الدولة الشاملة

في استقباله عدد من قيادات الحزب الشيوعي في السعودية والعائدين من المنفى الإختياري والتي تحوّل لاحقاً إلى قسري، أفشى ولي العهد والملك الحالي عبد الله سراً لهم بأن الصحافة الأميركية تصفه بالأمير الأحمر، وأنه شيوعي مخضرم. قال ذلك ليس من باب الملاطفة فحسب وتطبيع وضع العائدين إلى الديار، ولكن يقولها أحياناً على سبيل الإقتناع. هو ذاته أيضاً الذي قال بأنه يمارس النقد الذاتي بقسوة بالغة منذ صغره، وكأنه أراد المزايدة على أعضاء مجلس الشورى في ممارسة الرقابة والنقد والمحاسبة لسياسات الحكومة، ولا ننسى أيضاً بأنه، وليس أحد سواه، من خاطب رموز الإصلاح حين زاروه في قصره في يناير 2003 وقدّموا له عريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) فقال لهم (رؤيتكم هي رؤيتي)، فكانت رؤيته حفظه الله قد تبخّرت في 15 مارس 2004 حين أقدمت وزارة الداخلية على اعتقال الإصلاحيين.

وفيما يبدو، فقد جبل الأمراء على تقمّص الأدوار جميعاً حتى لا يقال عنهم بأنهم يعيشون في أبراج عاجية، ولا يصيبهم ما يصيب رعاياهم من فقر، وبطالة، وحمارة القيض وصبّارة القر، وألم المبيت على حسك السعدان، وضنك العيش، فهم يأكلون مما يأكل منهم الجائعون، ويلبسون مما يلبس منهم الحفاة العراة المعدمون. فقد فازوا بالحسنات كلها.. حكاماً، إن أردتهم، فقد شهد لهم مبدأ (ملك الآباء والأجداد) على أن الملك بدأ بهم وبه يختتم، ومعارضين، إن شئت أن تراهم، فقد امتطوا صهوة النضال منذ نعومة أظفارهم..وكان الأمير طلال بن عبد العزيز المعارض الناعم، والعضو السابق في حركة (الأمراء الأحرار)، غيفارا العائلة المالكة، وفي سبتمبر 2007 كان الأمير كشف عن نيّة هزيلة بتأسيس حزب سياسي، ما لبث أن طواها سريعاً بعد أن تمت تسوية مشكلته الشخصية داخل العائلة المالكة. نتذكر في هذا الصدد كيف خرج علينا أمير من جنيف قبل سنوات للإنضمام الى صفوف المعارضة، ولكن أبت العائلة المالكة إلى أن تعيده بعد أن غرزت في جسده (إبرة مخدّر) وجيء به مخفوراً على متن طائرة خاصة، بالرغم من أنه لم يحمل راية المعارضة إلا من أجل تحسين شروط التفاوض على حصّته في الحكم.

الأمراء يمارسون الحكم والمعارضة في آن واحد، حتى لا يقال بأن الدولة تقصّر في شيء مما يخص شؤون البلاد والعباد. ومن الملفت أن تقمّص الأدوار متوقف على الحالة السائدة، فإذا كانت هناك مثلاً مشكلة البطالة وجدت من الأمراء من يتحدث عن معاناته في الحصول على وظيفة. خذ إليك مثلاً ما جاء في برنامج (إضاءات) الذي يقدّمه المذيع تركي الدخيل في قناة (العربية) السعودية في مقابلة مع الأمير محمد عبد الله الفيصل في 25 يناير الماضي حيث قال بالنص: لما إحنا تخرّجنا كان الملك الفيصل وحفيد الملك فيصل صدقني رحنا لوزارات واعتذروا ما كان عندهم وظائف ما وظفونا.. وزارة المالية قال ما فيه وظايف، رحنا لوزارة التجارة وقال ما فيه وظائف، وبعدين يالله في آخر المطاف كان عندنا خيارين ما بين الخطوط وبين مؤسسة النقد هم اللي فعلاً قبلوا بنا وكانوا يبغونا ورحنا المؤسسة النقد..وعلّق بالقول: يعني حفيد الملك فيصل ما كان لاقي وظيفة..

وإذا طرحت مشكلة الأجور المتدنيّة في ظل غلاء المعيشة وجدت من الأمراء من يتلو عليك تراجيديا في هذا الشأن. وخذ إليك مثالاً أيضاً، في البرنامج نفسه بتاريخ 16 مايو الماضي، كانت (إضاءات) مع رئيس الاستخبارات العامة السابق الأمير تركي الفيصل، حيث آثرت قناة (العربية) أن تمارس الرقابة على النص المكتوب، ولابد أن الرقيب قد تنبّه إلى مرور بعض المزاعم على الشاشة صوتاً وصورة فقرر إزالتها نصاً مكتوباً حتى لا يقال فيها ما يقال في الأساطير. على أية حال، ما قاله الأمير على الشاشة يتلخّص في أن راتبه في عهد أبيه لم يتجاوز 300 دولار فقط لا غير، وأنه كان (يناضل) للحصول على سيارة خاصة، ولم يفلح في تحقيق حلمه إلا بعد جهد إستثنائي تخلله الكثير من العناء.

وإذا أثار المبتلون بالبناء أزمة الحديد، وجدت من الأمراء من يبلسم جراحك بما لا يخطر على بال أحد. خذ إليك مثلاً ماقاله رئيس مجلس إدارة سابك الأمير سعود بن عبدالله آل سعود، لصحيفة عكاظ في 26 مايو الماضي وممّا قاله أن: منزله الذي يقوم ببنائه حالياً أخبروه بتوقف عملية الإنشاءات فيه حالياً لأنه لم يتم العثور على حديد منذ 40 يوما، مما يؤكد أن المشكلة يعاني منها الجميع.

اللافت أيضاً، أن حتى التطرف الديني لم يقصّر الأمراء في تسجيل حضور فيه، وقد برز في السنتين الأخيرتين من نافس الشيوخ المتشدّدين وزاد عليهم غلوّاً وتشدداً. وفي سنة 1965 قاد الأمير خالد بن مساعد حملة احتجاج أمام مبنى التلفزيون باعتباره من (البدع المنكرة)، ولقى حتفه بأمر من وزير الداخلية آنذاك ـ والملك فيما بعد ـ فهد بن عبد العزيز، وأخبر الأخير شقيق الضحية الأمير فيصل بن مساعد بأن الملك فيصل هو من حرّض على قتله، الأمر الذي دفع بالأمير بن مساعد وبتحريض من الملك فهد للإقدام على قتل الملك فيصل سنة 1975. والشيء بالشيء يذكر، أن الملك فهد سعى إلى تخليص الأمير فيصل بن مساعد من الإعدام وقالوا بأنه (مختل عقلياً) ما يمنحه حكماً بالبراءة، ولكنه لم يفلح فأعدم ولكن ليس بتهمة القتل العمد، رغم وجود تصوير تلفزيوني يثبت ذلك، ولكن بتهمة (الإفساد في الأرض). وفي هذه الأيام، هناك من الأمراء السلفيين المتشددين مثل الأمير خالد بن طلال بن عبد العزيز، والأمير سعود بن فهد وغيرهم ممن دخل في عالم التدريس الديني في جامعة الملك سعود، والكتابة الدينية في الصحافة السعودية..

خلاصة القول، أننا نعيش ضمن دولة شاملة يمارس فيها الأمراء كل الأدوار، حتى ليخيّل لمن يقرأ سيرتهم أنهم والشعب في إطار واحد، وقد قيل عن الملك فهد إفتتانه بعبارة: أن الحكومة والشعب في إطار واحد.

الصفحة السابقة