركية تميل أو تتطلب، نراها تمارس (الدول الممانعة) فيما يتعلق بالعراق. فما تريده أميركا منها لإنجاح سياساتها في العراق لا تلتزم به، لا فيما يتعلق بدعم العنف الطائفي والتحريض عليه، ولا بتمرير المقاتلين وشحنهم الى هناك كما هو حال السعودية، ولا فيما يتعلق بقطع الدعم عن الحركات العنفية العمياء في العراق، ولا فيما يتعلق بالتضييق على من يدير فرق الموت من العواصم الأردنية والمصرية والخليجية عامة.

أليس هذا يدعو للإدهاش حقاً؟

كيف يظهر لنا قادة هذه الدول بأنهم ضد الإحتلال الأميركي، كما قال الملك السعودي، بل ويدعمون المقاومة والعنف الطائفي كما هو واضح بالنسبة لقطر والإمارات ومصر والأردن والسعودية، سواء كان بالإعلام أو بالمال أو بتوفير الغطاء السياسي، أو بالضغط على الولايات المتحدة لتبني رؤى دعاة العنف (القاعدة في مقدمتهم).. كيف يكون ذلك في حين أن القواعد العسكرية في قطر والسعودية وحتى الأردن استخدمت في عملية احتلال العراق؟!

بالنسبة لهذه الدول، ونخص بالقول السعودية، فإن المشكلة لم تكن خلافاً مع أميركيا حول أصل (إسقاط صدام حسين) ولا تتعلق القضية بأن أميركا (احتلت العراق) بل الخلاف حول (مستقبل العراق) ومن يحكمه، ووفق أية نظام سياسي. السعوديون لم يحبذوا القيام بعملية عسكرية احتلالية، وإن لم يصمدوا في موقفهم ذاك، وكان اعتقادهم بأن الإحتلال وإن كان سيفضي لإسقاط نظام صدام حسين، إلا أن ما يترتب عليه من نظام سياسي سيكون في غير صالحهم، أي أن (منتج) الإحتلال سيكون سيئاً عليهم، لا بمعنى أنه سيكون معادياً لهم بالضرورة، بقدر ما هي حسابات مصالح خاصة بكل طرف. لهذا وقبل الإحتلال الأميركي بأسابيع شجع السعوديون الأميركيين على أن من الأفضل أن يتم إسقاط صدام حسين عبر تدبير انقلاب عسكري، وأوحوا بأنهم قادرين على فعل ذلك، لكن الأميركيين أدركوا بأن السعودية ليست لديها تلك القدرة على الإعداد لإنقلاب، وإنما هو زعم رأوا أن غرضه إيقافهم عن العملية العسكرية التي يجري الإعداد لها.

إذن الخلاف بين دول الإعتدال (الممانعة في العراق!) مع الحليفة أميركا كان حول هوية النظام الجديد الذي سيولد. وكانت السعودية متأكدة بأن الأكثرية الشيعية والكردية ستنال حصة الأسد، وهذه الأكثرية لا ترتبط السعودية معها بعلاقات حميمية، بل أنها لا تشعر بأية ود تجاه تلك القوى عامة إما من منظور طائفي أو من منظور عنصري/ ولا نقول قومياً. وبالرغم من كل تلك الأفكار، مشى السعوديون ومعهم بقية المعتدلين مع ماكنة الحربية الأميركية وتم احتلال العراق، وتمنى السعوديون أن تكون حساباتهم خاطئة، ولكنها لم تكن كذلك بالفعل، من وجهة نظرهم الخاصة ورؤيتهم لمصالحهم، وينطبق الأمر على الأردن ومصر.

لماذا لم تدعم السعودية أميركا في العراق

لماذا لا يدعم المعتدلون العرب أميركا في العراق، مع أنهم يزعمون أنهم يفعلون ذلك؟ الأسباب واضحة، وبالنسبة للسعودية هناك جملة منها:

ـ السعودية لا تريد نظاماً ديمقراطياً بالقرب من حدودها، وهي وإن قبلت على مضض الإصلاحات التي حدثت في كل دول الجوار الخليجية واليمنية والأردنية، فإن ما كان الأميركيون يبشرون به من نشر للديمقراطية، كان يعني تعميماً للنموذج الى السعودية نفسها، ولن يتوقف في العراق. ثم إن النظام الديمقراطي يعني حكم الأكثرية، وحكم الأكثرية سيكون شيعياً/ كردياً كما هو الحال الآن. أي قيام نظام سياسي لا توجد بينه وبين القائمين عليه مودّة (طائفية) وهي تفضل حكم صدام حسين رغم سوئه على أن يحكمه بالديمقراطية الشيعة والأكراد الذين يمثلون أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب العراقي!

ـ والسعودية لا تريد أيضاً قيام نظام عربي بهوية شيعية، فهي حساسة تجاه كل ما يتعلق بالشيعة، وذلك لخلافات أيديولوجية وصراع هويات بين الوهابية والشيعة لا نحتاج الى كثير من الكلام حولها. السعودية تعتبر نفسها رمزاً للسنة، او طليعة السنّة، وحصنهم والمدافعة عنهم، هكذا يزعم آل سعود ورجال الوهابية، وهم بالتالي مسؤولون عن أمرين أساسيين هم أسّان في برنامج الوهابية: نشر الوهابية في العالم ليتبناها السنّة بالذات من خلال استخدام الدولة كقاطرة لتعميم المذهب. والأس الثاني هو الصراع على من يمثل الإسلام وروحه (الشيعة أم الوهابية؟/ ولا نقول السنّة، لأن السنة في أكثرهم لا يؤيدون الوهابية وهي لاتزال مذهب أقلية في العالم الإسلامي بل في السعودية نفسها، وإن كان دعاتها يتمتعون بصوت عال النبرة). ثم هناك الصراع مع الأطراف السنية الأخرى من أتباع المذاهب المعروفة وبينهم الصوفية، وبالتالي فإن السعودية معنيّة وهي التي ترتب سياستها الخارجية على أساس طائفي بتأكيد أنها (زعيمة السنّة) وليست مصر أو غيرها، وأن مؤسستها هي لا الأزهر ولا غيره من المؤسسات الدينية القطرية في العالم العربي هي التي تمثل السنّة. ومن هنا يأتي الصراع مع الشيعة في مقدمة الصراعات التي تخوضها الوهابية منذ أن أُنشئت حتى اليوم، وبالتالي لا تقبل السعودية بوجود (دولة عربية شيعية) أو ذات أكثرية شيعية، فهذا ما لا تستطيع معدة الطائفيين تحمله.

ـ السبب الثالث هو أن السعودية ترى أن نفوذها الإقليمي سيضمر بقيام دولة ديمقراطية في العراق، خاصة إن حملت هوية دينية مختلفة، أو أيديولوجيا سياسية مختلفة، والعراق تاريخياً سواء حكمه شيعة أم سنة كان منافساً، وسيكون في المستقبل، للنفوذ السعودي. السعودية لم تكن لها علاقة طيبة مع كل النظم التي قامت في العراق، من ملكية/ هاشمية الى جمهورية يسارية الى قومية الى بعثية. وعلى هذا الأساس رجحت السعودية نظريتها التي نطق بها الملك عبدالله ملك الأردن ومن بعده مبارك، وهي أن العراق سيكون مرتعاً للنفوذ الإيراني، فدول الإعتدال لا يقلقها النفوذ ولا الإحتلال الأميركي، وإنما النفوذ الإيراني، الذي (راهن على كل الأحصنة) في العراق: على العملية السلمية، وعلى العنف، وعلى الإنتخابات، وعلى الشيعة وعلى السنة وعلى الأكراد، فراح يدعم الجميع، بحيث أن أي تغيير في العراق وفي أية صورة تشكل سيكون لإيران رجالها فيه (شيعة وسنة وكرداً). اما دول الإعتدال التي وقفت مع صدام حسين في ذبحه لشعبه، وفي حرق شعبه في حرب الثمان سنوات مع ايران، دول الإعتدال التي صمتت عن استخدام الكيماوي، ورفضت دعم المعارضة العراقية، وراهنت على بقاء النظام البعثي، وجدت نفسها بعد سقوط صدام بلا أوراق تلعبها، وحتى إن وجد بعضها فهي لم تحسن استخدامها، واتجهت جميعاً لتخريب العملية السياسية، وتمويل ماكنة العنف، ورفع شعار الدفاع عن السنّة (الأكراد غير محسوبين هنا!) والعمل على إعادة الوضع السياسي الى ما كان عليه قبل سقوط نظام البعث!

النفوذ الإيراني في العراق لا يقلق السعودية فحسب، بل يقلق مصر والأردن. والقلق غير مشروع في جانب كبير منه. وليت القلق أثمر عن فعل إيجابي وسياسة حصيفة، لكنه اتجه الى اعتباره نفوذاً طائفياً وليس سياسياً مصلحياً، خاصة وأن إيران دولة مجاورة للعراق، وهي اكثر اهتماماً به من مصر (زعيمة العرب!) أو الأردن التي أخذت تدرك أن مشكلتها مع ايران وليس مع اسرائيل، مثلما هو الحال مع السعودية وباقي (شلة الإعتدال).

عبدالله والمالكي: القطيعة!

ـ ثم إن السعودية كنظام، يحمل كثيراً من مواصفات نظام البعث في العراق، من جهة فئويته، فالسعودية تتحكم فيها أقلية مناطقية/ مذهبية لا يصل نسبتها الى مجموع السكان 20%، وهي ـ أي الأقلية التي على رأسها العائلة المالكة ـ تخشى من قيام نظام يحقق العدالة الإجتماعية بين مختلف الفئات في العراق لما له انعكاس على الوضع الداخلي شديد التأزم. إن هدوء الوضع في العراق بشكله الحالي لا يخدم الداخل السعودي الممزق مناطقياً ومذهبياً وسيترك آثاره السلبية على السلطة النجدية المركزية، والإيجابية على كل الشرائح المهمشة خاصة الشيعية منها (10-15% من السكان شيعة في الشرقية، 6-8% إسماعيليون في الجنوب، 20% صوفيون في الحجاز، وغيرهم).

ـ بقي سبب أخير نظنه على جانب من الأهمية، وهو أن السعودية التي انتدبت نفسها لحرب كونية مع (الشيعة) تجد صعوبة في إقامة علاقات طيبة مع النظام الجديد في العراق، فالتيار الديني يدفع باتجاه تمويل الحرب الطائفية في العراق بالمال والرجال. وآل سعود الذين ووجهوا بعنف من قاعدتهم الدينية والإجتماعية (في نجد) لا يريدون إعطاء مبرر إضافي لتوتير العلاقة مع من يمثلونهم (مناطقياً ودينياً/ النجديون الوهابيون). لهذا كان الحذر في العلاقة مبرراً في المراحل الأولى من سقوط صدام، لكن ما انكشف عنه في السنتين الأخيرتين هو أن السعودية ـ والأرجح أنه غباء سياسي ـ دخلت بقضّها وقضيضها مالاً وسلاحاً وسياسة لتحقيق أمر لا يمكن أن يتحقق وهو: إعادة الأقلية السنية في العراق الى الحكم كما كانت قبل غزو العراق. أي أن ما بدا أنه تكتيك لتحاشي الصدام مع الحلفاء الدينيين الوهابيين، كان في واقع الأمر خياراً استراتيجياً محكماً، لا نظن أنه سينجح على أية حال.

دفاعاً عن النفس ربما من تكرار تجربة العراق، تمنت السعودية، كما سوريا كما إيران، أن لو غرق الأميركيون في أوحال العراق، حتى لا يلتفتوا إليهم ويفرضوا عليهم (ديمقراطية) أو إصلاحاً هم غير راغبين فيه، خاصة وأن مبررات غزو السعودية وتمزيقها الى دويلات هي أكثر حضوراً في المشهد السعودي منه في المشهد العراقي، كون أن جميع من يمارس القتل والعنف والتفجيرات ينتمون الى مدرسة (السلفية) وهي مظلة تعني (الوهابية)، بمن فيهم من قام بتفجير البرجين في نيويورك، والحضور السعودي المكثف في كل التفجيرات في العالم هو أحد أهم المبررات لغزوها فيما لو أراد الأميركيون فعل ذلك.

لكن ما يختلف السوريون والإيرانيون فيه عن السعوديين هو أن هزيمة أميركا في العراق انتصار استراتيجي لكلا النظامين، وهزيمة للسعودية نفسها.. أي ان الضربة المؤلمة التي تمناها آل سعود لأميركا هي أن تكون مخففة تعيد الى الأميركيين وعيهم وتدفعهم لتعديل سياساتهم، ومن هنا نتفهم لماذا لا تريد السعودية ـ من خلال تصريحات عدد من مسؤوليها ـ خروج القوات الأميركية من العراق. إنه يعني الهزيمة لصالح الخصوم الإقليميين ـ سوريا وإيران وحزب الله وحماس. ولهذا أيضاً، حذرت رايس مراراً حلفاءها المعتدلين بأنهم يجب ان يدعموا أميركا في العراق، وإلا فإن خسارة أميركا ستكون كارثة عليهم، وهو صحيح الى حد بعيد.

أهداف السعودية في العراق

إدراكاً لهذه الحقيقة، يحاول السعوديون والمصريون والأردنيون إقناع أميركا بإحداث تغيير استراتيجي في سياساتها في العراق: 1) القيام بانقلاب عسكري! متوهم يعيد السنة الى الحكم! 2) إلغاء العملية السياسية ونتائج الإنتخابات والدستور وغيرها، وطرد من يعتبرونهم عملاء ايران من الحكم! 3) إسقاط حكومة المالكي والإتيان بعلاوي مجدداً ولكن ليس وفق الإنتخابات، بحيث يقوم علاوي بعدئذ بدور الواجهة ليحكم البعثيون من جديد العراق تحت مسمّى آخر.

بيد أن هذه الخيارات ليست واقعية بتاتاً، وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود الى الوراء. فاستعداء الأكثرية التي جاءت عبر الإنتخابات أمرٌ أكثر خطورة من مواجهة التمرد السنّي، والإنقلاب على الديمقراطية (أو نصفها) يفتح الباب واسعاً أمام العنف ضد الأميركيين وقيام الحرب الأهلية بأوسع مدياتها. لذلك لم يكن غريباً إصرار إدارة بوش على بقاء الوضع على ما هو عليه، وإقناع المعتدلين العرب ـ السعودية بالذات ـ بدعم سياسات أميركا في العراق من خلال:

ـ استخدام السعودية لنفوذها للضغط على المجاميع السنّية الممولة سعودياً للإشتراك في العملية السياسية.

ـ إيقاف التمويل عن القاعدة وجماعات العنف في العراق، وكذلك إيقاف السعودية لشبابها من الذهاب الى العراق، وهو أمرٌ اكتشف الأميركيون أن السعودية تحضّ عليه بوسائل ملتوية.

ـ الإعتراف بالوضع القائم في العراق والذي جاءت به الإنتخابات، من خلال فتح السعودية ودول الإعتدال سفاراتها في بغداد، وهو أمرٌ أعلن سعود الفيصل مؤخراً بعد لقائه مع رايس أنه سيفعله. إن عدم الإعتراف بالوضع القائم يعني محاصرة السلطة العراقية في بغداد سياسياً، وهو يعني فيما يعنيه أن دول (الإعتدال) لا تستطيع أن تكون لها أوراق تلعبها إلا من جهة السلب (التخريب).

ـ وفي الإطار نفسه، فإن السعودية ترفض تقديم دعم مالي للحكومة العراقية، على الأقل إسقاط الديون المترتبة منذ العهد البائد، والتي سببتها حروبه ضد إيران والكويت بشكل خاص، في وقت تنازلت فيه معظم دول العالم عن معظم ديونها. اما السعودية فإنها ليس فقط لم تسقط تلك الديون، وبعضها يتعلق بتمويل صدام في حربه ضد ايران، بل أنها ضغطت على الكويت ودول خليجية أخرى للقيام بنفس الأمر.

بيد أن المعتدلين العرب يعطون التعهدات ويمارسون عكسها، ويعيشون أزمة المنافسة مع ايران، أو أزمة طائفية لا نعرف كيف تغلغلت في عقول نخب تزعم أنها علمانية! رغم ديكتاتوريتها! ولهذا يشكك كثيرون في أن تقدم دول الإعتدال العربي الحليفة لواشنطن وحتى لإسرائيل بتغيير نهجها في العراق الى منافسة السياسة الإيرانية على أرض الواقع، بدل إرسال شحنات المال والرجال والمتفجرات، وتغطيتها سياسياً. والسبب أن هذه الدول قادرة على (التخريب) ولكنها ليست قادرة على (البناء).. فهي أنظمة فرطت بكل أوراقها القوية، وتجد أن لديها القدرة على التفاهم مع اسرائيل أكبر بكثير من قدرتها على الإنفتاح على المكون الكردي والشيعي في العراق. ثم إن هذه الأنظمة شاخت وليست لها قدرة على المنافسة من جهة الفعل، وهي أنظمة فاشلة في البناء الداخلي كما في السياسة الخارجية، وهي أنظمة تركت أميركا تقوم بما تريده في العراق الى أن اكتشفت أن المصلحة لم تذهب الى أميركا وإنما لعدوتها إيران، فغاظها ذلك!

وباختصار فإن ما تريده واشنطن من هذه الدول هي غير قادرة عليه، وإن زعمت أنها تمتلك ورقة السنّة العرب. في الحقيقة فإن سوريا والى حد ما إيران تمتلكان من الأوراق السنيّة العربية ما يضاهي ما تمتلكه السعودية وجميع دول الإعتدال نفسها. وهذه الدول ليست لديها أوراق مع النخبة السياسية السنية العراقية المنخرطة في العملية السياسية، لأن رهانها كان على (التخريب) وبالتالي على جماعة القاعدة وما يشابهها في العراق، ومثل هذه الجماعات تصلح للتخريب وليس لبناء عملية سياسية، وبالتالي فإن ما يدفع لها بطرق ملتوية لا يمكن أن يثمّر سياسياً على الطاولة، ولو أمرت السعودية تلك القوى بشيء ـ وهي لن تأمرها ـ فإنها لن تسمع لها صوتاً، خاصة وأن التمويل السعودي يأتي عبر مشايخ الوهابية وليس بالطريق المباشر!.

رايس والفيصل: هل أقنعته بدعم المالكي؟!

هل أميركا عاجزة

في هذه الحالة يأتي السؤال الأكثر حراجة: إذا كانت الولايات المتحدة تدرك أن السعودية ودول الإعتدال الحليفة تخرب عليها لعبتها في العراق وهي تعلن عن ذلك أحياناً (تصريحات خليل زاد وما ينشر في الصحف الأميركية) فلماذا لا تجرب واشنطن الضغط بصورة أقوى على حلفائها، خاصة وأن المعركة في العراق مصيرية لأميركا، وليست هامشية؟

هذا السؤال يعيدنا الى أن المشروع الأميركي فشل في العراق، وأن أميركا لم تعد تخيف لا سوريا ولا إيران، مثلما أصبحت إسرائيل لا تخيف سوريا أو حماس أو حزب الله! انكشاف الضعف الأميركي في العراق، والإسرائيلي في لبنان، شجّع سوريا وايران وحزب الله وحماس على مواصلة طريق المواجهة (استراتيجية التشدد بنظر البعض) وبالنسبة لدول الإعتدال العربي، فإنها من جهة انبطحت أكثر أمام إسرائيل وأعادت تقديم مبادرة عبدالله للسلام، واندفعت لتعزيز العلاقة مع اسرائيل على حساب الحقوق العربية وأيضاً من أجل تبديل وجهة الحرب أو المواجهة من اسرائيل الى ايران. ومن جهة ثانية فإن المعتدلين العرب ثمّروا الإنكشاف الأميركي في العراق باتجاه (شطب أميركا لمشروعة دمقرطة المنطقة) وبالتالي لم يعد الحلفاء يخشون ضغوطاً من أجل الإصلاحات لا في مصر ولا في السعودية، بل أن الأردن أخذ تتراجع عن هذا المضمار كثيراً. ومن جهة ثانية ثمر المعتدلون ذلك الإنكشاف من خلال الضغط على أميركا لتبني مشروعهم بإسقاط ما يسمونه بـ (الحكومة الشيعية) في بغداد مقابل التعاون في مواجهة إيران والتراخي في المطالب في موضوع العلاقة مع اسرائيل. ووجد المعتدلون متّسعاً من الحركة والإستقلالية بسبب الحاجة الأميركية ضمن المشروع الكبير (تحقيق السلام مع اسرائيل ومواجهة الإرهاب واحتواء ايران، والحفاظ على امدادات النفط بشكل رخيص ما أمكن) وبالتالي راحوا يصرحون بما يريدون، ولأول مرة يعلن السعوديون أنهم (يختلفون) مع حلفائهم الأميركيين في بعض القضايا، كما يتفقون في أخرى، وهو ما قاله سعود الفيصل أثناء زيارة رايس الأخيرة. وهو بهذا يشير الى اتفاق على كل القضايا بما فيها المؤتمر الدولي حول السلام مع اسرائيل، عدا مسألة واحدة: (العراق). ولازال السعوديون بالذات يأملون في أن يلووا اليد الأميركية لتقبل وجهة نظرهم المرفوضة حتى الآن.

إن أميركا اليوم أضعف من أن تفرض على حلفائها موقفها في العراق، خاصة فيما يتعلق بدعم حكومة المالكي، وإن كانوا يزعمون أنهم يتعاونون ضد الإرهاب وغيره.. وبالتالي فإن أميركا التي وضعت حدوداً فاصلة بين الأصدقاء والحلفاء، ولم تعد ترى العالم العربي سوى فسطاطين: فسطاط الإعتدال الذي تدخل فيه اسرائيل، وفسطاط التطرف والشر الذي يضم سوريا وايران وحماس وحزب الله.. في هذه الحالة لا يمكن لأميركا إلا أن تضغط على حلفائها ولكن الى حد أن لا تخسرهم وتخسر بالتالي ما هو أبعد من العراق (الإستراتيجية الأمنية في المنطقة عامة حتى بعد أن تنسحب من العراق مرغمة).

تقييم الإستراتيجية السعودية

في المحصلة النهائية هل ستؤدي إستراتيجية السعودية ودول الإعتدال غرضها؟ وكيف؟

يبدو ظاهرياً أن السعودية بالخصوص لديها استعداد للقتال ـ عبر نفس العناصر المتشددة التي تميل الى القاعدة ـ والتضحية بأي عدد من العراقيين سنة وشيعة بغرض تخريب العملية السياسية وقلب الطاولة على الحكام الحاليين، وبالتالي على إيران ـ العدو اللدود. في حال فشل هذا الهدف، فهناك هدف واضحٌ عبر دعم علاوي، والذي لم تدعمه السعودية حين كان رئيساً للوزارء، ليعود الى الحكم معزّزاً بالبعثيين وطاقم الحكم القديم.. ولكن كيف؟ لا يمكن استخدام القوة لا الأميركية ولا العراقية لتحقيق هذا الغرض، وفي حال استخدمت فإن القوة العسكرية الراجحة هي لمن هم في الحكم. أيضاً فإن الإنتخابات المبكرة غير ممكنة في الوقت الحالي وليس لها مبرر أيضاً. بقي الإنسحاب من الحكومة وهو ما قامت به جبهة التوافق السنيّة، وما قام به حزب اياد علاوي ـ القائمة العراقية ـ ولكن (على النص) وقد يتطور الى انسحاب كلي. ثم ماذا سيحدث؟ إن الحكومة الحالية تستند الى أكثرية انتخابية يمكنها من تشكيل حكومة بدون مشاركة الطرفين المنسحبين ومعهم مقتدى الصدر ايضاً.

لا يوجد أفق أمام هذا الحل الإنقلابي.

هل يمكن التعويل على التخريب الأمني؟ نعم ولكن الى حدود. لقد جرّ الوهابيون من رجال القاعدة السنّة والشيعة في العراق الى حرب أهلية، كانت الخسارة الأكبر قد وقعت على الجانب السنّي كما هو واضح اليوم. ثم إن القاعدة المدعومة سعودياً اختطفت القرار السنّي العربي العراقي، وأشعلت فتنة بين السنة أنفسهم كما هو واضح اليوم أيضاً، الأمر الذي أدى الى توجيه الحراب اليها: حراب الأميركيين، وحراب الحكومة العراقية، وحراب مقتدى الصدر، وحراب العشائر السنية، وأخيراً حراب المجموعات السنية المسلحة أيضاً (المقاومة). وبالتالي فإن تصفية القاعدة باتت تلوح في الأفق، وبسبب ذلك سيضعف النفوذ السعودي الوهابي أكثر فأكثر.

ولو افترضنا أن العنف الطائفي استمرّ بتحريض سعودي مصري أردني لأطراف أخرى، فإن النتيجة لن تتغير، ومن يريدون الدفاع عنهم ـ أي السنة العرب ـ سيكونوا كما هم الآن، الخاسر الأكبر. ولو تطورت الحرب الأهلية، فإن النتيجة ستكون التقسيم للعراق، والتقسيم لا يخدم السعودية، وهو أكثر خطرا عليها من خطر وجود حكم شيعي ديمقراطي في العراق، وستكون دولة الشيعة (الخالصة) في حال التقسيم على الحدود السعودية، أي أن على السعوديين التعايش معهم بصورة أو بأخرى أو هي الحرب.

ولو افترضنا أن أعمال العنف استمرت ـ وهي ستستمر ضد الأميركيين وهو حق مشروع ـ فإن انسحاب الأميركيين لا يخدم السعودية التي هددت بالتدخل عسكريا كما تقول لدعم السنّة العرب وحقوقهم ـ كما كتب مستشار تركي الفيصل، نواف عبيد، في الواشنطن بوست قبل أشهر عديدة ـ ومن المؤكد أن ساحة المعركة العراقية لو وقعت بين ايران من جهة والسعودية والمعتدلين العرب فستكون لصالح ايران والشيعة.

لهذا فإن كل السيناريوهات المحتملة لا تخدم السعودية ولا دول الإعتدال العربي.

الشيء الوحيد الذي لم يجربوه ولا يريدون تجريبه، هو فتح الجسور مع الأكثرية الكردية/ الشيعية الحاكمة، وعدم الرهان على حصان واحد يبدو أنه خاسر منذ البداية، خاصة ونحن لا نتحدث عن مبادئ تحرك السعوديين والمصريين والأردنيين (نقصد الحكام بالطبع). لماذا تراهن ايران على كل الأحصنة، ويراهن المعتدلون على حصان واحد خاسر بكل المقاييس؟!

ولو انتظر السعوديون حتى نهاية حكم بوش ومجيء الديمقراطيين، فإن مشروع الأخيرين فيما يتعلق بالعراق لا يخدمهم أيضاً. لأنهم يريدون سحب القوات، ونعلم ما هي النتيجة: اتساع رقعة الحرب الأهلية، وزيادة النفوذ الإيراني، وإضعاف أكثر للأقلية السنية العربية في العراق.

أيضاً، لو أخذنا سيناريو أخير وهو لو شجع السعوديون ـ وهم يفعلون ذلك بغباء ـ توسيع المعركة مع ايران على قاعدة طائفية، والإنخراط في مشروع أميركي لحرب ضدها، وهو ما يخطط له فريق في السلطة السعودية (التيار السديري ومهندسه بندر بن سلطان) فإن الحرب لو قامت ستجعل من السعودية خاسراً كبيراً حقاً، هذا إذا كانت أميركا في الأصل قادرة على شن حرب أخرى، مع الأخذ بعين الإعتبار الرسائل الإيرانية الصريحة لدول الخليج والتي تهدد فيها بضرب منشآتها النفطية في حال استخدمت قواعدها العسكرية في الضربة التي يروج لها أحياناً.

هناك طريق مسدود واضح أمام دول الإعتدال العربي وأمام أميركا وبريطانيا. وليس هناك من أفق سوى تغيير دراماتيكي في السياسة الإستراتيجية السعودية. ولذلك ـ وحسبما تفيد الدراسات والتقارير ـ نرى أوروبا تسعى حثيثاً لبلورة اتجاه التغيير في السياسات غير المصادمة العسكرية في العراق وإيران ولبنان، وبالتالي الإبتعاد عن الموقف الأميركي، لأن مجانين البيت الأبيض غرقوا وسيغرقون معهم كل حلفائهم الذين يقبلون باستراتيجيتهم التصعيدية من خلال استخدام قوة نارية أعلى وأعلى.

الصفحة السابقة