ترسانة إعلامية برائحة النفط

إمبراطورية على رمال متحرّكة

تراهن السعودية على كبح جماح الميول العروبية والقومية للعاملين في إمبراطوريتها
الإعلامية حتى لا تنفلت، في حين يرى بعض العاملين أن السعودية مجرد (صرّاف آلي)
بلا عقل يدفع المال مقابل الصمت عن قبائح آل سعود

محمد قستي

في تعليق للإعلامي المصري البارز محمد حسنين هيكل على الأمبراطورية الإعلامية السعودية جاء (لم يبق في العالم العربي الآن أي شيء يسمّى الحوار)، في إشارة إلى هيمنة المال النفطي السعودي على الإعلام العربي بهدف تطويق الأفكار التحررية، والترويج لمشاريع سياسية إستسلامية، وتعميم ثقافة الإستهلاك. ولكن هذه الامبراطورية الإعلامية التي تمدّ أذرعها الى الأرجاء كافة، عجزت عن السيطرة على الجمهور العربي، في ظل وجود مؤسسات إعلامية منافسة تعبّر عن قضايا الشعوب وتحمل رسالتها بقدر كبير من الأمانة.

مشكلة الإمبراطورية الإعلامية السعودية تكمن في غربتها عن الجمهور العربي، فهي تروّج لخطاب مستهجن لا ينتمي الى ثقافة الممانعة، ولا يترجم بصدق مواقف الشعب العربي من موضوعات كبرى مثل القضية الفلسطينية حيث تواجه العائلة المالكة موجة إتهامات تدور حول تفريطها في حقوق الشعب الفلسطيني والعربي من خلال ترويج فكرة التطبيع مع الدولة العبرية المؤسسة على إسقاط مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وكذلك شن الحملات الاعلامية ضد دول وقوى الممانعة في المنطقة.

تلزم الإشارة هنا إلى أن الإعلام مثّل على الدوام هاجساً كبيراً لدى العائلة المالكة، وحتى التسعينيات أنفقت الأخيرة مئات الملايين من الدولارات للسيطرة على أجهزة إعلامية عربية ودولية، قبل أن تشرع في بناء إمبراطورية إعلامية تملكها وتديرها بصورة مباشرة، حيث أطلقت طائفة من القنوات الفضائية ذات الوظائف المتنوّعة، إضافة إلى تأسيس عدد من الصحف والمجلات. وكانت مجلة تايم الأميركية قد نشرت في يونيو 1992 تحقيقاً جاء فيه: (كان أي أمير سعودي يبحث عن الدعاية الصحفية، يمرر ساعة ذهبية، أو مظروفاً فيه مبالغ نقدية الى أحد الصحفيين، لكن الوقت قد تبدّل فقد أخذ السعوديون مؤخراً لا يشترون الصحافيين فحسب بل والصحف أيضاً، لتتجه للإندماج الكامل وتشكّل إمبراطورية إعلامية سعودية على المستوى العالمي، الأمر الذي يثير ذعر الكثيرين في المنطقة).

وتسيطر العائلة المالكة إضافة الى نحو 20 مطبوعة خارج المملكة يتم توزيعها في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، على عدد من المحطات الإذاعية في أمريكا وفرنسا، وعلى شبكتي قنوات فضائية تحتوي برامجها على نشرات أخبار، وبرامج سياسية، وترفيهية، ورياضة وتسلية وموسيقى وأفلام، إضافة الى قنوات دينية تروّج لشكل من الإسلام غير المسيس والمتصالح مع النظام وسياساته.

وفيما يدرك الأمراء بأن العاملين في الإمبراطورية الإعلامية السعودية يحملون ميولاً عروبية قومية مناهضة للتوجّهات السياسية السعودية، فإنهم يراهنون على قدرة المال النفطي في كبح جماح تلك الميول، التي تخشى من إنفلاتها، فيما ينظر كثير من العاملين الى السعودية بوصفها صرّافاً آلياً بلا عقل، كما يدرك هؤلاء العاملون بأنهم يتلقون أثمان الصمت عن قبائح النظام السعودي. بعض الإعلاميين العرب يهمسون فيما بينهم بأن مدراء المؤسسات الاعلامية السعودية يفتقرون للتجربة وأن المال وحده يضعهم في مواقع عليا، حيث ينصّب الأمراء من يضطلع بدور (الوكيل)، وقد منحت إدارة قنوات فضائية مثل ام بي سي والعربية وغيرها لأشخاص مقرّبين من العائلة المالكة وخصوصاً للجناح السديري الذي يدير الإمبراطورية الاعلامية السعودية.

الهيمنة السعودية على الإعلام العربي عززت قلق المفكرين العرب وقوى التغيير عموماً التي تشعر بأن المواقف والنظرة الرجعية السعودية ستتغلب على النظرة التقدّمية والإصلاحية، حيث استطاعت العائلة المالكة بالمال النفطي أن توقف عجلة التغيير والاصلاح في المملكة، وأن تقنع الإدارة الاميركية وحكومات غربية بالتخلي عن مشروع الدمقرطة عن طريق إبرام صفقات تسلح سخيّة.

تقوم الأمبراطورية الاعلامية السعودية بتوجيه سهامها ضد الدول العربية التي لا تملك إمكانيات إعلامية كالتي يملكها الأمراء مثل سوريا والسودان، حيث تسلّط القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية والصحافة المطبوعة حملاتها ضد الحكومات غير المتوافقة مع سياساتها. وقد لحظنا كيف أن تصريحاً في أغسطس الماضي لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع بشأن الدور السعودي المشلول في المنطقة قد أدى إلى استنفار الإمبراطورية الإعلامية السعودية التي صعّدت من لهجتها الخصامية ضد الحكومة السورية، بالرغم من محاولة الأخيرة التخفيف من وطأة تصريحات الشرع، وامتناعها عن التعامل بالمثل مع الاعلام السعودي، الأمر الذي جعل سوريا مادة نقدية بصورة يومية.

لاشك أن قناة (الجزيرة) التي خطفت الأضواء الإعلامية منذ انطلاقتها الاولى قبل أكثر من عقد قد أثارت غضباً سعودياً عارماً، فمثل هذه القناة الفريدة أحالت الإمبراطورية الإعلامية السعودية الى جهاز معطوب، فقد خرجت (الجزيرة) عن المألوف الاعلامي العربي، ما جعلها متميّزة، فحاولت السعودية مراراً إغلاق القناة أو تحييد تأثيرها عبر الضغط على الحكومة القطرية من أجل تبديل خطابها، ولكن المفاجأة أن كبار المسؤولين السعوديين كانوا أنفسهم خاضعين تحت تأثير القناة، حيث كانوا يتابعون برامج (الجزيرة) في مكاتبهم ومجالسهم. وما زالت قناة (الجزيرة) القطرية التي تضعها استطلاعات الرأي في صدارة القنوات الإخبارية العربية من حيث إقبال المشاهدين تمثل أكبر تحد إعلامي للسعودية وكذلك صحيفة القدس العربي اليومية الصادرة في لندن.

وكرد فعل، فتحت قناة (الجزيرة) شهية الأمراء فأطلقوا قناة (العربية) وأرادوا منها أن تكون منافساً إعلامياً يحد من تأثيرات القنوات الفضائية الأخرى المصنّفة بـ (المعادية)، ولكنها أخفقت في احتلال مكانة متميّزة لدى المثقفين العرب، الذين نظروا إليها كقناة رسمية سعودية تبشّر بثقافة تطبيعية، وتحاول تقديم صورة مختلفة عن الإسلام السعودي، فيما يتقلّص فيها هامش النقد للسياسات السعودية والأميركية، وتتصاعد في المقابل وتيرة التعريض بقوى الممانعة الى حد الإسفاف.

وعلى حد قول إعلامي عربي عمل سابقاً في قناة فضائية عربية أن الحرية في أي وسيلة إعلامية سعودية تمثّل مفردة مثيرة للجدل، بل ممقوتة، لأنك تعمل في وسيلة يتم الرهان فيها على تقديم بيان معدّ سلفاً. ويضيف: أن الحكومة السعودية لا تحتمل وجهة نظر تخالفها، أو تتعارض معها، وهذا يفسّر قرارها بوضع إمكانيات مالية هائلة من أجل السيطرة على الإعلام العربي بذيوله الدولية. ويعلّق إعلامي آخر: إننا نعمل من أجل مرتب شهري فحسب، ولا نكترث بأيديولوجية الدولة السعودية ولا سياساتها، بالرغم من تحفّظنا على هرولتها نحو مشروع التطبيع مع الدولة العبرية، وإذا كان ثمة ما يحملنا على السكوت عن رذائل الحكم في السعودية فهو المرتّب الشهري.

وحيث أصبحت القضايا التي يمقتها الأمراء السعوديون تمثّل هموماً كبرى لغالبية الشعوب العربية، فإنهم يعملون على تحويل الامبراطورية الاعلامية التي يديرونها الى جهاز حمائي، يدرأ عنهم غضب الشعوب العربية، في وقت يتحينون فيه الفرصة للعبور بمشروع سلام يكفل إستقرار الدولة ووحدتها، ويبني نظاماً إقليمياً متماسكاً تشارك فيه دول الاعتدال العربي إضافة الى الدولة العبرية والرعاية الأميركية.

ربما نجحت العائلة المالكة في تحييد وسائل الإعلام الرسمية في أغلب الدول العربية، حيث الرقابة الذاتية والإيحاءات السياسية غير المباشرة تملي عليها تفادي أية أخبار تسيء الى العائلة المالكة. إعلاميون عرب يذكرون كيف أن رسائل غير مباشرة كانت تصل إليهم بعد أخبار أو مقالات تشتمل على رائحة نقد للأمراء السعوديين وخصوصاً تلك المرتبطة بالفساد المالي والأخلاقي.

واقع الحال يقول بأن الإمبراطورية الإعلامية السعودية لم تسوّق العائلة المالكة الى الشارع العربي بشكل جيد، فمازالت النظرة اليها باعتبارها طرفاً مناهضاً لمصالح الشعوب العربية، وأن ما كانت تأمله عبر قنوات فضائية تزوّدها بميزانيات ضخمة لم يثمر في صناعة رأي عام عربي متصالح مع الدولة السعودية. والسبب ببساطة، أن الأمبراطورية الاعلامية لا تنتمي الى الأرض التي نشأت عليها، أو نشأت للتعبير عنها، فهي إمبراطورية على رمال متحرّكة، وتستخدم خيرات الأرض لإنشاء لوبي إعلامي يغرق الجمهور العربي بثقافة تغريبية تفتقر الى مواد توعوية بل هي عاكس فاشل لكل ماهو غربي، وصادم عنيف لكل ماهو عربي.

إن ما يقال عن أن السعودية سعت خلال السنوات الأخيرة الى بسط نفوذها على وسائل إعلام عربية لمحاولة التصدي للحركات السياسة المعارضة التي تتحدى العائلة المالكة هو صحيح تماماً، وهو نهج إتبعته الأخيرة منذ السبعينيات حيث كانت تقدّم أموالاً لمجلات وصحف لبنانية من أجل إما الصمت عن آثام العائلة المالكة، أو إكالة المديح لسياساتها وأفرادها، أما اليوم وبعد أن شيّدت العائلة المالكة إمبراطورية إعلامية ضخمة فإنها تشكّل ـ أو هكذا تأمل ـ إتجاهات الرأي العام العربي والاسلامي. وبحسب إعلامي غربي فإن السعودية تستخدم ثروتها النفطية في بناء إمبراطورية إعلامية تحول دون نقد شؤونها الداخلية وسياساتها الخارجية وتغرق الجمهور العربي بمواد موسيقية وأفلام هوليوود وإسلام مدجّن وبعيد عن السياسة.

مدير شبكة مركز تلفزيون الشرق الأوسط (إم بي سي) داود الشريان، والذي تقلّب في مناصب واتجاهات سياسية وفكرية متناقضة، دافع عن النفوذ السعودي وقال بأن (السعودية دولة مهمة يجب أن يكون لها وجود في الإعلام ولا يجب أن تترك للآخرين ما نرى ونقرأ). ومن الغريب أن الشريان الذي مارس في سنوات سابقة نقداً غير مباشر للحكومة السعودية على قاعدة تضييق هامش الحريات الاعلامية، وقد أوقف بسبب مقالاته النقدية عن الكتابة مرات عدة، بدأ يميل الى تبرير سياسات السعودية واعتبر النفوذ الإعلامي السعودي بأنه (لعب دوراً في انفتاح العالم العربي وكشف التزييف في بعض الأيديولوجيات مثل القومية العربية واليسار والإسلام السياسي)، في إشارة الى حركات سياسية شعبية ناهضت السياسة الرجعية التي اقتفاها الحكام السعوديون منذ زمن بعيد واعتبروا الحركات التقدّمية في العالم العربي تهديداً جديّاً لنظام حكمهم.

الشريان الذي حمل في سنوات سابقة نزعة ليبرالية والى حد ما إصلاحية، عاد مثل كثيرين الى الصف الإعلامي الرسمي وتقلّد منصبه الحالي كمدير لقناة إم بي سي ضمن خطة الحكومة الهادفة الى إحتواء رجال الإعلام والقلم للإنضمام الى الإمبراطورية الإعلامية السعودية. في وضع شديد التقلّب، يصوغ الشريان رأياً إنقلابياً حول الديمقراطية والأنظمة البرلمانية في تركيا والكويت ومصر ويقول (الديمقراطية يمكن أن تجلب انتهازيين وغيرهم) وهو رأي مقطوع الصلة بالمفهوم والمأمول، وينحبس في الأعراض الجانبية للديمقراطية في دول مازالت تتأهل ديمقراطياً، فيما الإتفاق منعقد على أن تجارب مثل برلمان الكويت عزّزت على الأقل فكرة المحاسبة وساعدت في الحد من الفساد.

لم تغيّر الحكومة السعودية وجهتها الإعلامية وهي ترجمة خالصة لنهجها السياسي، فهي اليوم تدير إمبراطورية إعلامية متطوّرة ولكنها موظّفة بصورة شبه كاملة لخدمة أجندة غير وطنية وغير قومية وغير إسلامية. وفيما تبدّلت أولويات الخصوم لدى العائلة المالكة، حيث لم تعد إسرائيل خصماً أو مصدر تهديد لأمنها الوطني والقومي، فقد جاءت دول مثل إيران وسوريا وليبيا وربما العراق في صدارة قائمة الخصوم، وهو ما تعكسه الحملات الإعلامية المضادة فيما لا إشارة الى انتهاكات الدولة العبرية للحقوق الفلسطينية وقتل الأطفال والأبرياء وهدم البيوت وبناء المستوطنات.

وفيما يتم التركيز في الإعلام السعودي على البرنامج النووي الإيراني على قاعدة كبح النفوذ المتزايد لطهران في العالم العربي، فإن تجاهلاً شبه تام للبرنامج النووي الاسرائيلي، ما يعكس نظرة الحكومة السعودية الى الدولة العبرية بوصفها شريكاً في معسكر الإعتدال المناهض لدول وقوى عربية وإسلامية ممانعة.

تجدر الإشارة الى أن جماعات معارضة عبر العالم العربي تتهم السعودية نفسها منذ وقت طويل بعدم استخدام علاقاتها الوطيدة مع واشنطن ومكانتها كبلد حاضن للمقدّسات الإسلامية لدعم معركة الفلسطينيين ضد الاحتلال الاسرائيلي.

الصفحة السابقة