هل ثمة دور لـ (غرفة عمليات) سعودية في اغتيال مغنية؟

الرياض تخسر الرهان أمام دمشق

محمد الأنصاري

الكلام عن دور سعودي في (الحروب القذرة)، والاغتيالات ليس جديداً، أو طارئاً، أو حتى مستغرباً، فثمة تجارب سابقة مشفوعة بوثائق دامغة تؤكّد ضلوع السعودية في مخطط تصفيات ضد شخصيات سياسية وروحية، إلى جانب تمويلها لعمليات دموية في مناطق عدّة في العراق وفلسطين ولبنان.

في لبنان، الساحة الأكثر تأهيلاً لحملة الإغتيالات منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975، كان للسعودية دور فاعل في تمويل عدد من العمليات النوعيّة التي جرى التكتّم عليها، أو تجميد الحديث عنها لأسباب سياسية معلومة، وفي مقدمها تطويق تداعياتها الإقليمية، ذات الإرتدادات السلبية.

في الثامن من مارس 1985، شهدت منطقة (بئر العبد) في الضاحية الجنوبية من بيروت عملية تفجيرية تسبّبت في مجزرة مروعة سقط فيها أكثر من ثمانين قتيلاً وأكثر من مائتي جريح، بحسب روبن رايت في كتابها (الغضب المقدّس). وكان الهدف الأساسي من العملية كما حدّدته المخابرات الأميركية هو إغتيال رجل الدين اللبناني البارز الشيخ محمد حسين فضل الله. تفاصيل العملية والأطراف الضالعة فيها بقيت مكتومة، حتى صدور كتاب الصحافي الأميركي الشهير بوب وودوورد (القناع: الحروب السريّة للمخابرات الأميركية 1981 ـ 1987)، حيث ذكر بأن مدير الإستخبارات الأميركية وليم كيسي إلتقى بالسفير السعودي في واشنطن الأمير بندر بن سلطان (رئيس مجلس الأمن الوطني حالياً)، وقال له أن الشيخ فضل الله بات مزعجاً للسياسة الأميركية، وأن عليه أن يرحل. وعلى هذا الأساس، دفع بندر مبلغ ثلاثة ملايين دولار أميركي لتغطية تكاليف العملية، لأن الكونغرس لا يغطّي مثل هذه العمليات. وتمّ التخطيط للعملية بالإتفاق مع مخابرات الجيش اللبناني (الخاضعة تحت سيطرة حزب الكتائب حينذاك)، والتي قامت بمراقبة مسار حركة الشيخ فضل الله مدّة عام.

بعد أن تكشّفت خيوط العملية في سنوات لاحقة، حاولت الحكومة السعودية إغلاق الملف. ونقلت مصادر لبنانية بأن مبعوثاً سعودياً إلتقى الشيخ فضل الله وعرض عليه مبلغاً مالياً كبيراً كترضية في مقابل نفي الشيخ أي دور للسعودية في العملية، ولكنه رفض العرض.

عماد مغنية

بعد تلك العملية الفاشلة، بدأ إسم الأمير بندر يتردد في الإعلام الغربي منذ إيران كونترا سنة 1987، ليصبح في السنوات الأخيرة أحد المهندسين الرئيسيين للفتن الدموية المتنقّلة في العراق ولبنان وفلسطين، بالتعاون مع أجهزة إستخباراتية أميركية وإسرائيلية وإقليمية (مصرية وأردنية وفلسطينية).

لبنانياً، بدأ يدور الحديث عن (غرفة عمليات خاصة) أنشأها الأمير بندر لإدارة الوضع السياسي في لبنان بعد إخفاق إسرائيل في حرب تموز 2006، حيث أصبح بندر الموجّه الفعلي لفريق 14 آذار، فيما تتزايد الإتهامات ضده بالضلوع في مسلسل الإغتيالات التي تنطوي على أهداف سياسية تصبّ غالباً لصالح الموالاة.

عملية إغتيال القائد العسكري في حزب الله عماد مغنية في حي كفر سوسة بالعاصمة السورية، دمشق، في 12 فبراير الماضي، كان يمكن أن تدرج في سياق الحساب المفتوح بين حزب الله واسرائيل، فللأخيرة سوابق في تصفية قيادات الحزب، بدءً من أمينه العام السابق عباس الموسوي في فبراير 1992، إضافة الى عدد آخر من الكوادر القيادية مثل رمزي نهارا في ديسمبر 2002، وعلي حسين صالح في أغسطس 2003، و غوالب العوالي في يوليو 2004.

ولكن ما جعل إغتيال رئيس (المجلس الجهادي) في حزب الله عماد مغنيّة مختلفاً ليس لأنه مجرد مطلوب من قبل عدد كبير من الدول، أو لكونه مدرجاً على قائمة المطلوبين أميركياً، ولكن لأن ثمة معطيات أمنية واستخبارية سورية وإيرانية حصرت المسؤولية في أربعة أطراف إقليمية ودولية، فصّلت على هذا النحو: تمويل سعودي، وتنفيذ أردني ـ فلسطيني، وتخطيط إسرائيلي، وتقنية أميركية.

في 17 فبراير الماضي، ذكرت صحيفة (الرأي) الكويتية بأن (جهات عدة متورطة بالعملية، بحسب الإعترافات التي كشفت عن أدوار لإسرائيل والولايات المتحدة ولأجهزة مخابرات عربية في تلك العملية التي نفذت بأدوات فلسطينية ـ إسرائيلية). وألمحت الصحيفة الى تورّط المخابرات الأردنية بقولها بأن (قرار العملية إسرائيلي وتولت الولايات المتحدة مواكبتها على المستويين التكنولوجي والتقني وشاركت فيها أجهزة مخابرات لدولة عربية متاخمة لسورية وتم تمويلها من مسؤول في إحدى الدول الخليجية). فيما أشارت مصادر سورية غير رسمية وصفت بأنها مواكبة للتحقيق في دمشق إلى أن عملية تتبع مغنية وتفجير العبوة جرى عبر أحد الأقمار الصناعية الأميركية، أما ممول العملية فهو بندر بن سلطان.

مصادر صحافية لبنانية نقلت عن جهات معنيّة سورية وإيرانية عن ضلوع جهاز إستخبارات عربي رسمي في عملية إغتيال مغنية. وكانت السلطات السورية أغلقت كل الحدود مع الدول الأخرى فور وقوع الحادث وفرضت رقابة مشدّدة على منافذها الحدودية البرية والجوية والبحرية. وقالت المصادر بأن التحقيقات السورية، كما أشار الى ذلك وزير الخارجية السورية وليد المعلّم، توصّلت الى نتائج مدعومة بالوثائق عن الجهات المتورّطة في العملية.

عملية الإغتيال التي تمّت على الأراضي السورية لتحقيق نتائج متعددة، أحدثت صدمة لدى الوسطين القيادي والشعبي في حزب الله، وربما لتيار عريض من المتعاطفين معه خارج الحدود اللبنانية، فقد تكفّل موته الدراماتيكي بإحياء سيرته ودوره القيادي في حرب تموز، فيما تفجّر غضب سوري رسمي على وقع اختراق أمني قاتل، وخصوصاً من أطراف تضمر تحديّاً لنظامه وتخطط لإطاحته.

وبانتظار لحظة الإعلان عن نتائج التحقيق في العملية، كانت التسريبات السورية والإيرانية تنطوي على إشارات بالغة ليس للطرفين الإسرائيلي والأميركي، ولكن لأجهزة عربية، وخصوصاً السعودية والأردن، إضافة الى جهاز الأمن الوقائي في حكومة أبو زمان، والذي يديره محمد دحلان. إحدى التسريبات جاءت على لسان مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني رحيم صفوى في 21 فبراير الماضي حيث ألمح الى أن (إحدى الدول العربية ضالعة في ذلك)

صحيفة (معاريف) الإسرائيلية كتبت مقالاً بعنوان (للسعودية حساب مع مغنية)، إنطلاقاً من تصريحات صفوي، وقالت بأن (من الدول العربية التي سترغب في الدخول في هذه المغامرة، فان السعودية هي المشبوهة الفورية)، على أساس أن للرياض حساباً شخصياً مع مغنية، على خلفية تفجير الخبر في يونيو 1996.

بيد أن التقارير الصحافية العربية التي لاحقت مسيرة التعاون السعودي الإسرائيلي بعد حرب تموز، تتحدث عن أمور تتجاوز حد الحساب الشخصي، وتصل إلى مستوى التخطيط الإستراتيجي، بهدف صنع واقع سياسي جديد في المنطقة تكون فيه الغلبة لمعسكر الإعتدال بالمواصفات الأميركية.

الكلام عن التعاون الاستخباري بين أجهزة أمنية عربية أردنية وسعودية مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والأميركية بات مكشوفاً لقيادات المقاومة الفلسطينية في حماس والجهاد. فقد صرّح أحمد يوسف مستشار رئيس الوزراء المقال إسماعيل هنية في 17 فبراير الماضي بأن (أجهزة أمنية عربية أوصلت معلومات عن قادة حماس بدمشق لـبإسرائيلب وأميركا، شملت تحركاتهم وأماكن إقامتهم وأنواع سياراتهم). وأوضح بأن معلومات تفصيلية حصلت عليها أجهزة أمنية إسرائيلية وأميركية عن تحركات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة، ونائبه، موسى أبو مرزوق، وعدد آخر من القياديين، مشيراً إلى أن مشعل، أفلت من عدة محاولات إغتيال في الفترة الأخيرة.

في 27 فبراير الماضي ذكرت مصادر سورية بأن التحقيق باغتيال مغنية وصل لنتائج مهمة، لكن النظام السوري قرّر التريث بالإعلان عن النتائج، لما بعد القمة العربية. وقالت المصادر لصحيفة (القدس العربي) الصادرة في لندن، أن نتائج التحقيقات تشير لتورط مخابرات عربية، سيتم الكشف عنها في مرحلة لاحقة. وأضافت المصادر أن مخابرات دول عربية نسّقت مع الموساد الإسرائيلي لاغتيال مغنية، كما اتهمت المصادر شخصيات لبنانية وفلسطينية بالتورط بالعملية. وفسرت مصادر عربية الإتهام السوري لدول عربية، في إشارة الى السعودية والأردن، بأنه تلويح بحملة تعتزم سوريا شنها ضدها التي تشهد العلاقات معها تدهوراً. وتتهم السعودية والأردن ومصر، سورية بعرقلة إنتخاب رئيس للبنان، وتهدّد بمقاطعة القمة العربية التي من المقرر أن تستضيفها دمشق في نهاية مارس الجاري إذا لم تسهل إنتخاب رئيس لبناني.

مصادر سياسية لبنانية ذكرت لـ (الحجاز) بأن إغتيال مغنية فجّر (صندوق باندورا) سعودي داخل الأراضي السورية، ما دفع بأجهزة الأمن السورية لتوسيع عملية التحقيق، فيما حصلت على معلومات خطيرة حول ضلوع السعودية والأردن ليس في اغتيال مغنية فحسب، بل في مخطط واسع يستهدف قلب نظام بشار الأسد، من خلال إحداث اختراقات متسلسلة في الجهازين الأمني والعسكري.

قرار السلطات السورية بتأجيل إعلان نتائج التحقيق كان مؤسساً على بعدين أمني وسياسي، حيث لم تقفل الأجهزة الأمنية السورية الملف الذي تم استبدال عنوانه من إغتيال مغنية، الذي تم استكماله عملياً، الى الإختراقات الأمنية الأجنبية والجهات المتورّطة.

أما البعد السياسي فيدور حول القدرة السورية على إستغلال نتائج التحقيق ضد الأطراف العربية المتورّطة، بنفس الطريقة التي تم فيها إستغلال ملف اغتيال رفيق الحريري ضد النظام السوري. مصادر صحافية سورية ذكرت بأن قرار عدم نشر نتائج التحقيق حول اغتيال مغنية، يعود الى أن القيادة السورية لا تريد إفساد إستثمارها السياسي، على قاعدة (إفشاء الأمر قبل أوانه مفسدة له)، خصوصاً وأن السعودية والأردن ومصر تضغط بورقة القمة العربية في دمشق من أجل إرغام الأخيرة على القبول بخيارها السياسي.

ما لم تتوقّعه هذه الدول أن تنتقل ذات الورقة الى يد السوريين، من خلال تمرير بعض المعلومات التي حصلت عليها في عملية التحقيق إلى السعودية عن طريق عمور موسى، الأمين العام لجامعة الدولة العربية في زيارته الأخيرة لدمشق في فبراير الماضي، ورئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني. فتحت المعلومات المثيرة الطريق أمام لقاء متكي ـ الفيصل في مطار القاهرة، ثم لقاء رباعي ضم عمان وقطر وسوريا وإيران، ليؤول إلى تبدّل لافت في الموقف السعودي من المشاركة في قمة دمشق، بالتخلي عن إنجاز الإستحقاق الرئاسي في لبنان كشرط للمشاركة السعودية في القمة.

لاشك أن الدبلوماسية السورية نجحت الى حد كبير في تعطيل محاولة الثالوث المصري ـ السعودي ـ الأردني، ومن ثم محاولة أخرى عن طريق مجلس التعاون الخليجي لجهة اختطاف القرار العربي، بقبول غالبية الدول العربية على المشاركة في قمة دمشق، ما يجعل الموقف السعودي ناشزاً.

أما على المستوى المهني للتحقيق والذي تشرف عليه المخابرات العسكرية السورية، فإن مصادر صحافية سورية أشارت الى أن جزءاً من المكونات التقنية التي استخدمت في التفجير، وبشكل خاص المواد الناسفة، تم إدخالها بواسطة حقيبة/حقائب ديبلوماسية تخصّ السفارة السعودية وتحديداً الملحق العسكري فيها. وأضافت المصادر بأن التحقيقات كشفت عن (وجود عمليات تمويل قام بها الملحق العسكري المشار إليه لصالح زعماء ووجهاء محليين سوريين في أكثر من منطقة ومحافظة سورية كجزء من عملية واسعة لشراء ذمم مواطنين سوريين وتجنيدهم لصالح استخبارات بلاده). وورد إسم نائب الرئيس الأسبق عبد الحليم خدام، الذي إستقبلته القيادة السعودية قبل عامين، وقد تحدثنا حينذاك عن مخطط لقلب نظام الحكم في سوريا يقوده عبد الحليم خدام بتمويل سعودي. ليس أمام الأمراء السعوديين في الوقت الرهان خيار للهروب من أسرار التحقيق، وتفكيرهم ينصّب حالياً على كيفية الخروج من استهدافهم الفردي في (ورطة جماعية)، وبات الإنشغال مكرّساً لشراء (الصمت) السوري.

الصفحة السابقة