الحقيقة المهرّبة

إغتيال نصر الله وخوجه

حـسـن الـدبـاغ

في عملية متعمّدة لخلط أوراق القضايا ببعضها، في بلد مثل لبنان حيث بات سهلاً في ظل التجاذبات السياسية الحادة والمسرح السياسي المفتوح على كل الأدوار والممثلين، يصبح توظيف المعلومات مهما بلغت درجة وثاقتها وصدقيتها مندغماً في صراع الأطراف، بل قد يصبح إعادة إحضار وتنشيط بعض المعلومات البائتة أو الأرشيفية صالحاً طالما أنها توفّر دعامة لدعوى جديدة.

وسنحاول هناك تفكيك روايتين تشابكتا في مدة زمنية مضغوطة بسبب تعقيدات الوضع اللبناني، وما صاحبه من ارتكاسات خطيرة بدءً من ملف الإغتيالات والتفجيرات وصولاً الى أزمة مخيم نهر البارد. الرواية الأولى تدور حول مخطط لاغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، والتي كشفت عنها أول مرة مصادر صحافية فرنسية حيث ذكرت بأن مسؤولين رفيعي المستوى من إسرائيل والسعودية وفرنسا إلتقوا مع شخصيات لبنانية موالية للولايات المتحدة للتخطيط لاغتيال السيد نصر الله. ويقول المصدر الفرنسي بأنها ليست المرة الأولى التي يريد فيها الاسرائيليون إغتياله، فقد صرّحوا بذلك مرات عدة، ولكن الجديد في ذلك أن السعوديين يشاركون هذه المرة في عملية التخطيط.

وفي الثلاثين من أغسطس الماضي نشر موقع (voltairenet.org) على شبكة الانترنت تحت عنوان (هل فرنسا تتآمر لاغتيال الشيخ حسن نصر الله؟) جاء فيه أن مفاوضات غير رسمية حول مستقبل لبنان جرت على شاطىء الريفيرا بفرنسا خلال الأسبوع الثاني من أغسطس 2007. وبموازاة هذه المفاوضات، كان هناك لقاء سريّ قد جرى إعداده في مكان إقامة الأمير بندر بن سلطان في (Juan-les-Pins) جمع سعد الحريري، زعيم تحالف 14 آذار، وضيفاً غامضاً لا يقل عن رئيس الوزير إيهود أولمرت. وتقول الصحيفة بأنه على الرغم من أن كواي دي أورساي رفض تأكيد أو نفي حضور مسؤولين فرنسيين يمثّلون الرئيس ساركوزي، إلا أن حضورهم قد تأكّد من مصادر الموقع نفسه.

ومن غير المحتمل جداً، حسب الموقع، أن لا يكون الأليزيه غير مدعو أو ممثل في اللقاءات على اعتبار أنه ينظّم الحركة غير المنضبطة لرئيس الوزراء أولمرت على شاطىء الريفيرا.

من جهة ثانية، وحسب الموقع، فإن من الصعوبة بمكان معرفة المحتوى الدقيق والمحدد للقاءات. على أية حال، فإن مصادر دبلوماسية كشفت للموقع بأن سعد الحريري طلب من إيهود أولمرت التخلّص من حزب الله وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أجاب بالقول بأن (تساحال) أي قوات الدفاع الاسرائيلية، لا يمكنها أن تقوم بهذا العمل بشكل منفرد. ويمضي الموقع للقول بأنه بعد إتفاق أولي، فإن المتآمرين إتفقوا على أن يترك الخيار لسعد الحريري في قرار إغتيال حسن نصر الله. وحالما يصبح حزب الله بلا قيادة، فإن تساحال ستقوم بسحق المقاومة اللبنانية.

وبحسب الموقع، فإن السفير عبد العزيز خوجه الذي كان حاضراً في اللقاء، حذّر المشاركين من أن تداعيات هذا السيناريو قد تؤدي الى تصدّع وتشظي بلاد الأرز. وفور عودته الى بيروت، أعلن السفير بأنه يشعر بالتهديد بهجوم إرهابي فقرر بصورة مفاجئة مغادرة بيروت.

ومن بين النخبة الحاكمة في لبنان، هناك من تساءل حول السياسة الجديدة لرئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، وكذلك إزدواجية السلطات الفرنسية التي دعت قبل ذلك المتخاصمين كافة للحوار حول الوضع في (Celle Saint-Cloud) ثم تشارك بعد أسابيع قلة في التخطيط لاغتيال قائد المقاومة اللبنانية.

وفي السادس والعشرين من أغسطس تحدثت الصحافة اللبنانية عن مصادر مطلّعة كشفت عن مخطط تديره تل أبيب والرياض وعمّان وفريق 14 آذار لاغتيال قائد حزب الله.

وذكرت المصادر بأن نائب الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية ومستشار رئيس الوزراء، والسفير السعودي في لبنان، ومستشار الأمن القومي السعودي، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة الأردنية عقدوا لقاءً في بيت سعد الحريري، في الرابع من أغسطس لمناقشة خطة اغتيال الشيخ حسن نصر الله.

وكان يعتقد المشاركون في اللقاء بأن هذه الخطوة قد تبدّد شمل المؤيدين لنصر الله في لبنان، كما شدّدوا على الحاجة إلى حرب إسرائيلية أخرى ضد حزب الله. وأضافت المصادر بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت رفض في لقائه السابق مع ملك الأردن عبد الله الثاني فكرة شن الحرب من أجل قتل زعيم حزب الله، قائلاً: ليس بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يخوض حرباً أخرى مع هذه الحركة.

وتفيد المصادر بأن حزب الله أصبح على اطِّلاع بالمخطط، ما دفعه لتشديد الإجراءات الأمنية من أجل حماية نصر الله وعائلته.

من جهة ثانية، نقلت صحيفة (دايلي ستار) اللبنانية في عددها الصادر في الأول من سبتمبر مقتطفات من مقابلة وزير الداخلية اللبناني السابق سليمان فرنجية مع برنامج (كلام الناس) الذي تبّثه على الهواء مباشرة قناة (إل بي سي) اللبنانية، نقلت عنه قوله أن كلاً من وزير الإتصالات مروان حمادة ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة خططا لاغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وقال فرنجية أن شبكات الإتصال الخاصة بحزب الله جرت مراقبتها من أجل إما عزل حسن نصر الله أو تحديد موقعه لتصفيته.

هذه التقارير وغيرها التي نشرت في فرنسا وانتقلت إلى لبنان أصبحت موضع إهتمام إعلامي من قبل وكالات الأنباء والصحافة عموماً، وقد نقلت وكالة الأنباء الإيرانية (مهر) حرفياً عن المواقع الفرنسية، ولكن بيان السفارة السعودية في بيروت في السادس من سبتمبر كان موجّهاً الى وكالة (مهر) الإيرانية حيث صنّف البيان الأخيرة على (الجهات التي دأبت على ترويج أخبار وتلفيق روايات وإطلاق إتهامات ضد معالي السفير في بيروت..).

وكان متوقعاً أمام قضية خطيرة كهذه أن يؤكّد البيان على دور المملكة التقريبي والتوفيقي بين الأطراف والقوى السياسية اللبنانية كافة و(الحرص على البقاء على مسافة واحدة من الجميع..والسعي الى تقريب وجهات النظر وتحقيق الوفاق وحماية امن لبنان واستقراره، ووحدة اللبنانيين، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، والوقوف الى جانبهم في مواجهة كل المؤامرات..).

الاتصالات التي جرت بين السفير خوجه وقياديين في حزب الله هدّأت من الموقف الذي كاد أن يخرج عن نطاق السيطرة، وكانت رغبة الطرفين إحتواء تداعيات التقارير بكل الهواجس المحفوفة بها. ولكن للقضية بعداً آخر لم يشأ السفير الكشف عنه إلا بهذه الطريقة التي عبّر عنها حين وظّف تلك التقارير لحماية ذاته من مخطط يطاله هو نفسه، ما اضطره لاستعمال التقارير كمبرر للعودة إلى الديار والعيش بعيداً عن الساحة التي يخطط آخرون لأن يجعلوه ضحية سياسية يوظّفونها في معارك الداخل اللبناني والخارج العربي والدولي.

قبل الاسترسال في الكلام عن مخطط لاغتيال السفير خوجه في بيروت، نفتح قوسين لبيان جانب هام جرى إهماله في غمرة الحديث عن مخططات إغتيال حقيقية ومفتعلة. ولعل قراء (الحجاز) يتذكّرون أننا أوردنا في مقال بعنوان (بندر..مهندس الفتن) في العدد 56 بتاريخ 15 يونيو الماضي وذكرنا حينها أن السفير خوجه قد يتعرّض لمحاولة إغتيال من قبل جماعات على علاقة بالأمير بندر بن سلطان من أجل تصعيد درجة السخونة السياسية والأمنية في لبنان. اللافت في الأمر، أن أجهزة الاستخبارات السورية كشفت للسعوديين قبل القمة العربية التي انعقدت في الرياض في مارس الماضي عن أن السفير خوجه على قائمة الإغتيالات لدى جماعات متطرّفة داخل لبنان، وكشفت التقارير لاحقاً عن أن أشخاصاً يراقبون منزل السفير خوجه.

قدّم السوريون تلك المعلومات للسعوديين من أجل إمتصاص بعض التوتر في العلاقات بين دمشق والرياض، وأن تكون بادرة حسن نيّة من جانب القيادة السورية قبل انعقاد القمة. وفيما يبدو تحفّظ السعوديون على تلك المعلومات، فيما كانت جهّات في الخارجية السعودية تدرك بأن ثمة في الأكمة حقيقة ثاوية لا يمكن إغفالها، وهي تندرج في سياق صراع الأجنحة داخل العائلة المالكة، وفي قضية لبنان بالتحديد حيث المقاربات السعودية تكاد تتمايز وإن اتفقت على أهداف محددة.

لم تلق المعلومات الإستخبارية السورية إهتماماً إعلامياً كبيراً، وربما كانت فوضى حوادث التفجيرات، والمفخخات، الى جانب معارك نهر البارد حالت دون تصعيدها إعلامياً، إلا أن الملفت حينذاك أن تقارير أخرى تسرّبت حول مخطط إغتيال يديره جناح في العائلة المالكة بقيادة الأمير بندربن سلطان، وهو الجناح غير المتوافق مع توجّه الملك عبد الله ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل.

وفيما يبدو أن ثمة من أفشى سراً بأن عملية خلط أوراق قد تنجح في إشاعة الفوضى داخل لبنان عبر تصفية رؤوس كبيرة تتخذ من المذهبية لونها القاني، حيث تنبّه السفير خوجه الى أن توريطه في مخطط لاغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله سيجعل منه الرأس التالي كجزء من عملية خلط الأوراق، وربما هناك من أخطأ في إشراكه في أية لقاءات تستهدف مناقشة قضية بحجم إغتيال نصر الله.

غياب السفير خوجه عن بيروت لفترة طويلة نسبياً كان مطلوباً وإن حمل معه أسئلة جديّة، إذ لم يكن الأمر متعلقّاً بالتشاور مع القيادة السياسية في المملكة حول الملف اللبناني، كما أعلن خوجه، بل كان متعلقّاً بقضية صراع داخل العائلة المالكة تصاعد بوتيرة متسارعة في الآونة الأخيرة. وجد خوجه في التقارير الصحافية حول مخطط إغتيال نصر الله ذريعة نموذجية للعودة إلى الديار تفادياً لأي طارىء أمني يودي بحياته، فمارس دوراً متقناً في إعلان نبأ محاولة إغتياله لحماية نفسه من أي مخطط يزمع جناح الأمير بندر وحلفائه في لبنان تنفيذه بصورة سريّة. نجح خوجه في الإفلات من حتفه الذي رسمه الغرماء في بلاده وبلاد الأرز، وقد أُحتسب إعلان خوجه عن مخطط الاغتيال فضحاً لمخططات أخرى كانت الأطراف التي اجتمعت في فرنسا تتفق على تنفيذها.

وهنا تكشف السياسة عن قذارة تفوح برائحة نتنة، فقد تم إكراه السفير خوجه على إخراج متقن لما كشف عنه، من أجل إنقاذ ماء وجه حلفائه اللدودين سواء في المملكة أو لبنان وربما في أماكن أخرى، فأخرج من الدرج الخبر الذي أوصله السوريون للقيادة السعودية قبل قمة مارس ليغيّر تاريخ صلاحيته، فتصبح المخابرات السوريّة متهّمة في توجيه تهديد بالاغتيال للسفير خوجه. ليس في ذلك تبرئة للمخابرات السورية، التي قد تمارس أقذر من ذلك بكثير من اللعب الأمنية والاستخبارية، إلا أن مجرى الأحداث كما تتبعنّاها تفيد بخلاف ذلك. توجيه التهمة الى سورية مفهوم تماماً، لأسباب كثيرة باتت معلومة، أولها أن الجسم السوري بات (لبيّساً) كما يحكى شاميّاً، وثانياً أن التهمة تضيف دليلاً الى لائحة الاتهامات الموجّهة ضد النظام السوري بدءً من إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وانتهاءً بمعارك نهر البارد، والتي وضعت الحكومة السورية في عين عاصفة الإتهامات، وثالثاً أن هذه الـ (سوريّة) تحوّلت الى غطاء لجرائم سياسية وأمنية في لبنان وخارجه من قبل أطراف عدة لبنانية وسعودية وأميركية وحتى إسرائيلية.

فجّر خوجه قنبلة إعلامية قبل مغادرته لبنان من أجل حماية نفسه من أية مخطط لاغتياله، ثم تولى آخرون فبركة رواية هزيلة تضع السوريين ومن تصنّفهم السلطة اللبنانية وفريق الموالاة عموماً بحلفائها في لبنان، وكل ما في الأمر أن خوجه شعر بتهديد جدي من مقرّبين منه بل ومن جناح في حكومة بلاده فهرب قبل أن يصبح (من صيد أمس).

الصفحة السابقة