مصر والسعودية وإيران

علاقات محفوفة بالمكاره!

هاشم عبد الستار

هل يسبب التقارب في العلاقات المصرية ـ الإيرانية، توتراً في العلاقات المصرية ـ السعودية؟

لم تخف السعودية وإعلامها سخريتها ورفضها لإعادة العلاقات الإيرانية المصرية مشيرة الى أن إيران (لم تتغير) وأنها لاتزال (تدعم الإرهاب) وتطور أسلحة نووية، وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأن نواياها سيئة تجاه العرب جميعاً.

السؤال الذي يطرح هو: إذا كانت إيران بالسوء الذي تتحدث عنه السعودية وإعلامها، فلماذا تقيم السعودية نفسها علاقات مع إيران، مع أن ما بينها وبين إيران من اختلافات أيديولوجية وسياسية أكبر بكثير مما بين إيران ومصر؟!

ما بين مصر وإيران مشتركات كثيرة فلديهما إرث حضاري طويل، وتشابه في البنى الديمغرافية والتطلعات القيادية، والروح القومية/ الوطنية، وعلاقات دبلوماسية ممتدة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي، وعلاقات مصاهرة، ومصالح استراتيجية ضخمة أكدتها اتفاقات كثيرة خلال العقود الماضية. ثم إن العلاقات بين طهران والقاهرة تتخذ طابع التكافؤ بين بلدين لديهما مقدرات بشرية ومواقع استراتيجية متشابهة، وهي أبعد ما تكون عن التهديد بالخطر المباشر نظراً لتباعد البلدين الجغرافي. ومثل هذه الحالة غير موجودة في العلاقات السعودية الإيرانية مثلاً.

لقد قطعت العلاقات المصرية الإيرانية بمبادرة إيرانية عام 1979م، تماشياً مع سياسة الدول العربية بعزل مصر بعد توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد، وما ترتب عليه من سحب السفراء العرب، ونقل الجامعة العربية الى تونس. وكانت هناك أسباب إيرانية خاصة أخرى، منها استضافة السادات للشاه الذي توفي في القاهرة ودُفن فيها. ومنذ ذلك الحين والعلاقات مقطوعة بين البلدين، وتراكمت بسبب القطيعة مشاكل أخرى عملت على ديمومتها، من بينها دعم مصر المباشر لصدام في حربه على إيران، وتبنّي الأخيرة سياسة تصدير الثورة ودعم المعارضين ضد الحكم المصري وتسمية أحد شوارع طهران بإسم خالد الإسلامبولي، الى أن جاءت الأحداث الأخيرة في المنطقة والتي زادت من النفوذ الإيراني في العراق ولبنان.

لماذا لم تشعر السعودية ـ ودولة الإمارات أيضاً ـ بالإرتياح من محاولات إيران إعادة علاقاتها مع مصر؟ هناك جملة أسباب يمكن أن تكون منفردة أو مجتمعة وراء الإنزعاج السعودي، وهي:

1 ـ إن إقامة علاقات جادة بين طهران والقاهرة، سيضعف الموقف الخليجي مقابل إيران، فمصر لازالت رافعة أساسية للموقف الخليجي سواء تعلق الأمر بالجزر الثلاث، أو بالتوازن السيكولوجي بين ضفتي الخليج. من المعلوم أن الموقف المصري المتشدد ـ والذي كانت له أبعاد اقتصادية واضحة، سمّاها البعض ابتزاز دول الخليج ـ من الجزر، شكّل ولايزال ضغطاً مباشراً على إيران، ومن المحتمل أن تخفّ اللهجة المصرية في حال أعادت علاقاتها مع ايران، بحيث تضعف حرارة ملف الجزر.

2 ـ إن السعودية تريد إبقاء مصر قوة سياسية رديفة لها في المواجهة مع إيران، أي أنها ـ اليوم ـ تقوم بالإستقواء بالموقف المصري ـ اضافة الى الموقف الغربي، وفي حال غاب ثقل مصر السياسي فإن السعودية ستشعر بالضعف في الملفات السياسية التي تسعى لمنافسة ومناطحة إيران بشأنها، سواء تلك الخليجية أو موضوع العراق أو حتى الموضوع اللبناني والفلسطيني.

3 ـ إن إعادة العلاقات المصرية الإيرانية ستضعف (جناح المعتدلين) الذي يشمل اضافة الى مصر الأردن والسعودية، وتخفّف الضغط والحصار السياسي عن إيران المتهمة بالتدخل في الشؤون الداخلية العربية، ويمكن لعلاقة ناضجة وقوية أن تؤسس لتفاهم أو حتى لنواة محور بين عاصمتي الدولتين، يرجح فيه أن تقترب مصر من الموقف الإيراني بأكثر مما تقترب فيه إيران من الموقف المصري. ومن شأن هذا إن حدث في المدى المنظور أن يغيّر وجه التحالفات السياسية في الشرق الأوسط.

4 ـ إن إعادة العلاقات بين طهران والقاهرة يعني ـ من وجهة نظر الرياض ـ انتصاراً سياسياً لإيران، من جهة أنها استطاعت أن تفتح لنفسها بوابة واسعة على العالم العربي، فيما تقوم السياسة السعودية على إغلاق المنافذ على إيران، واعتبار نفسها المتحكّم بتلك المنافذ، والقادرة على المساومة مع إيران عليها. ويعتقد السعوديون بأن تطبيع العلاقات بين مصر وايران يعني إقراراً سياسياً بقوّة إيران، واعترافاً بنفوذها ودورها في الخليج والمنطقة عامة.

لهذه الأسباب لا ترحّب السعودية بإعادة العلاقات المصرية الإيرانية، وهي ذات الأسباب التي تقلق الولايات المتحدة وإسرائيل، فالأخيرتان تريان في تلك العلاقة ـ إضافة الى ما ذُكر ـ أنها:

أ) تساهم في سياسة إفشال الحصار على إيران من قبل جيرانها العرب، والتي يراد لها أن تكون مزدوجة على قاعدتي القومية والمذهب: عرب مقابل فرس، وسنّة مقابل شيعة. وبالتالي فإن الإستراتيجية الأميركية لإضعاف إيران أو التمهيد لمهاجمتها عسكرياً تبدو ضعيفة الإحتمال في حال كان الوضع الإقليمي غير مهيّأ لها.

ب) تريد أميركا وإسرائيل تحويل دفّة الصراع في المنطقة من صراع عربي إسرائيلي، الى صراع عربي إيراني مدعوم أميركياً وإسرائيلياً، وإن علاقات ايرانية مصرية طيّبة بإمكانها إفشال هذا التوجّه أو على الأقل إضعافه.

ج) هناك خشية إسرائيلية أميركية من أن توفر العلاقات المصرية الإيرانية خيارات بديلة لمصر، أو توسّع الخيارات السياسية لصانع القرار المصري، وتقوي الموقف المصري مقابل أميركا وإسرائيل. فإذا كانت مصر غير قادرة على الإستناد الى موقف عربي منسجم وموحد، فإن العلاقة مع إيران تمنحها قدراً من الدعم والطمأنينة والشجاعة لاستعادة دورها الغابر على الصعيد الإقليمي، وهو دور غير مطلوب أميركياً أو إسرائيلياً أو حتى سعودياً وأردنياً. ويخشى الإسرائيليون والأميركيون أن تتغيّر بعض المواقف السياسية المصرية المتصلة بموضوعات الصراع العربي الإسرائيلي وموضوع الصلح مع إسرائيل، أو تصيبها بعض الروح الثورية فتصبح أقرب الى دول الممانعة، أو على الأقل ليست في مواجهة تلك الدول.

د) هناك أيضاً تخوّف إسرائيلي أميركي، من تنشيط الخيار الوطني المصري فيما يتعلق بالإعتماد على الذات وبناء الدولة صناعياً وتكنولوجياً وتسليحياً. إذ لا شك أن النموذج الإيراني مغر للإتباع، ومحرّض لمصر بالذات على التنافس، خاصة وأن الأخيرة هي الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك رأس المال البشري والعلمي، كما تمتلك الروح التي لو انطلقت لآتت ثماراً مشابهة لما حققته إيران حتى الآن. ومعنى هذا، هو تحوّل مصر خلال العقود القادمة الى دولة صناعية ليست بحاجة الى المساعدات الأميركية وليست بحاجة الى شراء الأسلحة من الخارج، ولن تكون تحت رحمة الضغوط الخارجية في مأكلها ومشربها وسلاحها وصناعتها، وبالتالي فإن منافستها لن تكون لإيران في واقع الأمر بقدر ما ستنافس إسرائيل.

هذا هو الخوف الأميركي الإسرائيلي الحقيقي. ومصر لا شك تدرك ما للعلاقات مع إيران من منافع، وهي وإن أبدت تردداً في إقامة علاقات كاملة حتى الآن رغم الإلحاح والتودّد الإيراني، فإنما جاء ذلك بسبب التحفظات الأميركية السعودية الإسرائيلية.. ومع هذا فإنها تدرك، مهما كانت الذرائع المعلنة وغير المعلنة، بأن ترددها لا يحرم إيران من متنفس طبيعي سياسي واقتصادي وثقافي ضمن محيطها الإقليمي، بل ويحرم مصر نفسها من منافع واضحة المعالم هي في مسيس الحاجة إليها، كما أن التردد يضعف موقفها وقد يضطرها الأمر الى إقامة تلك العلاقات من موقع الأضعف.

متكي ومبارك: السؤال متى؟

مصر المحتارة

لاتزال مصر في حيرة من أمرها. فهناك قيود سياسية على حركتها حتى في إقامة علاقة سياسية مع دولة مثل إيران. فهي تشعر بالضغط السياسي والمعنوي من كل من السعودية واسرائيل وأميركا، ولكنها في نفس الوقت ـ حتى مع عدم وجود مثل هذه الضغوط ـ تعاني من مشكلة خاصة بها، تجعلها تتردد في علاقتها مع إيران.

ليست المشكلة في وجود شارع بإسم خالد الإسلامبولي (قاتل السادات) وقد تم تغيير الإسم، كما أن المشكلة ليست فيما يقال بأن العلاقة مع إيران تفتح ثغرة أمنية في الجدار المصري، فهذا مجرد كلام لا أساس له من الصحة، فمهما بلغت العلاقة مع ايران فإن النفوذ الإيراني في مصر (وهو ما يقال دائماً) سيكون محدوداً بإرادة الدولة المصرية، وما عسى أن يقوم عشرة أو عشرون دبلوماسياً إيرانياً؟!

لا أظن أن (عدم الثقة) هو السبب في تلكؤ مصر. بل قد يكون السبب هو عدم قدرة القاهرة على المواءمة بين متطلبات زعامتها ومصالحها الإقتصادية وخياراتها الإستراتيجية في ملفات متشابكة. مصر تريد أن يبقى لها نفوذ في الخليج، وتريد أن تبقى قضية الجزر الثلاث حيّة، وتريد في نفس الوقت تأجيج الخلاف الإيراني الخليجي واستثماره لصالحها اقتصادياً وسياسياً، وتأسيس نفوذ مصري بين الدول الخليجية الغنية. مع أن تضخّم هذا الدور السياسي المصري لا يريح السعودية، كون ذلك التضخم يضعف نفوذ السعودية بين دول الخليج الصغيرة الأخرى. إذا استطاعت مصر إقناع السعودية بأهمية علاقاتها مع مصر، وهو أمرٌ ليس عسيراً فيما يبدو، فإنها قد تخسر مساعدات الإمارات الكثيرة. فوزير الخارجية الإماراتي لم يستطع هضم العلاقات السعودية الإيرانية، وانتقدها علناً، الى الحد الذي اضطر معه وزير الدفاع سلطان بن عبدالعزيز الى التعليق عليها بأن: (الجاهل عدو نفسه)! فهل ستبتلع الإمارات علاقات متميزة بين القاهرة وطهران دون أن تشعر بالألم أو تغير استراتيجيتها او توقف مساعداتها؟

ومصر أيضاً تريد علاقات متميزة مع واشنطن والغرب، وتريد إبقاء المساعدات الأميركية، وتريد غطاءً سياسياً أميركياً لها فيما يتعلق بديمومة الحكم المصري الحالي ومنهجيته الحاضرة. فكيف تستطيع مصر أن تفتح علاقات واسعة مع إيران التي تريد واشنطن محاصرتها دون أن تغضبها؟

ومصر من جهة ثالثة تريد استمراراً في علاقاتها مع اسرائيل، وتواصلاً في العملية السلمية، وهي مدركة لحجم النفوذ الصهيوني في واشنطن، فكيف تقيم القاهرة علاقات مع نظام ليس فقط لا يعترف بإسرائيل بل ويرى ضرورة إزالتها ويعمل على إيذائها (في أقل تقدير) دون أن يعتبر ذلك الفعل مؤشراً على انتكاسة في العلاقات المصرية الإسرائيلية؟

وزيادة على هذا، فإن مصر واقعة أيضاً تحت ضغط الرأي العام، والمثقفين العرب والمصريين عامة، من الذين أبدوا ويبدون تساؤلات وربما اتهامات حول سرّ

الرفض المصري المتكرر لإعادة العلاقات المصرية الإيرانية، وما إذا كانت الحكومة المصرية قد تنازلت عن سيادتها لصالح قوى خارجية، وتعامت عن مصالحها الوطنية السياسية والإقتصادية والإستراتيجية التي يمكن أن تنشأ في علاقة طبيعية بين طهران والقاهرة.

يبدو أن المسؤولين المصريين قرروا تجزئة عملية إعادة العلاقات شيئاً فشيئاً، أي القيام بمدّ الجسور الثقافية والإقتصادية والعلمية وغيرها، بحيث تتوّج في النهاية بعلاقات سياسية وتبادل السفراء، إذا ما توفرت اللحظة المناسبة بحيث لا تثير الأطراف المعارضة لتلك العلاقة. وقد بدا أنه بعد نشر التقرير الأستخباري الأميركي حول إمكانات ايران النووية قبل ثلاثة أشهر، قد وفّر الفرصة المناسبة لمصر لتتقدم بالعلاقات الى الأمام، فزار وكيل الخارجية المصري طهران، وتواصلت منذئذ الزيارات الإيرانية، من وزير الخارجية متكي، الى وكيل الخارجية، الى ناطق نوري رئيس البرلمان السابق، الى حداد عادل رئيس البرلمان الإيراني الحالي، بل أن رئيس الجمهورية أحمدي نجاد أعلن استعداده لزيارة مصر وتطبيع العلاقات، واتصل بحسني مبارك في فترة أزمة غزّة وحصارها.

من الواضح أن العلاقات بين البلدين ستعود، ومن المؤكد أنها لن تكون في صالح الأطراف التي تريد توتير العلاقات الإيرانية العربية، سواء جاء ذلك من أميركا أو إسرائيل أو حتى السعودية.

الصفحة السابقة