السعودية ستردّ في لبنان عبر (حرب طائفية)

النفوذ السعودي في غرفة إنعاش لبنانية!

سعد الشريف

مرة أخرى، تثبت الأحداث في لبنان أن ليس في المملكة عقل يخطط أو يفكر أو يدرس أو يتعلّم من تجاربه. مرة أخرى، تثبت تلك الأحداث أن العضلات السعودية المنتفخة، والصوت العالي، والغرور الممتزج بالصلف السياسي، لا يمكن أن يكون كل ذلك بديلاً عن الرصانة السياسية، والتخطيط الإستراتيجي اللذين افتقدتهما المملكة منذ أمد غير قصير.

ومرة أخرى، تثبت الأحداث أن المملكة مرتهنة لأيديولوجية تعكس نفسها على شكل سياسة طائفية، بعيدة عن مصالح الدولة، لتضعها في خانة زعم لم يصدق حتى الآن، وهو خدمة الطائفية والمذهبية الوهابية. كما ثبت أن الرهان على الصراع الطائفي، واستخدام الورقة الطائفية في السياسة الخارجية، كان لينجح في جرّ الأطراف السياسية اللبنانية اليه لو أن بعض تلك الأطراف ـ على الأقل ـ لم يكن متنبّهاً الى اللعبة السعودية المعتادة طائفياً، وهي لعبة تعتبرها السعودية ذخيرتها الإستراتيجية في صراعاتها المحلية على الأرض السعودية، وعلى الصعيد الإقليمي، كما هو ثابت ومعروف.

ومرة أخرى وأخرى، تثبت الأحداث اللبنانية، أن هناك سقوطاً مريعاً في الدور السعودي الخارجي على الصعيد الإسلامي والعربي الإقليمي. وهذا السقوط الواضح الذي تتزايد أدلّته يوماً بعد يوم، يؤكد حقيقة أن المسؤولين السعوديين يعيشون عالماً مختلفاً بعيداً عن أرض الواقع، ويتبنّون مواقف ومشاريع عمل يصعب على الباحث أن يصدّق ان تراث الخارجية السعودية يمكن أن ينحدر إليها، وأن يسير فيها من جهة عدم عقلانيتها، وعدم إمكانية نجاحها.

تكاد السعودية أن تخسر موقعها المتميّز في لبنان، وربما للأبد، بعد هزيمة جماعة 14 آذار على الأرض.

ترى من هو الأحمق ـ وربما عددٌ غير قليل من الحمقى ـ الذي حصر رهان السعودية في لبنان وعلّقه في رقبة طرف مذهبي واحد. طرف ضعيف، عديم الخبرة، فاقد للإرادة؟

من هو الأحمق الذي جعل السعودية تعادي الأكثرية الشعبية في لبنان؛ في وقت تزعم فيه أنها تتعاطى بمسافة واحدة بين كل الأفرقاء، ومن هو الأحمق الذي قال لها أن اللبنانيين صدّقوا مزاعمها، وهي ترى وتسمع الأصوات تتعالى من مسيحيين ودروز وعلماء وسياسيين سنة وشيعة ضد سياسة الأمراء؟

من هو الأحمق الذي أقنع الأمراء بأن مبتدئي السياسة في لبنان، من كبار اللصوص والتجار والمغامرين، يمكن أن يحفظوا مكانة السعودية في ذلك البلد، في وقت تقاطع فيه الحكومة السعودية الأكثرية المسيحية ممثلة بعون الذي وجهت له دعوة لزيارة الرياض ثم سُحبت! وفي وقت تقاطع فيه الأكثرية الشيعية المعتدلة والمتشددة، الى حدّ إهانة (بري) ورفض استقباله قبل بضعة أسابيع؟

ماذا ومن بقي في لبنان ليقف مع السعودية؟

وأية قوة إقليمية يمكن لها أن تمهّد الطريق لتعزيز الموقف السعودي في ذلك البلد، بعد أن فتحت السعودية النار على دمشق، ومن ورائها إيران؟ مع العلم أن الدور السوري كان دوماً داعماً للوجود السعودي في لبنان، ومتبنّياً لرجاله، بمن فيهم الرئيس الراحل رفيق الحريري، الذي لولا سوريا ما وصل الى رئاسة الوزراء.

الآن، وقد خسرت السعودية معظم اللبنانيين من حيث العدد، وخسرت المعارضة بشتّى أصنافها المعتدلة والمتشددة، الدينية وغير الدينية، الإسلامية والمسيحية والدرزية، كيف لها أن ترمم وضعها السياسي هناك فضلاً عن وضع حلفائها؟

الفيصل يصف نصر الله بأنه شارون

هناك أمام السعودية حلاّن لا ثالث لهما:

الحلّ الأول ـ أن تقوم بدور التخريب، تماماً مثلما فعلت بالعراق، بحيث تنشّط الوهابية، وتدفعها لتفجير الوضع اللبناني على أسس صراع سنّي شيعي، فتتزايد الدماء في الشوارع، ويتكاثر عدد الإنتحاريين ليقتلوا المواطنين اللبنانيين في الأسواق والمساجد وغيرها. وهذا الخيار، هدّد به بعض رموز تيار 14 آذار، حين تحدثوا عن ظهور القاعدة والزرقاويين ـ كما قالوا ـ إن نزلت المعارضة الى الشارع. يمكن للحكومة السعودية أن تنشط قوى السلفية في شمال لبنان الى حدّ ما، ويمكن أن تزجّ ببعض السعوديين الى المعركة كما فعلوا في العراق، بل وكما فعلوا في لبنان في معركة نهر البارد، ولربما في مقتل الحريري، حيث تشير الأيدي كثيراً الى أن المفجّر الإنتحاري سعودي الجنسية. ولكن هذه الإمكانيّة، تعني أساساً عودة السعودية الى تجربتها الفاشلة في العراق، والى فتح النار على النظام السياسي اللبناني الذين لن يكون معارضاً بأي حال للسعودية، اللهم إلا إذا تم تبنّي هذا الخيار. حينها لن يسع بقايا حلفاء السعودية إلا الوقوف ضدّها أو تمييز أنفسهم عنها، وبهذا تخسر السعودية ما تبقى لها من مكان في لبنان. والأرجح أن العقلية السعودية تميل الى هذا الخيار.. خيار التصعيد السياسي والإعلامي وحتى العسكري الدموي، ويكفي الإطلاع على ما تكتبه الماكنة الإعلامية السعودية الداخلية أو الخارجية (الشرق الأوسط مثلاً) أو مشاهدة قناة العربية، لندرك أن المسألة القادمة هي إشعال حرب سنيّة شيعية ـ رغم هدوئها ـ في بيروت وإن لم يكن ذلك ممكناً، فيمكن ـ من وجهة النظر السعودية ـ تمديد الفتنة من طرابلس الى بيروت. أيضاً فإن تصريحات المفتي السعودي في هذا الشأن، تكشف هي الأخرى، أن النيّة تتجه لإشعال تلك الفتنة، التي أُمكن تجاوزها بصعوبة بالغة.

الخيار الثاني ـ أن تعيد الحكومة السعودية دراسة الوضع من جديد، وتقوّم موقفها في لبنان، وتدرس الثغرات في سياستها، وتبحث أين تكمن مصلحتها السياسية كدولة، وكيف تعيد ترتيب أوراقها، وتعيد أيضاً خطوط اتصالها مع غرمائها السياسيين المحليين، على الأقل المعتدلين منهم. بإمكان السعودية أن ترطب الأجواء مع نبيه برّي الذي تعرّض لإهانة كبيرة منهم، يعتقد أنه لن ينساها للرياض. وبإمكانها أن تفتح قنوات اتصال مع الجنرال عون، الذي أعلن في الآونة الأخيرة ومن خلال لقاءاته التلفزيونية أن المال السياسي السعودي بدأ يتحرك في المناطق المسيحية من أجل تدمير مكانته السياسية القوية والساحقة (70% من المسيحيين صوتوا لعون وحزبه). كما بإمكان الرياض أن تمدّ يداً الى الجناح الدرزي المعتدل في المعارضة (الأمير أرسلان) والى القيادات السنيّة السياسية (سليم الحص وعمر كرامي بالتحديد) كما قياداتهم الدينية (الشيخ ماهر حمود في صيدا وفتحي يكن في طرابلس مثلاً). بهذا تستطيع السعودية ـ حتى على الصعيد التكتيكي ـ أن توسع لها سياسياً هامش المناورة. بإمكانها أيضاً أن تعضّ على جراحها، ناظرة الى مستقبل مصالحها، فتعيد بعض الخطوط السياسية مع سوريا وتكفّ عن مماحكتها سياسياً، وربما بإمكانها توضيح وجهة نظرها بشأن دورها في تمويل انقلاب عسكري على النظام في دمشق والذي أجهض في نوفمبر من العام الماضي.

أيضاً تستطيع السعودية أن تخفّف من لغة إعلامها الطائفي فتنظر بعين سياسية بصيرة الى واقع الأمور على الأرض، وأن تتمتع لا بالحيادية في التعاطي مع الصراع بين الموالاة والمعارضة، بل بأقلّ من ذلك أي أن تخفّف من عدوانيتها الإعلامية الواضحة والآخذة بالتصاعد يوماً بعد آخر ضد المعارضة، منذ انفجار الصراع المسلّح في بيروت.. وأن تتخفّف من الشحنات الطائفية التي يسكبها إعلامها.

باختصار.. يمكن للسعودية أن تعيد التوازن في تصرفاتها السياسية على الأرض اللبنانية.

ولكن مشكلة الأمراء السيكولوجية والطائفية تجعلهم أبعد ما يكونوا عن هذا الخيار الثاني، رغم توافر إمكانياته، ورغم التحوّل النوعي في السياسة المحلية اللبنانية، وهو تحوّل لا تستطيع السعودية مجابهته بمشروع طائفي فاشل، أو مشروع تخريبي يؤدي الى تقوية خصومها السياسيين بدل أن يضعفهم.

ومع أن السيد نصر الله ـ أمين عام حزب الله ـ لم يغفر للسعوديين موقفهم من حرب تموز 2006، مع أنه لم يفتح معركة عليهم في لبنان سياسية كانت أو إعلامية، وقبل بتبريرات السفير عبدالعزيز خوجة، الدبلوماسي المهذّب الذي سعى جهده لتهدئة نصر الله.. مع كل هذا، مضافاً إليه أن نصر الله تمنّى على السعودية في خطابه في 7/5 الماضي، بأن لا تكرّر تجربة مواقف حرب تموز، لتعود فتعتذر عنها.. فإن السعودية بدت من خلال إعلامها في بداية الأزمة اللبنانية المسلحة الأخيرة وكأنها وقد مسكت أعصابها ليومين، قبل ان تنفجر متصاعدة في كل ساعة، مختلقة الأخبار، ومشحونة بالتحريض الطائفي الصريح كما ظهر على قناة العربية. أي أن ما تمنّاه نصر الله من السعوديين لم يغيّر فيهم كثيراً.

هناك بعض الحمقى من الأمراء ـ وبينهم بندر بن سلطان ـ قد أسسوا ما اعتبروه نهجاً سعودياً جديداً، يقوم على المواجهة واستعراض العضلات، والدخول في الصراعات الإقليمية، واقتحام الموانع التقليدية التي مضت عليها السياسة السعودية لعقود طويلة، وطبلوا لذلك النهج منذ حرب تموز، وموقفهم (المغامر) من حزب الله واصطفافهم مع اسرائيل. منذ ذلك الحين لم تغادر السعودية نهجها الجديد. ولكن يغيب عن الأمراء الحمقى، أن التحوّل في السياسة الخارجية يتطلب أموراً أكثر من المال. إنه يتطلّب عقلاً واستراتيجية ومشروعاً واضحاً. هذا هو ما يجعل السعودية تتقدّم سياسياً، وهو الذي يحوّل السياسة الى ماكنة فاعلة ذات آثار إيجابية مباشرة على الدولة، لا أن تكون أداة تخريب عبر دفع أموال انهالت الآن بعد ارتفاع أسعار النفط.

النهج المتحدّي العضلاتي أكبر من مسألة مال لا توجد إمكانية لتفعيله سياسياً على ارض الواقع، أو المراهنة به لتغيير راديكالي. أي أن السعودية تشهر اليوم عضلات خاوية، لا تخيف أحداً، وهي تريد أن تتمدّد سياسياً بأكبر من حجمها، وبأكبر من إمكاناتها، وبأكبر مما تنفقه مالياً. رحم الله امرؤاً عرف قدر نفسه؛ والسعودية يجب أن تتحرك خارجياً على قدر فعلها السياسي، لا على قدر أموالها التي تبعثرها على جماعات ضعيفة لتنفيذ أجندات سياسية مستحيلة، تحيل الأمر في النهاية الى حصر الدور السعودي في دائرة تخريبية لا يمكن (صرفها سياسياً). وقدرة السعودية السياسية قابلة للتنشيط، ولكن الأحلام السعودية اليوم كبيرة، والفعل قليل، والرهانات خاطئة، والمشاريع تابعة لأميركا، والحلفاء ضعفاء.. أي ان الحكومة تريد الكثير وسريعاً، باستثمار مبتور وأعوج وقليل وعلى منهج غير علمي وغير واقعي.

الآن وقد خسرت السعودية معركتها في لبنان، ولا نقول خسر مشروعها، لأنه لم يكن لديها مشروع في الحقيقة، ولو كان لها مشروع لما كانت سياسة السعودية على النحو المهلهل الذي شهدناه. الآن، بإمكان الحكومة السعودية ـ وهي سائرة في هذا الطريق كما هو واضح ـ أن تستكمل سياسة المهزومين، لتعكسها غضباً وتخريباً وتأجيجاً للطائفية؛ وبإمكانها أن تتعلّم دروساً في السياسة من عدوتيها اللدودين (سوريا وإيران). ولعلّ السياسة السوريّة منذ خروج القوات السورية من لبنان تكفي درساً للسعوديين، حيث تحوّلت الهزيمة في النهاية الى انتصار سياسي ساحق لدمشق، في وقت كانت تنتظر فيه السعودية سقوط نظام الأسد!

بإمكان السعودية أن تمضي في رهانها غير المعقول ـ بل الغبي ـ إن كانت تصدّق بأن واشنطن ستحارب بالنيابة عن السعودية ومصر في مواجهة قوى المعارضة اللبنانية وحزب الله.. وستكون غبيّة جداً ـ كما هي العادة ـ إن اعتقدت بأنها ستكون رابحة في إشعال معركة طائفية شيعية سنية في لبنان؛ أو أن تلك السياسة ستحدّ من هزيمتها الساحقة هناك؛ أو أن السلاح الطائفي سيقضي على سمعة حزب الله، وأن المواطن العربي سيصدّق بأن حزب الله عميل لإسرائيل، وأن ما قام به يمهد لسقوطه وفشله.

ما تحتاجه السياسة السعودية كثير جداً. ولكن أهم ذلك الكثير هو: أن يتواضع الأمراء قليلاً، وأن يصغوا ويتعلّموا من خصومهم السياسيين، فالجيوب الملأى بالمال لن تصنع لهم (حقبة سعودية) جديدة. هذا انتهى، ولن يعود إلا بجراحة كبيرة في النظام السياسي السعودي، وليس فقط في نهجه الخارجي، ولا نظن أن ذلك النظام سيقوم بتلك الجراحة، لأن جسد النظام الهرم لا يستطيع أن يتحمّلها ـ حتى وإن أدرك أهميتها.

الصفحة السابقة