السعودية في لبنان

من طرف الى دولة

هاشم عبد الستار

لم يعد الدور السعودي في لبنان منسجماً مع طبيعته التقليدية القائمة على المواربة والسرية، كما كان الحال في العقود الماضية، فقد دخل مرحلة العلنية الفاضحة في معاركه السياسية، وإن تطلب قطعاً لكل روابط كان يمكنه تثميرها في وقت لاحق، أو توظيفاً لفرص يمكنه التعويل عليها حال خسارته لرهانات غير مضمونة، كالتي يضعها على أطراف غير وازنة مثل سمير جعجع ووليد جنبلاط بل وحتى سعد الحريري الذي يفتقر إلى كاريزما حقيقية أو منجز تاريخي كالذي حققه والده الراحل رفيق الحريري. بل والأخطر من ذلك كله، أن رهاناتها لم تعد قائمة على مكاسب منظورة، فهي أقرب الى المناكفة غير الخلاّقة منها الى العقلانية السياسية، ومحثوثة برد الفعل الإنتقامي منها الى البحث عن خيارات بنائية واستيعابية.

تخوض السعودية في الوقت الراهن معركة ثأر لا تدرك نتائجها النهائية، وإن أقصى ما تخرج به هو إبطال فعل الآخر وليس صنع فعل جديد. المال السياسي السعودي في لبنان بات مغرياً لطائفة كبيرة من السياسيين والحزبيين والأيديولوجيين والإعلاميين والكتّاب كيما يحصدوا من مداخيل النفط ما يعتبروه حقاً مشروعاً في معركة السعودية مع خصومها الإيرانيين والسوريين على التراب اللبناني. وللمرء أن يرقب تزايد أعداد الأبواق أو (تلفونات العملة) الذين يجهرون بالسوء السياسي في منازلات حقيقية حيناً ومفتعلة أحياناً كثيرة، بما يوحي بدور فاعل للمال النفطي الذي يتدفق بغزارة في الساحة اللبنانية.

يبدي الأمراء الكبار في العائلة المالكة إستعداداً مسبوقاً، في إستعادة لدور سعودي في الثمانينات حين كان المال يوظّف لشراء الولاءات السياسية في الخارج، أو تمويل عمليات قذرة، أو إشعال حروب داخلية.. وكما في العراق، فإن لبنان بات مركزياً في دور المال السياسي السعودي، وأن الأمراء الكبار على استعداد لدفع مبالغ طائلة لجهة شراء من لديه إستعداد للمشاركة في مشروعها السياسي، فقد خصّص السعودية موازنات مغرية لقادة الأحزاب المحسوبة على فريق السلطة في لبنان، وبات لكل من وليد جنبلاط وسمير جعجع وفؤد السنيورة وأمين الجميل وباقي الأقطاب الأساسيين في 14 آذار ميزانية خاصة ينفقونها على محازبيهم ومؤيّديهم، بل شمل المال السعودي المشايخ والصحافيين والكتّاب ووسائل الاعلام اللبنانية المقرّبة من الحكومة، بل بلغ الإغراء حد الإستعداد للتخطيط لاستقطاب أقطاب في المعارضة عبر وسطاء غير محايدين يحملون إليهم رسالة (الذهب الأسود) من أجل تبديل مواقعهم. وكما هو الوعد المقطوع سعودياً في العراق بتقديم ميزانية سخيّة لكل من يتكفّل إطاحة حكومة المالكي في العراق، وإعادة عقارب الساعة الى الوراء، فإن وعداً مماثلاً قطعه الأمراء على أنفسهم بتخصيص موازنة سخية من أجل تعزيز وحماية نفوذ السعودية في لبنان، وقطع السبيل أمام خصومها من أجل كسب المعركة. وحسب مسؤول سعودي، فإننا خسرناً نفوذنا في العراق لحساب إيران، ولكن لن نسمح بأن يكون عليه ذات الحال في لبنان. الإصرار السعودي يلقى قبولاً بل دعماً لا محدود من قبل أطراف لبنانية ترى فيه مصدر ثراء قد لا يتكرر، فقد اعتاد هؤلاء على توفير خدمات سياسية (وغير سياسية!) مقابل الحصول على (المال السعودي).

ما يظهر بوضوح في الوقت الراهن، أن الدور السعودي في لبنان لم يعد يستتر خلف واجهات محلية، فقد انتقل إلى مرحلة متقدّمة، يزاول فيها السياسة من حيث المعاقل الرئيسية لحليفه التقليدي المتمثل في تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، فهناك تبدو المملكة السعودية حاضرة بكامل رمزيتها وأجهزتها بدءً من العلم وصور الملك عبد الله وشعاراتها، وأكثر من ذلك، جهازها الاستخباري جنباً الى جنب أجهزة إستخباراتية أردنية ومصرية وأميركية.. أجهزة الدولة اللبنانية بما فيها الأجهزة الأمنية باتت مكشوفة سعودياً، وأن الأميرين بندر بن سلطان ومقرن بن عبد العزيز يديران الدولة السعودية في لبنان. المليشيات تحت غطاء شركات أمنية في وسط بيروت الغربية تعمل بأموال سعودية. قيل بأن جهاز الأمن اللبناني الخاضع للسلطة اللبنانية بحاجة الى 45 مليون دولار شهرياً، فيما لا يتوفر سوى 15 مليون دولار من قبل المال العام، تتكفل السعودية بتوفير 30 مليون دولار. إن جهازاً يخضع تحت إشراف الأمير بندر بن سلطان لا شك أنه منكشف على الأميركي والإسرائيلي.

زيادة حجم المال السعودي في لبنان ليست بادية في مشاريع الإعمار ولا التنمية..وباستثناء المبالغ الضئيلة التي دفعت لتسديد رسوم المدارس (بما فيها المدارس الحكومية)، فإن معظم الأموال يتم تخصيصه للإنفاق على مشاريع أمنية وتجهيزات عسكرية لمليشيات جنبلاط وجعجع والحريري. مصادر سياسية في الشمال اللبناني نقلت بأن السعودية خصّصت مبالغ طائلة في منطقة (عكّار) من أجل تجنيد عناصر للإنضمام لتشكيلات ميليشياوية يتم تجهيزها لعمليات في مناطق أخرى تحت ستار (الدفاع عن أهل السنة) في وجه الخطر الشيعي المتمثل في حزب الله. هذه المصادر أعربت عن خطورة المال السعودي بتوجيهه العقائدي، الذي يحاول حذف (إسرائيل) من قائمة الأعداء، وفبركة عداوة بديلة تلبي رغبة الأميركيين والإسرائيليين وبعض المتطيّفين في بلادها. وبحسب مصدر سوري رسمي فإن القدرة المالية السعودية تجعل من الحديث عن نفوذ سوري في الشمال اللبناني وفي منطقة عكّار حصرياً مجرد لغو، فماكينة الصرف الآلي في هذه المناطق تعمل بلا انقطاع، الى درجة أنه بات شائعاً أن شراء أي عنصر يتم بمبلغ (100) دولار شهرياً، إستغلالاً رخيصاً للأوضاع المعيشية الصعبة وهو ما تقوم به السعودية في هذه المناطق، حيث يتم إعداد قوائم بأسماء العوائل العكّارية والطرابلسية بصورة عامة من أجل إدراجها في نظام الدفع الشهري.

في الدولة السعودية في لبنان، يصبح كل شيء خاضعاً للبيع والشراء، وهناك من السماسرة الكبار والصغار الذين يجوبون المناطق اللبنانية بحثاً عن أفراد أو ذوات بمستويات متعددة من أجل الإنضمام الى نظام (البيه رول) السعودي، مقابل تقديم خدمات أمنية وسياسية وإعلامية وترفيهية. في هذه الدولة أيضاً، في حال انتقال الحرب الأهلية الباردة الى مرحلة السخونة، سيكون للسلاح المموّل سعودياً حضور كثيف، تماماً بمثل حضوره في معارك نهر البارد.

ما يلفت في الدولة السعودية في لبنان أن مشروعيتها ومشروعها متوقفان على المال وحده، وهو وحده الذي يأخذ بألباب وألسنة وأفئدة بعض من فريق 14 آذار، الأمر الذي يدفع بأقطابه للإنقلاب على تاريخه النضالي، وأناقته القومية، وتجاربه الاستقلالية. يستمد المال السعودي مشروعيته لبنانياً من ذريعة العداوة لسوريا، فالكراهية تغسل رجس المال السعودي. بل والأخطر في هذا المال، أنه مصدر توتير للأوضاع الأمنية الداخلية، يزيده وبالاً رفض السعودية أية مبادرة تهدئة، أو حوار، أو تسوية، فالرفض لأية حل بات سعودياً. وفيما تحوّل رئيس مجلس النواب الى طبّاخ ينفّس (قدر الضغط) اللبناني للحيولة دون انفجار الوضع الأمني، تقوم السعودية وحلفاؤها في لبنان بإفشال دور بري والسير بالأوضاع الأمنية الى مرحلة التصادم. وحتى بعد انفجار الوضع الأمني، وانطلاق مبادرات التسوية محلياً وعربياً واجه تعويقاً سعودياً، حيث أبلغت السعودية رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة بأن يتمسك بموقفه من قراري إحالة رئيس أمن مطار بيروت العميد وفيق شقير وشبكة إتصالات حزب الله، بعد أن قرر قبل يوم من ذلك إسقاط القرارين عبر إحالتهما الى قيادة الجيش.

إذن السخاء السعودي ليس بريئاً، ويخشى أن يكون مصيره كأشكال السخاء السابقة التي تنتهي إلى خسارة، خصوصاً وأن من يحصدون المال لا يجلبون لها سوى الريح، وهو ما ظهر في أزمنة المحنة التي عاشتها السعودية سواء في حرب الخليج الثانية أو بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أي حين يتوقف المال عن الوصول الى أيدٍ لا تقبل سداد الموقف السياسي إلا نقداً.

الملفت أن الدولة السعودية حاضرة بأموالها في المناطق الخاضعة لتيار المستقبل، ولكنها بالتأكيد عاجزة عن الحضور في مناطق أخرى خاضعة تحت سيطرة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أو حتى في المناطق المسيحية. وفيما عجزت الدولة السعودية على تحقيق إختراق في الطائفة الشيعية، بالرغم من سعيها الحثيث لتحقيق إختراق من أي نوع. وبحسب شخصية شيعية بارزة فإن السعودية تبحث عن أي رمز شيعي يعلن تمرده على المعادلة الشيعية القائمة كيما تفتح أمامه أبواب الخزينة السعودية.

بالنسبة للوضع المسيحي، فإن المال السعودي يصل الى قيادات تنتمي الى فريق 14 آذار، وخصوصاً زعيم حزب الكتائب أمين الجميل وقائد (القوات اللبنانية) سمير جعجع. هناك من الأقطاب المسيحية في فريق الموالاة من يرفض بشدّة إختراق سعودي عبر تيار (المستقبل) للمناطق المسيحية، خصوصاً في بلد مثل لبنان حيث الجغرافية الطائفية تمثّل عنصراً بالغ الحساسية والتعقيد، ولا يجوز في منطق الأحزاب والطوائف إقحامه في لعبة التحالفات. صحيح أن سمير جعجع، من بين قيادات مسيحية قليلة، من شقّ قنوات مباشرة مع السعوديين، بالرغم من فترات تصادم معهم في وقت سابق، خصوصاً حين قال بأنه ليس بحاجة للتواصل معهم فهو يتواصل مع أسيادهم، أي الأميركيين. الا أن القنوات التمويلية مشروطة بعدم فتح الجغرافية المسيحية أمام (تيار المستقبل)، مع أن قيادة الأخير تقدّم نفسها كعابرة للطوائف داخل فريق 14 آذار.

يغطي المال السعودي مساحة كبيرة مسيحية في مناطق خاضعة لأقطاب فريق الموالاة بهدف تطويق الرمز المسيحي الأبرز ميشيل عون، صاحب القاعدة الشعبية المسيحية الأكبر، الذي بقي متمسكاً بموقفه المعارض لأية تسويات تأتي على حساب مطالب المعارضة وحقوق الطائفة المسيحية. محاولات تكسير (التيار الوطني الحر) بقيادة عون باءت حتى الآن بالفشل، ولم يحقق المال السعودي إختراقاً لافتاً بالرغم من خروج ميشيل المر من بين صفوفه، ومحاولات توريط التيار في قضايا جانبية تفقده شعبيته، وكان الرهان الرئيسي لدى السعوديين وحلفائهم قائماً على إسقاط خيار ترشيح عون لرئاسة الجمهورية وتصعيد خيار ميشيل سليمان قائد الجيش لمناكفة المعارضة في حلبة الرئاسة لم يؤد إلى الإضرار بقاعدته الشعبية، بل أن الوقت قد يأتي بعودة خيار ميشيل عون كمرشح أساسي للمعارضة بعد نفاد وقت إستهلاك ورقة (قائد الجيش) في حلبة التجاذبات السياسية، خصوصاً وقد شعر بأن إسمه دخل في بازار سياسي قد يؤدي الى ابتذاله وتعريض سمعة الجيش بوصفه رمزاً للوحدة الوطنية.

على أية حال، فإن محاصرة (التيار الوطني الحر) بقيادة عون عبر المال السعودي لم يحقق نتائج حقيقية على الأرض، بالرغم من حراجة الأوضاع المعيشية والإقتصادية ما يعتبر مدخلاً نموذجياً للسعوديين من أجل شراء الذمم السياسية، وضرب التيار الوطني الحر، إلا أن ما لا يدركه السعوديون بأنهم لم يعد ينظر إليهم بوصفهم طرفاً نزيهاً، فهم في نظر التيار وقاعدته وجه آخر لسوريا في لبنان، وما رفضه التيار في زمن الوصاية السورية سيرفضه أيضاً في زمن الوصاية السعودية. قد يقبل المسيحيون المحسوبون على التيار الوطني الحر مساعدات مالية وإنسانية من أي طرف آخر محلي أو إقليمي أو حتى دولي ما لم يكن مالاً مشروطاً بتسديد فاتورة سياسية، ومن يراهن على غير ذلك، فليجرّب مع الجنرال أولاً.

صحيح أن ميشيل المر الذي فصل نفسه عن كتلة التغيير والإصلاح، وقرر تشكيل عصبية مسيحية خاصة به، يخوض معركة السباق على المال السعودي أسوة ببقية أقطاب الموالاة، إلا أنه يدرك بأن هامش المناورة الذي يملكه في اللعب في مساحة الوجود العوني يبدو محدوداً خصوصاً وأن توقعات بخروجه عن الكتلة سبقت قرار تنفيذه بفترة طويلة، ما جعل العونيين في حالة استعداد لتبعات قرار من هذا القبيل، وما إعلان العونيين عن انضمام نوّاب جدد من الموالاة الى صفوف التيار سوى أحد الخطوات الإحترازية.

السعودية لم تربح دولتها في لبنان، ومنذ السابع من مايو باتت هذه الدولة عرضة للزوال للأبد، وحتى إن قدر لها البقاء فإنها ستبقى غير مقبولة، بعد أن خسر حلفاؤها ـ رهاناتها على الأرض.

مكمن الخطأ الإستراتيجي السعودي في لبنان يعكسه قطعها التام لكل صلاتها مع الأقطاب السياسية الفاعلة في لبنان، وحتى رئيس مجلس النواب الذي كان يمكن أن تفيد منه لأية تسويات داخلية، قررت الإنقلاب عليه، وجعلت منه خصماً، منذ قررت عدم إستقباله في بلادها من أجل التشاور معه بشان مبادرته الحوارية. صحيفة (الأخبار) اللبنانية نقلت في 24 أبريل الماضي عن دبلوماسي عربي خدم في السعودية في سياق تعليقه على قرار الرياض عدم تحديد موعد للرئيس نبيه بري قوله: إن الرياض دخلت عهداً جديداً من الدبلوماسية الصدامية التي تفرض عليها حسابات لم تكن موجودة سابقاً. ويعزو الدبلوماسي الأمر الى تغييرات بدأت بطيئة منذ حوادث 11 أيلول، وتعاظمت بعد غزو العراق، وبدت ملامحها قاسية في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ويعتقد هذا الدبلوماسي، حسب الصحيفة، بأن المشكلة السورية ـ السعودية القائمة الآن، مرشحة للتفاقم ما لم تحصل السعودية على تطمينات بشأن مستقبل نفوذها السياسي في لبنان، قائلاً: إن الرياض إكتشفت، بعد مرور ثلاث سنوات على اغتيال الحريري، أن من قام بهذا الأمر، استهدفها هي قبل أي أمر آخر، وأن القدرة على إنتاج دينامية بديلة من الحريري ليست متاحة في كل وقت. بل إن تجربة فريق 14 آذار وتجربة النائب سعد الحريري تركت إنطباعات سلبية لدى القيادة السعودية، ما دفعها إلى تولّي الكثير من الأمور بنفسها.

ويلفت الدبلوماسي في هذا المجال، ودائماً بحسب الصحيفة، إلى أنه منذ تولّى الحريري الأب ملف لبنان بداية التسعينيات من القرن الماضي، لم يعد في الرياض من يعيش القلق إزاء أمور كثيرة تخص لبنان، وحتى سوريا، وأن السعودية غامرت بعدد من علاقاتها اللبنانية التقليدية لأنها كانت مقتنعة بأن حصر الأمور بالحريري أو من خلاله، أتاح لها تنظيم الأمور بصورة أفضل. ولكن ما جرى الآن هو أن السعودية باتت مضطرة للدخول يومياً في تفاصيل الفريق الحليف لها، سواء داخل تيار (المستقبل)، أو الجماعات الإسلامية القريبة منها، أو حتى مع بقية القوى الحليفة لها.

ويكشف أن برنامج الدعم المالي السعودي في لبنان بات يشهد لامركزية تجاوزتها الرياض بعد بروز نجم الحريري بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهي باتت الآن مضطرة للتعامل مع الجميع بالجملة وبالمفرّق. حتى إن قوى لبنانية من فريق 14 آذار، مثل الحزب التقدمي الاشتراكي و(القوات اللبنانية) وشخصيات من هذا الفريق لها حضورها ودورها السياسي أو الإعلامي، باتت متطلّبة إزاء العلاقات المباشرة، وأن لا يتم الأمر حصراً من خلال آل الحريري. حتى داخل الفريق نفسه، وجدت السعودية أنها مضطرة للتنقل بين الحريري الابن ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وحتى مع عدد من رجال الدين المحيطين بمفتي الجمهورية، بالإضافة إلى شخصيات أخرى.

ويقول الدبلوماسي إن المشكلة الإضافية الآن تكمن في وجود أكثر من مرجعية للمتابعة في السعودية. صحيح ـ برأيه ـ أن القرار موحّد وأن ما يصدر عن الملك يحسم أي جدال، ولكن الصحيح أيضاً ـ برأيه ـ أن هناك أكثر من جهة في السعودية تتابع تفاصيل الملف اللبناني، من الدوائر المحيطة بالملك ومجموعة رجال الأعمال الذين يملكون صلات قوية في لبنان، إلى وزارة الخارجية والجهاز الدبلوماسي العامل فيها، إلى أجهزة الأمن التي تدرس يومياً ملفات عدة تخص لبنان مباشرة أو تخص بلداناً لها تأثيرها في لبنان. يضاف إلى ذلك، أن كمية المشاورات الجارية مع جهات عربية وغربية بشأن لبنان تفرض تعديلات على جدول الأعمال. وبرأي الدبلوماسي نفسه، فإن التوتر الذي يبرز في الخطاب السعودي حيال لبنان، ينطلق من توترات قائمة مع آخرين مثل سوريا وإيران ومن ملفات أخرى مثل العراق وفلسطين.

وبحسب هذا الدبلوماسي، فإن أولوية الملف اللبناني وتعدد الجهات المتابعة يخلقان تناقضات في بعض التقارير بشأن المعطيات الحقيقية. ويكشف أنه حصل أن بعث الملك السعودي محتجاً إلى القيادة السورية بأنها لم تعد تملك إستقلالية، وأن إيران تدير كل الأمور، بما في ذلك العمل على حركة التشيّع في سوريا نفسها. ونقل موفد الملك السعودي إلى الرئيس السوري بشار الأسد أن لدى الملك معلومات عن تشييع نحو أربعة ملايين سوري خلال السنوات الأخيرة. وإذ جاء رد الأسد سريعاً وفيه الكثير من الاستغراب، فإن الدبلوماسي يعرض هذه الواقعة ليشير إلى أن عملية تضليل بهذا الحجم يتعرّض لها ملك السعودية من جانب عاملين معه، من شأنها أن تؤثر بقوة على موقفه وقراره، وإذا كانت العلاقات متوترة مع الطرف المعني (سوريا في هذه الحالة)، فإن رد الفعل يكون مولّداً لمزيد من التوترات، كاشفاً أن جهات نافذة في الأوساط الإسلامية تولّت تقديم توضيحات إلى السعودية عن الخطأ في هذه المعلومات. لكن أصل الأمر هو أن السعودية عبّرت عن امتعاضها من سياسات سورية استناداً إلى أمور من هذا النوع.

الأمر الآخر، باعتقاد الدبلوماسي العربي، يتصل بأن التوتر السعودي الذي يصل إلى حدود عدم استقبال ممثّل الطائفة الشيعية في لبنان، يدل على فقدان المملكة لميزة كانت تخصّها دون غيرها، وهي الصبر، دون أن يكون الأمر مستنداً إلى معطيات كافية لتبرير خطوة من هذا النوع، وخصوصاً أن أي تسوية في لبنان سوف تتطلب علاقة مع الشيعة ومع الرئيس بري تحديداً. ولكن ما الذي يدفع الرياض إلى خطوة من هذا النوع؟ يسأل الدبلوماسي ويجيب: إنه الشعور بأن مصالح النظام السعودي معرّضة للخطر في لبنان، وإن الأمر قد لا يتوقف عند هذه الحدود، وخصوصاً إذا استمر تنامي الدور الإيراني والسوري في العراق وفلسطين، فإن السعودية سوف تجد نفسها في مواجهة دول الخليج من حولها، وهي تعبّر عن طريق (فلتات لسان بعض دبلوماسييها) عن مخاوف من انتقال الضغط إلى داخل السعودية نفسها.

ولذلك، فإن الدبلوماسي نفسه يعتقد بأن أسباب التوتر الذي يعيشه فريق 14 آذار في لبنان لم يعد محلّياً فقط، ولم يعد متصلاً فقط بالرغبة الأميركية في عدم فتح حوار مع سوريا وإيران، بل يتصل أيضاً بحسابات سعودية جديدة على الآخرين التأقلم معها كأمر واقع، بمعزل عن موقفهم منها سلباً أو إيجاباً. وهو الأمر الذي قد يطول لبعض الوقت. لكن المشكلة أنه ينعكس سلباً على الواقع اللبناني الداخلي، لأنه يتجاوز حدوده السياسية مع دول تمثّل مركز الثقل في العالم الإسلامي.

إذاً هكذا هي صورة السعودية في لبنان، تنزع نحو قطع تام للروابط مع القوى السياسية الأخرى غير الحليفة، وتستند في الغالب على معلومات مغلوطة تذكّر بمعلومات مماثلة كانت تحصل عليها من أطراف عراقية معارضة للحكم القائم. وفيما يبدو حلفاء الرياض قادرين على تقديم معلومات مضللة للسعودية من أجل الحفاظ على قنوات التمويل.

الصفحة السابقة