هل تمزّقت سياسة الردع الحكومي

سياسة (التخويف) وأدوات (المقاومة)

يحي مفتي

(الخوف) وإمكانية النظام الأمني السعودي لتنفيذ سياسة (الردع) يكبّلان المجتمع السعودي، بنخبه وشارعه العام، ويمنعانه من الإنطلاق والمطالبة بحقوقه.

هناك إرث تاريخي يدعم سياسة التخويف وزرع الرعب الحكومي الذي تمارسه العائلة المالكة كأحد أهم أدواتها السياسية في (تدجين) الشارع المسعود.

فالمذابح التي أقامها الجيش الوهابي لمّا تبرح الذاكرة بعد، ولازالت تتناقل بين الأجيال الجديدة، وما صنعه الوهابيون الذين خاضوا في دماء الأبرياء نساءً وأطفالاً وشيوخاً ورجال دين، سواء كان في مذابح الطائف أو تربة أو غيرهما من قرى الجنوب التي أحرق الكثير منها عن بكرة أبيها.. تلك الأفعال الشنيعة والدمويّة كانت المادة الخام التي تتكيء عليها العائلة المالكة في (تمديد) حالة النكوص والخوف لدى المواطن.

منذ تأسيسه، ظهر النظام السعودي بمظهر النظام الطاغي، النظام القامع، الذي يضرب بيد من حديد ولا يأبه بأحد، ولا مكانة أحد، بل ولا بتدخلات سياسية أو حقوقية من وراء الحدود.

إن سلطة الدولة السعودية قائمة على إثارة الرعب، وتحقيق الردع، ليس تجاه ممارسي الجرائم التي تصنّف بأنها (جنائية) بل تجاه المطالبين بالحقوق السياسية والمدنية للمواطنين. فأية مقاومة من هذا النوع، لا تلقَ إلا السلاح والرصاص.

رأينا ذلك بوضوح في تحركات الشيعة في المنطقة الشرقية عام 1400 هـ، نوفمبر 1979م، حيث استخدم الطيران وسلاح البحرية إضافة الى الحرس الوطني في قمع المواطنين هناك، الذين اعترضوا على سياسات التمييز الطائفي. وقد أدّى القمع الى إخماد حركة الشيعة الى حين على الأقل. ورأينا قبل هذا ما فعله السعوديون بثورة حامد بن رفادة في الحجاز، الى حد استخدام رأسه ككرة يتلاعب بها الصبيان بعد أن تم صلبه. ورأينا في الخمسينيات الميلادية الماضية كيف واجه الوهابيون وآل سعود انتفاضة منطقة الريث وجبل القهر في الجنوب من قتل وقصف بالطائرات وحرق للأخضر واليابس.

اليد الباطشة القامعة التي لا تعرف الحدود، كانت دائماً مصدر (الردع). لا أحد من المواطنين له حق في الإعتراض، ولا في المطالبة، ولا حتى في التماس الرأفة والعذر لمن يكونوا ضحيّة أدوات القمع الحكومي.

سياسة (التخويف) كانت الى وقت قريب سائدة، ولازالت بقاياها مسيطرة على فئات من المجتمع.

يحدّثك البعض بأن (الحيطان لها آذان).. وأن جهاز المباحث موجود في كل مكان، الى حدّ تتصوّر معه وكأن جهاز المباحث لم يوجد له مثيل في التاريخ، فتتضخم قوته لدى فئات من المواطنين الى حد أنهم لا يتحدثون في الشأن السياسي حتى في منازلهم وبين أهليهم وأبنائهم وأصدقائهم.

بفعل سياسة التخويف والإرعاب المستمر، تتضخم قوّة السلطة في الأذهان، فلا تذكر أجهزة الدولة إلا باستخدام الرمزيات في التلفونات. فتسمع مفردات عن (زوار الفجر) تقلب فيها المفردات خشية من يتلصص على أجهزة الهاتف. وتنتقى الكلمات المعاكسة لتضليل المستمع على الطرف الآخر.

قوّة النظام تتعمد تركيز سمعته كباطش وظالم وجلاد وجبّار في صفوف فئات مسكونة بهواجس التاريخ الدموي لآل سعود ووهابيتهم.

لكن الوضع تغيّر الى حدّ كبير اليوم.

صورة النظام المرعب انحطّت، وهو يحاول ترقيعها بالمزيد من القمع والبطش، لتأكيدها في الأذهان، عبر الإعتقالات والإستدعاءات والتحقيقات، والمنع من السفر، والفصل من الوظائف وغيرها.

لكن الزمان فات فيما يبدو.

النظام الجبّار، رآه المواطنون على حقيقته كفأر صغير، حين اكتشفوا أن قوته العسكرية، وجيشه المخيف لا يستطيع أن يحمي الوطن، ولا حتى آل سعود أنفسهم، فجاؤوا بمجندات أميركيات لحمايته أبان احتلال العراق للكويت.

يومها اكتشف الناس وهماً كبيراً. فكل السنين الماضية هم خاملون خامدون على اعتبار أن النظام (قوة عظمى) فإذا بأدواته مجرد أرقام على ورق. وأن النظام المتدفق حيوية وعنفواناً، وجده المواطنون ميّتاً في الداخل: (ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض تأكل منسأته)!

منذ ذلك اليوم، انكسر جدار نفسي بانكشاف وهم القوة السعودي.

لقد عرف المواطنون حجم قوّة النظام بدون تضخيم. فزال قدرٌ كبير من مفعول سياسة الإرعاب والتخويف المعتمدة، وبدأ طوق الإرهاب الفكري والنفسي بالتفكك شيئاً فشيئاً من خلال حركة الشارع المتصاعدة في بداية التسعينيات، ثم بدأت الجرأة على النظام عبر عمليات عنف، وتصاعد الشعور الشعبي بضعف النظام بعد هجمات سبتمبر 2001، وتكاثر دعوات الإصلاح، وانفجار العنف.

وازداد تفكك سلطة الرعب والتخويف بعوامل اقتصادية أيضاً.

فليس كل الناس مهتمون بالسياسة، وكانت شرائح كبيرة تحترم النظام لكونه يقدم (انجازاً) اقتصادياً. ولكن منذ منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الماضي بدأت المصاعب الإقتصادية تترى، وبدأ الخلل يصيب كل أوجه خدمات الدولة الإجتماعية، وطاولت الأزمة الإقتصادية معاش المواطنين، وتوسعت رقعة العاطلين عن العمل، وزاد التضخم، وقد سبب هذا كلّه ازدراءً للنظام، وجرأة على نقده، ولو من الزاوية الإقتصادية، فصار المواطنون يطالبون بحقوقهم الإقتصادية والمعاشية والخدماتية، وأخذوا بالتساؤل عن مصير الثروة الطائلة، ومن الذي يسرقها وينهبها.

وهكذا أصبح الفشل الإقتصادي بوابة لتمزيق ستار الهيبة والإحترام لآل سعود ودولتهم، وبوابة أيضاً للمطالبة بالإصلاحات في المجالات كافة، والتي بدأت على شكل عرائض منذ بداية التسعينيات ولاتزال.

حين يسقط الإحترام، وتزول الهيبة، ينكسر أو يخف بالضرورة أثر سياسة السلطة السعودية في بث الرعب والخوف، الى حد أن أجهزة المباحث وجدت نفسها غير قادرة على اعتقال عشرات الألوف من المواطنين الذين انطلقت ألسنهم ضد آل سعود ووزرائهم ومسؤوليهم.

هناك أيضاً عامل ثالث ساعد على تكسير مظلّة الخوف والإرعاب الحكومية، وبالتالي إسقاط سياسة الردع الإستباقي للسلطات الأمنية، وهو التطور التكنولوجي، خاصة في ميدان الإنترنت، والجوال، فقد كسرا كل المحرمات التي تحفظ لآل سعود هيبتهم، فصار من لا يجرؤ على الإنتقاص من آل سعود علناً، يقول ما يريده من وراء شاشة الكمبيوتر، أو ينشر ما يراه وما يأتيه عبر رسالة للجوال (الموبايل). وصار تداول المواد والصور التي تطعن في العائلة المالكة غير محرم، كما صار بإمكان المواطنين الإطلاع على ما يكتبه العالم عن السعودية وعن العائلة المالكة، بحيث لم يعد هناك شيء يمكن إخفاؤه عن المواطنين أنفسهم.

أما العامل الرابع الذي قضى على أسطورة فرض الرعب والخوف على المواطنين، فهي الإنكشاف السياسي والأمني، إذ لاحظ المواطنون بأن نظام الحكم الذي يصور نفسه (مقتدراً) (متفضلاً على غيره) (داعماً للتضامن العربي والإسلامي) (مقاوماً للإستعمار) (محافظاً على المقدسات).. ما هو إلا نظام جبان، ومتواطئ، وجامد، وغير جدير بالأمانة. اكتشف المواطنون تواطؤ النظام مع الأميركيين في احتلال أفغانستان والعراق، والتآمر على القيادة الفلسطينية المنتخبة (حماس) وعلى كل فئة أو حزب مقاوم للأميركيين والإسرائيليين، كما اكتشف السعوديون حجم الإتصالات السعودية مع الإسرائيليين، خاصة تلك التي يقوم بها بندر.

وما أزعج المواطنين السعوديين ليس فقط انكشاف النظام سياسياً، بل في مقارنتهم إياه بالأنظمة الأخرى التي تعتبر منافسة مذهبياً أو سياسياً (إيران وسوريا). فحتى الطائفيين الوهابيين وهم تقليدياً من الداعمين لآل سعود، يشعرون بأن نظامهم السياسي غير قادر على المنافسة ولا يقوم بما يتوجب عليه القيام به (دينياً وسياسياً)، كما شعروا بخيبة أمل من أن منتجاتهم السياسية كالقاعدة تفقد الألق لصالح منافسين مذهبيين (حزب الله) أو سياسيين (حماس). زد على هذا فإن المقارنة بين النظام السعودي وما أنجزه لا يعدّ شيئاً ذا بال بالمقارنة مع دول الخليج الأخرى، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالدونيّة بعد أن كانوا يعتقدون (واهمين) بأن بلدهم هو الأقوى سياسياً، والأفضل اقتصادياً، فإذا بهم اليوم (يشحدون) وظائف لأبنائهم في دول الجوار الخليجي.

وهكذا صغر النظام في عين المواطنين، وتحوّل الإحترام الى احتقار داخلي، وأكفّ ترفع الى السماء بأن يخلّص الله البلاد من فراعنة آل سعود!

فعل أقلّ: لماذا؟

لا يعني هذا أن قدرة النظام في القمع الداخلي صارت معطلة. فالذي حدث ـ من ناحية سيكولوجية ـ شديد الأثر على الجمهور السعودي. هذا الجمهور يعلم بأن النظام وإن لم يعد مخيفاً كثيراً، فإنه لازال يمسك بأدوات القمع والمال ويستخدمهما متى أراد. لكن الإستخدام للعنف صارت له كوابح بقدر لا بأس به.

فاعتقال الإصلاحيين وغيرهم، ومنع الصحفيين وطردهم، وإبعاد المعارضين عن وظائفهم، لم تعد مسألة مجهولة اليوم، فما يجري صار معلوماً في الداخل، وصار يقابل بالإعتراض الواضح، ولم تفلح وسائل آل سعود الدعائية التقليدية في إقناع المواطنين بأن الدولة لها الحق في الإعتقال متى تشاء، وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد بناء على أية حجّة. وكما ظهر مراراً، فإن تفاصيل الإعتقالات يتم تناقلها، كما أن تفاصيل المحاكمات يتعرف عليها المواطنون، فيحكمون ويقدرون بأنفسهم حقيقة الجرم المدّعى، ومدى نزاهة القضاء، والدوافع السياسية للحكومة وأخطائها وتجاوزها لكل الحدود.

ثم إن القمع الحكومي يقابل أيضاً بانتقاد خارجي من منظمات حقوقية عربية وأجنبية، وصارت ممارسة السلطات الأمنية السعودية في دائرة الضوء، بل قد تقفز الى صدارة أخبار العالم مثلما حدث لقضية (فتاة القطيف). السعودية اليوم غير محصّنة أمام النقد الداخلي والخارجي، العربي أو الدولي، الحقوقي أو المدني. وبالتالي فإن الضغوط عليها كثيرة، وهي وإن لم تتجاوب كثيراً معها، إلا أنها تدرك بأن معاندتها ليست في صالحها، إذ أن ذلك يستدعي المزيد من الحديث عن انتهاكات آل سعود لحقوق المواطنين، ويزيد من تأجيج الشارع وإشغاله بما يجري على صعيد المعتقلات والسجون والدعوات المطالبة بالحقوق السياسية للمواطنين.

أي أن رفض الأمير نايف وزير الداخلية للدعوات الداخلية والخارجية بإطلاق سراح المعتقلين والإلتزام بالقانون الذي وضعه هو فيما يتعلق بحقوق المواطنين، وكذلك الإلتزام بما جاء في النظام الأساسي.. إن رفضه وعناده، يستهدف التأكيد بأن دولة آل سعود (قوية، غير مساومة، غير مهتمة بما يقال عنها خارجياً، ولا بالضغوط السياسية، ولا حتى بسمعتها في الخارج). وبمعنى آخر يستهدف إعادة تذكير المواطن بأن آل سعود لازالوا أقوياء، وأنهم إنما يقومون بهذا البطش فلهدف (ترميم) وسائل الردع المتكسرة والتي تحطم الكثير منها خلال العقدين الماضيين.

وبرغم هذه الكوابح: الإعلامية والحقوقية، لاتزال الحركة السياسية المطلبية والسلمية في المملكة ضعيفة، بالرغم من أن الشعور العام يدرك بأن آل سعود لا يستطيعون فعل ما يحلو لهم دائماً، ولا يستطيعون التنكّر للضغوط الخارجية والداخلية، وأن قمعهم له حدود، أقلّ بكثير مما كان يحدث في السبعينيات والثمانينيات الميلادية الماضية.

هل هو الجبن الذي يجعل حركة النخبة السعودية ضعيفة للغاية؟

هل السرّ يكمن في أن النظام لازال يملك أوراق (معاش) تلك النخبة، فأصبحت تخاف على ما بيدها؟

هل السبب يعود الى أن النخبة ضعيفة على مستوى الشارع السعودي؟

أم أن السبب يعود الى أن تراث الحركة السياسية في المملكة ضعيف وقليل، وأنها حركة وليدة جديدة تحتاج الى زمن لكي تشب وتكبر؟

قد تكون كل هذه الأسباب وراء ضعف الحركة الشعبية المطالبة بالإصلاح.

ولكن هناك سبب آخر مهم: هناك نخب أساسية تقود الدولة ومنتفعة من الوضع الراهن، وهي لا تخشى النظام السعودي، ولا تحترمه، ولكنها مرتبطة معه بنظام مصالح لا يمكنها الفكاك عنه. هي تؤمن بما يؤمن به آل سعود من ديكتاتورية وقمع ورفض للإصلاح. لأن الإصلاح يعني تقاسم الثروة والسلطة، وهم لا يريدونه.

إن النخبة النجدية بالتحديد ليست ضد النظام، بل هي مصاهرة للنظام، داعمة له، لا خوفاً منه، وربما لا حباً فيه، ولكنه نظام يمثل مصالحها الضيقة الخاصة، وبالتالي فإن هناك سبباً في شلل النخبة السعودية لا يعود الى الخوف، وإنما الى (الطمع) والإستئثار.

الصفحة السابقة