الـد ولـة المـترهـلــة

كل من يراقب السياسة الخارجية السعودية يخلص الى إحدى النتيجتين: إما أنها غائبة أو متخبّطة، وإن بدا عليها غير ذلك. وفي واقع الأمر، هذا ينطبق الى حد كبير على مجمل سياسات الدولة، التي تمثّل تظهيرا دقيقاً نسبياً لثلاثة معالم رئيسية حكمت مسيرة الدولة: المركزية الصارمة، الشخصنة، الفساد. وكل معلم يترجم نفسه بطريقة توصل الى إحدى النتيجتين سالفتي الذكر، فحين تكون شؤون الدولة منقبضة في مركز واحد، تصبح الأطراف مشلولة، أو في الحد الأدنى غير قادرة على الاضطلاع بالوظيفة المقرر لها، بحيث يؤدي هذا التعطيل الى ترهيلها تدريجياً بحيث لا ترى نفسها مسؤولة عما يُنهِض أو يُجهِض الدولة جزئياً أو كلياً، فيما تتكل على المركز في الإضطلاع بأعباء الدولة. وحين يكون المركز محكوماً بأشخاص محددين يحوزون على مطلق السلطة، ويحتكرون صنع القرارات والسياسات، فإن المركز نفسه يتآكل ذاتياً وتضمحل المؤسسة لصالح الشخص ـ المسؤول الذي يتحوّل هو ذاته الى مركز. وإذا ما أكمل الفساد المثلث القاتل في بيروقراطية الدولة، فإن الترهّل والفوضى والانفعالية تصبح سمات سياسات الدولة.

نقل أحد زائري وزارة الخارجية السعودية، وهي بالمناسبة الوزارة التي تعتبر الأكثر تنظيماً ونشاطاً بالقياس الى بقية الوزارات، أنه جاء مع عدد من الشخصيات الخليجية من أجل حضور جلسات مكثّفة حول العمل الدبلوماسي لمدة أسبوع، ولكن المفاجأة كانت أن تلك الشخصيات حضرت الى المركز المخصص ولم يعثروا على أحد في اليوم الأول، فسألوا الشخص المسؤول عن المركز فقال مازال الوقت مبكّراً، وهناك متسّع من الوقت، وأوشى إليهم بأن الأمور تسير بهدوء ولا حاجة للعجلة وبإمكانهم العودة لاحقاً. اعتقد هؤلاء أن الأمر لا يعدو أمراً طارئاً، وسيختلف الحال من غدٍ، وجاءوا في اليوم التالي الى المكان ولم يجدوا ما يشير الى تغيير ما عن يوم أمس، وهكذا انقرضت الأيام وعاد هؤلاء الى بلدانهم دون أن يضيف اليهم المركز المتخصص في العمل الدبلوماسي ما يفيد سوى أنهم تعرّفوا على طريقة سير الوزارة الأكثر نشاطاً في ديارنا.

اخترنا وزارة الخارجية نموذجاً، لأنها الجهة الافتراضية التي ستنهض بالحكومة السعودية بعد سنوات غياب إما بسبب قلة ذات النفط، لشراء الذمم والتحالفات السياسية، وإما لأنها كانت واقعة تحت وطأة عقاب الحادي عشر من سبتمبر.

حين عاد الأمير المثير للجدل بندر بن سلطان من واشنطن للاضطلاع بمنصب مستشار مجلس الأمن القومي، كان الاعتقاد بأن طموحه المتفجّر سيعين على الانتقال بوزارة الخارجية الى مستوى الفاعل لا المنفعل في الواقع السياسي الاقليمي وربما الدولي، وسيكون ذراعها الممتد الى المناطق التي كان الترهّل البيروقراطي يحول فيما مضى من الوصول اليها. ولكن الرجل جاء مشحوناً بطاقة تدميرية هائلة، وبات يمارس دوراً أخطبوطياً، فهو يكاد يصبح وزير خارجية غير مفوّض، وسفيراً فوق العادة، ومستشاراً سياسياً محلياً ودولياً، وخصوصاً أميركياً، إلى جانب كونه وسيطاً دولياً. أراد أن يعالج الترهّل في الدولة وخصوصاً وزارة الخارجية، فإذا به يضع جهاز سرعة طائشة لهيكل الدولة المهترىء، فخاض به مغامرات تدميرية في العراق، ولبنان، وفلسطين، وربما قضايا المنطقة برمتها. للإشارة فحسب، اعتقد بندر بأن رصيده الأميركي سيكفيه للعب دور البطل في المنطقة، ولكنه إكتشف بأن الاخيرة ليست بالتي تنطلي عليها مغامرات طائشة، وقد رفضت كثير من حكومات المنطقة التعامل معه، فضلاً عن قبوله وسيطاً في قضايا الخلافات خصوصاً حين تكون الادارة الاميركية طرفاً فيها.

مايدعو للتأمل طويلاً، ما نسمعه ونقرأه من إطراء مفتعل لدور الملك عبد الله، سواء في الصحافة الغربية والاميركية على وجه الخصوص، وكذلك من مسؤولين غربيين وعرب مصنّفين على معسكر الاعتدال بالمقاييس الأميركية. من اللافت أن هؤلاء أنفسهم كانوا يعبّرون بطريقة ما فيما مضى عن تحفّظهم من وصوله الى العرش، إعتقاداً منهم أن نزعته العروبية الإفتراضية ستحول دون الوصول معه الى تفاهم فيما يرتبط بالمصالح الاستراتيجية الغربية في بلاده والمنطقة بصورة عامة.

وبحسب المثل الشائع (إلحق الكذاب الى باب الدار)، فقد وصل عبد الله الى العرش، وتبدّدت سريعاً تلك المخاوف، بل لحظنا أن الرجل أبدى ليونة غير مسبوقة، وهو على استعداد لقطع الخطوط الحمراء التي لم يجرؤ سلفه على فعله رغم كل قباحاته السياسية والاقتصادية.

جاء الى العرش محفوفاً بكل الابتهاجات المصنّعة محلياً وخارجياً، على أمل أن يحيل الحلم الى حقيقة، وأن يكون للعروبية العصماء مدخل في تفكيره السياسي، ولكن هذه العروبية ترهّلت سريعاً، ولم تعد حاضرة على الاطلاق لا في موضوع الإصلاح الذي بدا فيه هزيلاً وخانعاً، ولا في ملفات المنطقة الكبرى بدءً من القضية الفلسطينية التي قاربها بقدر كبير من التجاهل والخفّة والإهانة، بل استعملها كورقة مساومة مع الولايات المتحدة من أجل (تبييض) وجه العائلة المالكة بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وتقدّم بمبادرة سلام في بيروت العام 2002، ورغم ما انطوت عليه من تنازلات مهينة إلا إنها رفضت من الجانب الاسرائيلي، فانبرى الرجل الأميركي في العائلة المالكة لتسويقها معدّلة بعد إسقاط مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينين والقبول بمبدأ التوطين. وفي لبنان لا يختلف الحال، فقد عجز الملك عن أن (يمون) على حلفائه من فريق 14 آذار، الذين تجرأوا مراراً على التطاول على الحكومة السعودية، وخصوصاً سمير جعجع ووليد جنبلاط، فيما لم يحترم سعد الحريري وعوداً قطعها أمام الملك شخصياً. واليوم حيث تمسك فرنسا بزمام المبادرة لتسوية الخلاف داخل لبنان، يظهر الضعف السعودي واضحاً، حيث ينظر اللبنانيون الى التحرّك الدبلوماسي الذي يقوم به السفير خوجه أو غيره من المسؤولين كونه (تطبيشاً) وليس مبادرة، بالرغم من الحقن المعنوية التي يقدّمها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري للدبلوماسية السعودية كيما تضع كامل ثقلها في الموضوع اللبناني. وكما خسر الملك إنجازه اليتيم إقليمياً ممثلاً في إتفاق مكة بين حماس وفتح، فإن الخسارة في لبنان والعراق لن تكون أقل فداحة، ولا يمكن للترهّل السياسي أن يصنع إنجازاً، ولو كان مسلّحاً بمال قارون.

الصفحة السابقة