الدولة الزجاجية

يتطيّر الأمراء من الإعلام المضاد، وهم على استعداد لخوض المغامرات الإعلامية، التي تزيل عنهم كابوس المتربّصين بهم بكلمة أو صوت أو صورة، لأنهم يدركون تماماً بأن سر قوتهم في إخفاء ضعفهم، وضعفهم يكمن في الأداة التي تكشفه.

تصوروا أن دولة تمتلك إمبراطورية إعملامية ورقية وفضائية تخشى من قناة أو صحيفة، فتقرر عقد لقاءات على أعلى المستويات من أجل الإتفاق على وقف الحملات الإعلامية المتبادلة. مثال معروف، فقد تدهوّرت علاقات السعودية مع قطر فقط لأن قناة (الجزيرة) كشفت بالأمس الغطاء عن بعض ماهو مسكوت عنه في السعودية، ولامست أحياناً موضوعات مدرجة في التقليد السياسي الرسمي بأنها بالغة الحساسية، وربما تعتبرها سيادية. سحبت الرياض سفيرها من الدوحة، كرد فعل على (الإساءة) القطرية، واعتبرت كل من يظهر على فضائية (الجزيرة) بأنه من الخصوم، بل ما لا يعرفه الكثيرون أن فحوى التعهّد الذي فرضته وزارة الداخلية على الإصلاحيين الذين تم اعتقالهم في الخامس عشر من مارس 2004، عدم الإدلاء بتصريحات لوسائل إعلام خارجية، وتم تحديد قناة (الجزيرة) بالإسم. وهناك من تم منعه من السفر للخارج خشية إدلائه بتصريح لوسائل الإعلام.. فكم من الاستدعاءات جرت لأشخاص شاركوا في ندوات ثقافية، أو مؤتمرات علمية، أو صادف أن أطلوا عبر وسائل إعلام لم يعرفوا بأنها لجهات معادية!

لفت الإنتباه خبر في 22 فبراير الماضي بثّه تلفزيون (أخبار المستقبل) التابع لرجل السعودية في لبنان سعد الحريري، يقول بأن (السعودية قررت مقاطعة القمة العربية المزمع عقدها في العاصمة السورية دمشق)، وذلك بسبب (الحملات التي تشنها سوريا والمعارضة اللبنانية على السعودية). كان الخبر لافتاً بكل المعايير، خصوصاً لمن يتابع الإعلام السعودي، الذي لم يتوقف منذ سنوات عن تسقّط أخبار النظام السوري، وملاحقة رموزه، بل وافتعال الأخبار حوله، إن أمكن على غرار الخبر الذي بثّته قناة (العربية) في يوليو من العام الماضي حول تصريح مسؤول سوري ينطوي على إحتمال تعرّض قوات اليونيفيل لاعتداءات، في إشارة مقصودة لرد فعل الحكومة السورية على قرار تجميد أرصدة عدد من المسؤولين السوريين، وهو خبر تبيّن لاحقاً بأنه أحد منتجات (الغرفة السوداء) التي يديرها فريق سعودي ـ أردني.

على أية حال، كانت صحف السعودية وقنواتها الفضائية، وخصوصاً (العربية) التي تكاد تنطق بـ (العبرية) بسبب مواقفها الممالئة لحكومة أولمرت، تقصف الحكومة السورية صباح مساءً، ولا نكاد نسمع ردّاً من الأخيرة بسبب طوفان الإعلام السعودي الذي يضيع فيه أي رد فعل.. ولكن تبيّن أنه طوفان من الزبد، ولذلك يخشى المطر.

شنّت السعودية منذ مقتل رفيق الحريري حملات سياسية ضارية، وجابت البلدان لتأليب المجتمع الدولي وإحضار الغرب بقواته لإسقاط النظام في سوريا، وخشيت من حملات إعلامية لم تحقق أدنى توازن للرعب الإعلامي في مقابل إمبراطورية تدرك السعودية بأنها مبنيّة على جرفٍ هار.

ورثت السعودية جيشاً من الصحافيين والإعلاميين العرب الذين كانت تصلهم مكافآت شهرية من نظام صدام حسين، وبعد سقوطه نقلوا ولاءاتهم من اليسار الى اليمين تبعاً لميل كفة الأرزاق. ومع ذلك، يتصيّد الأمراء كل من تخلّف عن الركب، وسار في طريق الممانعة، حتى لا تكون للحرية مكان ليس في الشرق فحسب، بل وحتى في العالم الديمقراطي الذي مسّه شيطان النفط، فألهاه عن البوح بالحقيقة.

محاولات السعودية جارية للوصول الى كل الصحف المشاكسة، فتقدّم عروضاً سخيّة لمن ألقى السمع إلى نصائح (الوسطاء) المتجوّلين في سوق الإعلام بحثاً عن (صفقة).

وللمر أن يتخيّل كيف أن جهوداً جبارة بذلت من أجل معرفة من يقف وراء موقع على شبكة الإنترنت، يتوافد عليه جمع كبير من أصحاب الرأي في ديارنا، وحين نجحوا في الوصول إلى الجهة المشرفة عليه بعد تحريّات كثيفة وواسعة، وشراء ذمم، واستدراجات، أرغموا أصحابه على إقفاله، ثم قامت وزارة الداخلية باعتقالهم.

ولكن السؤال الحائر: لماذا يفعل الأمراء ذلك كله، وقد ملكوا سبل الأرض وطرق السماء، حتى باتت الكلمة تسير في منعرجات خانقة، ولا تصل إلى مستقرّها ومستودعها إلا بعد أن مرّت وسط (غيمة إعلامية) كثيفة وسوداء؟.

سبب واحد يكفي للإجابة عن السؤال الحائر: أن قوة هذه الدولة في حاجة غيرها إليها، فهو يشتري قوته من حاجة الخارج كيما يجبر ضعفه الداخلي، ولو تخلى الخارج عنه لوجد نفسه كسوراً عشرية، كما كان من قبل. ولذلك، يخشى الكلمة الحرة، والموقف النبيل، والعقل المستنير، والنقد البنّاء، والدعوة للإصلاح، وأشدّ ما يخشاه إلتقاء الناس على الخير، ففي ذلك شره المستطير، فهو يعيش على إبقاء الإنقسام الداخلي، الذي به يمكن السيطرة على السكّان، فهو يخشى الوحدة المجتمعية، لأن ذلك يعني زوال الحكم التسلطي الإحتكاري الفئوي، ويخشى الوحدة الوطنية التي تتطلب هدماً لأسس السلطة الوراثية.

إمتلاكه إمبراطورية إعلامية لا يعكس إيمانه بحرية الإعلام، ولا بالتدفق الحر للمعلومات، بل على العكس من ذلك كله، فهو إنما يملك الإمبراطورية بغرض السيطرة على المعلومات، والتحكّم فيها، والخشية من وقوعها في قبضة الآخرين، فيستعملوها لأغراض أخرى مثل تنشئة الوعي وتطويره، وإماطة اللثام عن الألعاب القذرة، والفساد المالي والأخلاقي للأمراء، والدعوة للإصلاح الشامل، وهي أغراض تعتبر في نظر الأمراء خطيرة ومرفوضة بل ومدسوسة على (الإسلام وشريعتنا وتقاليدنا وأعرافنا) كما يحلو للمتنطّعين من الأمراء التلاعب بتذاكي مفتعل بالشعارات الكبيرة.

الصفحة السابقة