لم يستسلموا وسيقاتلون فرادى!

لبنان الى حرب طائفية يشعلها السعوديون

سـعد الـشـريف

تلقّى السعوديون ـ ونقصد النظام والطبقة الحاكمة وحاشيتها المذهبية الوهابية كما قاعدتها الإجتماعية النجدية ـ صفعة مؤلمة في لبنان. فهم ابتداءً اعتبروا أن لبنان (ملكاً) لهم، ومسرحاً يلقون فيه جهالاتهم وفسادهم المالي والسياسي وحتى الأخلاقي كما تطرفهم الديني. وهم ثانياً، اختلقوا لأنفسهم حقاً مدّعى يفوق حقّ مجاميع سكانية لبنانية، وهذا من مستغربات الأمور، أن يدّعي وهابي نجدي مسعود حقاً في لبنان يفوق حقّ مواطنين لبنانيين يرى أنهم لا حقّ لهم حتى بالبقاء في وطنهم، بل يجب ـ كما يروج لذلك في بعض وسائل الإعلام السعودية ومنتديات الوهابية ـ أن يرحلوا عن لبنان الى حيث من يوالون (خارج الحدود) أي الى دمشق أو طهران. أما من يوالي السعودية، وأميركا، فله حقّ البقاء! وبهذا أعطى السعوديون الوهابيون أنفسهم حقاً أكبر من الوصاية على لبنان، الى حدّ اعتبروا أنفسهم أنهم هم لا غيرهم من يحدد من هو المواطن اللبناني، وما هي حقوقه.

وثالثاً، فإن السعوديين طوّروا وهمهم بشأن تملّكهم للبنان في مرحلة ما بعد الطائف، خاصة بعد وصول الحريري الأب الى رئاسة الوزراء. وكان تطوير هذا الوهم مرتكزاً في الأساس على ادعاء يقول بأن حقوقهم المتضخمة في لبنان تعود الى جهدهم المحض، فهم الواهب وهم المقرّر والسيّد، وقد اعتبر السعوديون مقتل الحريري الذي اتهموا سوريا بأنها وراءه، تعديّاً على حقّهم الخاص، وتصوروا ـ بسبب تضخّم الذات السعودية وانتفاخها المتورّم والذي نشهده في معظم الممارسات السياسية السعودية حتى في الداخل السعودي نفسه ـ أنهم يستطيعون بالتعاون مع أميركا وفرنسا وحتى مع إسرائيل، إفهام من يجب إفهامه بأنهم من يقرّر في لبنان وأن كلمتهم هي الأعلى.

هذا الشعور المغالى فيه المترادف مع الجهل السياسي، وضع السعوديين في مواجهة قوى كان دعمها أو صمتها يمثلان حماية للنفوذ السعودي في لبنان. فالنفوذ السعودي هناك لم يكن ليتم لولا الغطاء السوري نفسه الذي أنجح اتفاق الطائف وجاء بالحريري الأب زعيماً لا يجارى. وكان الإصطدام الحادّ مع سوريا قد حوّل السعودية من دولة متفق عليها وعلى دورها، الى دولة منحازة، لا تملك القوّة لتحل محل النفوذ السوري المنسحب من لبنان.

وجاءت المرحلة الثانية للتخبّط السعودي، حين وقفت ضد حزب الله وهو يخوض حربه الدفاعية ضد إسرائيل في تموز 2006، فكان أن خسرت بشكل نهائي أية تعاطف من قبل (أكبر) جماعة دينية سكانية في لبنان، يتوقع لها أن تصوغ ـ بسبب ضخامة حجمها وفعاليتها ـ مستقبل لبنان. وحين تصنّف السعودية اللبنانيين المسلمين مذهبياً، فإنها تثبت المرة تلو الأخرى جهلها ليس فقط بقواعد اللعبة السياسية اللبنانية، بل وجهلها المكرر بتوازنات القوى، وأن أية معركة على هذه القاعدة المذهبية ليست في صالحها لا على الصعيد اللبناني ولا على الصعيد المحلي السعودي نفسه.

وخطت السعودية الخطوة الثالثة وهي التي أعقبت اتفاق الدوحة الأخير، فرغم عدم تثمير انتصار المعارضة على الأرض سياسياً إلا بشكل جزئي جداً، فإن السعودية رأت في (الدوحة) اتفاقاً (مؤقتاً) وروجت لهذه المقولة كثيراً، لأنها ليس فقط تتوقع بأن هناك حرباً قادمة بين الشيعة والسنّة، بل لأنها بالفعل تعمل على إشعالها، وإنضاج مبرراتها، وتسليح وهابييها في الشمال. ولنا أن ندرك أنه بالرغم من أن دولاً عديدة إقليمية ودولية رأت في أحداث السيطرة على بيروت مرحلة جديدة يجب التعايش مع ما بعدها، كما هو حاصل مع فرنسا والى حد ما مصر، فإن السعودية ترى أن (معركة بيروت) لم تنته، وأن اتفاق الدوحة يجب أن يموت بالضربة (الطائفية).

السعودية لن تتراجع فيما يبدو، فقد صدّقوا أن لبنان كان (وليدهم) وأنه اختطف منهم من قبل (الروافض) وسوريا!

في مثل هذه الحالات ما عسى أن تفعل السعودية؟

هل تقبل بالأمر الواقع (نصف هزيمة لنفوذها) وتعيد حساباتها السياسية وتراجع مواقفها وتعيد تشكيل علاقاتها مع الأطراف اللبنانية فتتجاوز أخطاء الماضي، لتقوم بهجمة سياسية جديدة، بنَفَس جديد، يحفظ لها ما تبقى من أصدقاء، ويسعى لكسب أصدقاء جدد، او إعادة من استعدتهم الى دائرة الحياد؟

ليس هكذا يفكر السعوديون، فلديهم (أطنان) من الرعونة السياسية، وأحمال كبيرة من الغطرسة السياسية التي لا تنفد!

مادتان تعتمدهما السعودية في كل سياساتها، أصابهما الكثير من العطب، تعيد انتاجهما من جديد وفق الرؤية السياسية القديمة، ما يجعلهما غير قادرين على شيء سوى جرّ لبنان الى حرب أهلية.

المادة الأولى، وهي المال، حيث لم تعد السعودية وحدها القادرة على الإنفاق في لبنان. هناك أيضاً إيران. فهذه الأخيرة تنفق على حلفائها، وحلفاؤها ينفقون على حلفائهم. وهو ما تفعله السعودية نفسها، وبالتالي فإن المال لم يخرج عن الإطار الحديدي الذي سُجن فيه، أي لم يتحول أو لم ينجح السعوديون في استخدامه في كسب (حلفاء جدد) أو تحويل آخرين من العداء الى (الحياد) على نحو يغيّر من موازين القوى القائمة اليوم بين الموالاة والمعارضة. بمعنى آخر، إن للمال السعودي حدوداً في التأثير على السياسة اللبنانية، حتى وإن كان الإنفاق كبيراً ومبالغ فيه، فالمال لا يصنع الرجال المقاتلين، كما لا يصنع معادلات سياسية جديدة فيما يبدو. بل أنه يمكن القول بأن الإيرانيين أكثر قدرة على المناورة بما لديهم من مال في جذب عناصر جديدة مخالفة للسياسة السعودية، مما يمكن أن تفعله السعودية نفسها.

المادة الثانية، وهي الدين، وهي مادة متآكلة لكثرة استخدامها من قبل السعوديين لشرعنة أوضاع وسياسات سيئة يقوم بها النظام السعودي نفسه. الدين السعودي (الوهابي) خسر كثيراً من ألقه من جهتين: الأولى بسبب ارتباطه بالدم والعنف والقتل الأعمى مترافقاً مع الجهل السياسي المركب، الأمر الذي أدّى الى فقدانه مصداقيته الدينية والسياسية معاً، كما في العراق، ونهر البارد، والجزائر وغيرها. والثانية تعود الى التصاق الدين الوهابي بممارسات العائلة المالكة السعودية الممالئة للغرب وإسرائيل فأصبح ذلك الإلتصاق مسبّة وعار، وفسّر بأن الوهابية ما هي إلا مخلب بيد المفسدين من آل سعود ومن ثم بيد الغربيين لضرب الفئات المقاومة في الأمّة.

والدين الوهابي الذي يراد استخدامه اليوم في لبنان غير فاعل. فالوهابية تمثل أقليّة في الشمال اللبناني (عكار وطرابلس). والإنسان اللبناني السنّي ميّال الى شيء آخر غير الوهابية، وقد يكون مهتماً بوضعه المعاشي أكثر من غيره. ولكن يمكن للوهابية أن تجيّش لها من الداخل اللبناني والفلسطيني في المخيمات، كما من الخارج (من السعودية نفسها) حيث يأتيها مقاتلون من هناك كما فعلوا في نهر البارد.. لكن هذا التجييش لا يمكنه مجابهة أكثرية اللبنانيين سنّة وشيعة ودروز فضلاً عن موقف المسيحيين.

والقوة التي تريد السعودية تجييشها وتهيئتها اليوم لمواجهة حزب الله، بعد أن خربت الطبخة السابقة في نهر البارد، هي قوّة مجنونة، لا يستثيرها شيء قدرما يستثيرها الحسّ الطائفي. ولما كان المستهدف هو الشيعة وبالتحديد (حزب الله) فإن الوهابية القادمة الى لبنان بزخم ما بعد هزيمة السعودية في الدوحة، لا يستطيع أحدٌ أن يضبطها، كما ثبت بالتجربة في العراق. بحيث ستتورط الوهابية مرة أخرى في صراع مع الدولة اللبنانية وقواها العسكرية والأمنية، وستتورط مع القوى السنيّة المخالفة لها، وستتورّط في صراع مع المسيحيين كما مع الشيعة وإن كان يتوقع نصيب الأخيرين من دموية الوهابية كبيراً.

ماذا تريد السعودية بالتحديد؟ وكيف ستقضي على حزب الله؟ أو كيف تريد إشعال الفتنة الطائفية؟ وهل تعتقد أنها ستربح من ذلك؟ وما هو مصير الوجود السعودي نفسه في لبنان؟ بل ما هو مصير السنّة أنفسهم إن امتدّت الحرب الطائفية ـ لا قدّر الله ـ الى كل المناطق؟

لا يهم السعوديين الإجابة على هذه الأسئلة، فهم ـ كما كان في العراق ـ يهمهم بالأساس تخريب الوضع. بصريح العبارة، لا يهمّ السعوديين أن يكسبوا في الحرب الطائفية المخطط لها في لبنان بقدر ما يهمهم جعل الآخر ـ حزب الله ـ يدفع ثمناً، ويخسر ماء وجهه في حرب أهلية يراد جرّه إليها رغم أنفه، ومن ثم تشكيل سوار مذهبي حول إيران، وسوار سياسي حول سوريا وحماس.

ليكن السنّة حطب هذه الحرب، وهذه ليست المرة الأولى التي يلعب بها السعوديون سياسياً يكون ضحية فعلهم في ذلك مواطنون سنّة سواء كانوا في العراق أو لبنان أو حتى في الصين!

المشكلة الحقيقية التي تواجه السعودية هي أن الحرب الطائفية قد لا تقع وإن خططوا لها وموّلوها. فالسنّة لا يريدون الحرب، ولا يوجد أحدٌ تواق اليها سوى السلفيين/ الوهابيين. وهؤلاء لا أفق لهم بالنجاح حتى مع إشعال الحرب، والمتضرر الأساس لن يكون حزب الله بقدر ما هم السنّة أنفسهم، وبالتحديد تيار المستقبل الذي انخرط هو الآخر في اللعبة ولازال إعلامه يشحن الأجواء طائفياً.

الشيء المتوقع من هذه الحرب الطائفية الكريهة، هو إضعاف سنّة لبنان سياسياً والى عقود طويلة في المستقبل.

من جهة ثانية لا يتوقع أن يشارك السعوديين في حربهم الطائفية التي يريدونها على نحو كوني، أو على الأقل عربي، أو على الأقل مشرقي!.. لا يشاركهم فيها أحدٌ من حلفائهم.

فلا الأردن الذي يعيش عالة على جيرانه قادر على المساعدة في هذه الحرب، وإن كان ضالعاً فيها، خاصة وأنه يعتمد على الكثير من نفطه شبه المجاني على العراق.

ولا مصر يمكن أن تخوض هكذا حرب طائفية هي غير معنية في الأساس بها، وهي قد حاولت أثناء زيارة مبارك للرياض في بداية الشهر الجاري أن تعيد مع السعوديين قراءة خارطة الأوضاع في المنطقة، وهي تميل الى تغيير سياستها.

وأما الضلع الآخر في الإعتدال العربي، فهو محمود عباس الذي اكتشف أنه لا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية بنهاية هذا العام، ولا الأعوام القادمة، وأن أبسط مطالبه قد تم تجاوزها. ولذا وجد نفسه خاسراً سياسياً، فحاول ترقيع تلك الخسارة عبر إعادة الحياة للحوار الذي كان يرفضه مع حماس.

بقيت دول الخليج، فمن فيها يريد معركة طائفية، كما يشجّع على ذلك السعوديون علناً وبوقاحة متناهية في صحافتهم، بحيث يعتبرون كل شيعة الخليج هدفاً للحرب. لا يوجد أحدٌ يريد الحرب، فلا البحرين في هذا الإتجاه، وليست قادرة عليه لأن معظم شعبها من الشيعة، ومن الحماقة بمكان أن تقوم حرب على أكثرية السكان؛ ولا الكويت ـ الديمقراطية رغم هوجة السلفية بعيد مقتل عماد مغنية بوارد المواجهة المفتوحة طائفياً وثلث شعبها من الشيعة، وشمالها العراق الشيعي، وشرقها إيران، ثم لا مصلحة من هكذا حرب أصلاً.

هنا يبقى أمرٌ واحدٌ، وهو أن السعودية نفسها لا تريد أن تتمدد الحرب الطائفية الى حريمها. وهذا غريب جداً. فمن يدعو الى حرب طائفية مفتوحة، يخشى من تحول آثارها الى أراضيه نفسها، وبينها السعودية. هذه الأخيرة، رغم أنها لا تشعر بالقلق من مواطنيها الشيعة فيما يبدو، إلا أن حربا طائفية مستعرة قد تفجّر لها مشاكل وربما عنف أيضاً.

أياً كانت الأحوال.. ستبقى السعودية وحيدة في معركتها الطائفية، وستتلظى بنارها هي ومن يقبل بمشاركته فيها. ومن المؤسف حقاً أن بلداً فاشلاً في السياسة والإدارة والإقتصاد والخدمات مثل السعودية، لا يجد مشجباً يعلق عليه إخفاقاته المتكررة، إلا استحمار مزيد من قطعان الوهابية في معاركه السياسية الفاشلة.

بلد كل مخزونه الإستراتيجي مجموعة من المتطرفين العميان، لا يستثيرهم شيء من مشاكل الأمة عدا، وجود بشر ينتمون الى التشيّع يتمتعون بالحياة، وبالتالي يجب إفقادهم إيّاها!

الصفحة السابقة