الحج.. تحديات وفرص

يحي مفتي

بخلاف الأجواء المشحونة قبيل حلول موسم الحج العام الماضي، على خلفية تداعيات نتائج حرب تموز 2006 وخسارة الرهان السعودي على انكسار المقاومة اللبنانية، واندلاع الأزمة السياسية اللبنانية والتجييش المذهبي المصاحب لها الذي مدّ ذيوله الى المنطقة، ثم تصاعد نبرته بإعدام رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى، فإن أجواء موسم الحج لهذا العام تبدو هادئة الى حد كبير، بالرغم من وجود انغلاقات سياسية في لبنان والعراق وفلسطين والمنطقة، فقد تراجعت موجة العنف الطائفي بصورة ملحوظة في العراق، وضعفت إحتمالات الإنفلات الأمني في لبنان فيما تجددت فرص التوافق بين الموالاة والمعارضة، وأخيراً تراجعت لهجة الحرب بين إيران والولايات المتحدة وانتعاش الأمل بحصول تفاهمات سياسية وأمنية بين ايران ودول الخليج، يخفف من غلواء التراشق المذهبي.

المشهد السياسي الإقليمي لابد أن يعكس نفسه على موسم الحج هذا العام، حيث يحتشد ما يقرب من مليوني حاج جاءوا من أرجاء العالم لأداء مناسك الحج في الفترة ما بين 18 ـ 21 ديسمبر.

ولكن بسبب تاريخ العنف في هذا الموسم، والذي يعود في أقسى صوره الى إنتفاضة جيهمان سنة 1979 والتي استمرت عدة أيام سقط على إثرها عدد من القتلى وتهدمت خلالها أجزاء من منارة الحرم المكي بفعل تبادل إطلااق النار، ثم جاءت مجزرة الحجاج الإيرانيين سنة 1987 لتصنع أجواء متوترة خلال المواسم اللاحقة، منها اعتقال عدد من الحجاج الكويتيين وإعدامهم في ظروف ملتبسة. ومع تفجّر موجة العنف بطريقة غير مسبوقة في السعودية من العام 2003، أصبح هاجس الأمن مسيطراً على سياسات الحكومة، حيث استدعت الأخيرة فرقاً عسكرية مدرّبة على مواجهة أعمال العنف، بعد أن تمكّنت من اعتقال أكثر من 200 عنصراً مشتبهٍ في ارتباطه بشبكة القاعدة.

ويقول المسؤون السعوديون بأن الهدف من العملية هو تحذير الجماعات المسلّحة التي تنوي إستغلال موسم الحج لتنفيذ عمليات عنف في ظل حشد مليوني كثيف تصعب معه السيطرة على الوضع الأمني، وما يمكن أن تحدثه مواجهات مسلّحة من أضرار بشرية فادحة. في هذا الصدد، يجدر الإلتفات أيضاً إلى ضحايا الإزدحام بسبب الفوضى الإدارية في تنظيم سير قوافل الحجاج، أوضحايا المواكب الملكية بسبب إغلاق بعض الشوارع وتزاحم الحجيج في مناطق ضيقة، واشتعال الحرائق التي تسبب اختناقات مميتة.

وبالرغم من تركيز الحكومة على البعد العسكري في ترتيباتها الأمنية، فإن موسم الحج يمثل مناسبة للقيام بحملة علاقات عامة واسعة بين مختلف القوى السياسية والإجتماعية سواء بالنسبة للقاعدة أو الجماعات الجهادية التي تخطط لاستغلال موسم الحج للقيام بأعمال عنفية. فالحج، مهما يكن، يوفّر فرصاً غير مسبوقة لأولئك الذين يقومون بطائفة من النشاطات غير العنفية أيضاً.

وبالرغم من توسّل الأجهزة الأمنية بشبكة مراقبة بالغة التعقيد لمتابعة تحرّكات الحجاج، وخصوصاً المصنّفين في خانة المشتبه بهم، أو الخصوم، أو المجموعات المحتمل إفادتها من موسم الحج لعقد لقاءات خاصة، أو تبادل معلومات أو حتى إيصال أموال وتبرعات للمناطق المضطربة في العراق وأفغانستان، فإن المهمة لا تبدو نزيهة دائماً. فالحكومة السعودية تقوم بالعمل ذاته، حيث تقوم بعقد لقاءات مع قيادات حليفة لها في العراق وأفغانستان وباكستان ولبنان وفلسطين من أجل التنسيق معها وتقديم التبرعات لها، فهي تفيد من مظلة الحج للقيام بعمل مزدوج، وتحقق أغراض لا تقدر عليها في غير هذا الموسم.

ومن المعروف، فإن الحجاج لحظة وصولهم الى الديار المقدّسة، يخضعون تحت الرقابة الأمنية، عبر السيطرة على خطة تحرّك الحجاج، ومسارات تنقلّهم، واحتجاز وثائق سفرهم، بالرغم من أن الحشد الكثيف من الحجاج خلال هذا الموسم ينطوي على صعوبات كبيرة تجعل الأجهزة الأمنية عاجزة عن مراقبة النشاطات للغالبية العظمى من الحجيج. يضاف الى ذلك، فإن الطبيعة الدينية للموسم والمكان، يفرضان صعوبة عملانية على أجهزة استخبارات ومؤسسات أمنية أجنبية من غير المسلمين بالعمل، أو مراقبة نشاطات المشتبه بانتمائهم لجماعات إرهابية خلال موسم الحج.

ذلك كله يعني بأنه بالإضافة الى النظرة للحج بوصفها فرصة سانحة للقيام بهجمات، وعمليات مسلّحة، فإن الحشود البشرية الكبيرة تعتبر مناخاً مثالياً للقيام بنشاطات متنوّعة، ولكن قد يسهم بعضها في تأجيج أعمال عسكرية وعنفية في الخارج.

بالنسبة للقاعدة مثلاً، فإن موسم الحج هو فرصة لممثليها من كل المناطق والجماعات للقاء، مع فرصة ضئيلة للوقوع في حبائل الرقابة الأمنية، وخصوصاً بالنسبة لأولئك الذين تعلّموا على تقنيات الرقابة وأساليبها لدى الأجهزة الأمنية السعودية. وقد ذكر بعض مدوّني سيرة أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، أن عائلة الأخير كانت تستضيف المئات من الحجاج في بيوتها خلال الموسم، وفي تلك الأجواء تبرعمت تطلعات الطفل الصغير أسامة بن لادن وكبرت معه في أفغانستان، ليصبح زعيماً لهم لاحقاً.

بالنسبة لحركة حماس الفلسطينية، التي خضعت لعزلة إسرائيلية شاملة، وحصار سياسي وإقتصادي عربي، فإن موسم الحج هو فرصة لكسر العزلة والتواصل مع مختلف الأطياف السياسية والفكرية في العالم العربي والإسلامي، وهي فرصة أيضاً لحشد الدعم المالي والمعنوي للقضية الفلسطينية.

على أية حال، فإن الحج الذي جعله الله منسكاً عظيماً وفرض على الناس النفير إليه حال الإستطاعة، فإن منافعه لا تحصى، على المستويات العبادية والروحية الى جانب المنافع الإقتصادية، والسياسية والثقافية.

الصفحة السابقة