دولـة الآمـال

ليس كل ما يتمناه المرء في هذه الدولة يدركه، بل غالباً ما يقع خلافه، مع أن في نموذج الدولة الريعية تصبح الآمال كلها معلّقة عليها، فهي طلبت ذلك وارتضت به بديلاً عن التنازل عن جزء من السلطة، ولكنه ليس بالضرورة بديلاً ناجعاً ولا حتى مريحاً بالنسبة للدولة، فقد يضع الرعية أعباءً إضافية بما في ذلك الآمال المبالغ فيها على الدولة، والتي لا تتحقق إلا بعمل إعجازي.

يأمل كثيرون، مثلاً، في أن يجدوا في (أبو متعب) صورة أخرى ولو مصغّرة للصحابي البطل خالد بن الوليد في قيادة حرب تحرير فلسطين، وإحياء صلاة الخليفة عمر في المسجد الأقصى، لكنه أمل ينقصه كثير من الواقعية والجدارة، والجهوزية، والكفاءة وأشياء أخرى مرتبطة بمتطلبات القيادة التاريخية. ويأمل كثيرون في أن تكون الدولة السعودية نموذجاً فريداً في تطبيق القانون، وإشاعة الأمن، وتحقيق العدل والمساواة والرفاه، ولكنه أمل يدحضه سلوك الأمراء في تعطيل القانون بل وخرقه، وتخويف كل من يفتح فمه إلا عند حكيم الأسنان (كما يقول غوار في مسرحية ضيعة تشرين)، والاكتناز غير المشروع من قبل الأمراء عبر مخصصات مالية عالية للكبار من أفراد العائلة المالكة، ومصادرة الممتلكات العامة من أراضٍ وعقارات، والإحتكام لقانون القوة والغلبة بدلاً من قوة القانون، وتشريع أحكام ما أنزلت على نبي أو رسول في الحدود.. ويأمل كثيرون في أن تعتق العائلة المالكة رقبتها من ربقة تحالفات مجحفة مع الغرب الذي جعل من بلادنا بئراً نفطياً مفتوحاً يتدفق على مصانعه وطائراته وسفنه وعرباته، فيما تحرم البلاد من مجرد السعي لتحويل النفط الى جزء جوهري من نشاط صناعي متنوع، الخفيف منه والثقيل، على الأقل من أجل توليد فكرة الإستقلال التي ماتت منذ عقود، وأصبحت حلماً وربما تحوّلت الى مبعث سخرية لدى كثيرين، بفعل هيمنة ذهنية الإستهلاك التي باتت خياراً مريحاً في دول تستطيب العيش على دعم الخارج، الذي تقوم العلاقة البينية معه على تحويل الحماية الخارجية الى سلعة تشترى، في مقابل النفط.

يأمل كثيرون، والآمال لا تنقطع لدى الحالمين، أن تكون دولة (أبو متعب) مصدر آمال الفقراء والبديل الإنقاذي لمجتمع الحرمان والبطالة. ومن المصادفات غير النادرة، أننا نتحدث عن أوضاع الفقراء في بلد الفائض النفطي الخيالي ونتذكر ثروة الملك (أبو متعب) التي نشرنا نبأ عنها في العدد السابق فلم تتجاوز الـ 20 مليار دولاراً فقط لاغير.

سيقول لك المتشبّثون بالحلم، دعك من كل ذلك، واعقد رايتك بناصية أمل جديد، بعد صدور ميزانية العام 2008 وهي أكبر موازنة مالية في تاريخ هذه الدولة، أي بواقع 450 مليار ريال للإيرادات و410 مليارات ريال للإنفاق العام، وبفائض قدره 40 مليار ريال، والله أعلم حيث يكون فائض عباده! للتذكير فقط لا غير، أن ميزانية العام الماضي 2007، بلغ فيها الفائض 178.5 مليار ريال، فهل من مجيب عن سؤال عبد فقير حول الصراط الذي سار عليه الفائض أم كان من نصيب طوفان الجشع الذي يخفي أثر كل عين!.

ميزانية آمال، إذاً، ومن حق الشعب الذي كدح وشقى في توفيرها أن يأمل، وما يأمله سوى جزءً من حقه المشروع، وله أن يتساءل عن دور هذه الميزانية في تصحيح الأوضاع الإقتصادية الخانقة، فهل ستكون الميزانية رافعة لآمال الشعب، أو خافضة لها، وله أن يضع المعطيات والأرقام أمام مهندسي الميزانية وأصحاب القرار في توزيعها. فنحن ندرك أن ثمة تداعيات إقتصادية وإجتماعية خطيرة بفعل العجوزات السابقة في موازنات الدولة منذ 1982 وحتى 2003، ولكن تبدّل الحال بعد ذلك، وبدأ الأخضر يكسو الميزانية، والفائض يكلّلها، ومن حق الناس أن تطالب بما خسرته بفعل السياسات الاستئثارية التي رسمتها الدولة طيلة العقدين الماضيين، حتى تجففت المنابع المالية في الداخل والخارج.

الفقراء الذي يعيشون تحت خط الفقر والذين حصر الدكتور راشد الباز في دراسته عام 2005 نسبتهم بـ 60 بالمئة، مع الحفاظ على حق المعترضين عليها، من حقهم أن يتساءلوا عن مصيرهم، وماهي الحلول التي أعدّتها الدولة لحل مشكلتهم، ومن حق آخرين تصل نسبتهم الى 65 بالمئة عن إمكانية توفير الدولة لقروض عقارية من أجل تملك مسكن نهائي بدلاً من العيش في بيوت مستأجرة. ومن حق 51 بالمئة من الأسر السعودية أن تتساءل عن فرص الحصول على دخل ثابت بما يكفل عيشاً مستقراً. ومن حق الشعب جميعاً أن يتساءل هل الأمن السياسي أولى من الأمن الإجتماعي حتى تخصص الدولة 40 مليار ريال سنة 2004 ويزداد تباعاً في السنوات اللاحقة، بحجة مكافحة الإرهاب، فيما لم تنفق الدولة عشر المبلغ على محاربة الفقر والبطالة التي شكّلت نسبة 20 بالمئة على أقل تقدير، وبتصريح وزير العمل والشؤون الإجتماعية من أن هناك 3.2 مليون سعودي يبحث عن وظائف.

ومن حق الطبقة الوسطى أن تتساءل عن خيارات الدولة في ترميم بنيتها المتآكلة، بسبب عجزها عن الوفاء بالمستلزمات الأساسية للحياة، حتى صار قسم منها جزءً من الطبقات الدنيا الفقيرة، بما يعتبر مؤشراً خطيراً على إمكانية التحوّل الى نظام رأسمالي صرف تتشقق الطبقات فيه وتضمحل لتصبح طبقتين: فقراء وأغنياء.

ويكبر السؤال عن نظرية الدولة في معالجة مشكلة الفقر، وعن مصير (الصندوق الخيري لمكافحة الفقر)، ومؤسسة الملك عبد الله للإسكان التنموي، ومشروع تأهيل الفقراء..

بعد ذلك كله، فإن أول حلم تبدد في موازنة هذا العام طالت موظفي الدولة الذين كانوا يمنّون أنفسهم بزيادة الرواتب، حيث لم يبشّر (أبو متعب) الحالمين بأمر ملكي يتزامن مع صدور الموازنة بزيادة الرواتب، فيما تصاغر الأمل الى حد انتظار فرج على غرار دعم الأرز والحليب!. في الإمارات زادت الرواتب بنسبة 70 بالمئة، وبنسب أخرى متفاوتة في دول الخليج الباقية من أجل مواجهة غلاء الأسعار، ومواكبة التضخم، وفي بلادنا نواجه كل ذلك بالمزيد من الآمال، وعلى عينك يا هالـ (أبو متعب).

الصفحة السابقة