لماذا؟

فهد.. ملك الوهابية المفضـّل

محمد قستي

معظم مشاكل السعودية اليوم الداخلية والخارجية نشأت في عهد الملك فهد، وهناك شبه اتفاق بين الباحثين المحليين والأجانب على حقيقة أن عهده شهد انحطاطاً للدولة على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، فكان عهده بحق عهد خراب ودمار. وحتى اليوم لم تستفق المملكة من ذلك العهد وتبعاته. ومع هذا نجد أن فهداً لازال يحكم المملكة من قبره، فسياساته المدمرة مرغوبة لدى الأقلية النجدية الحاكمة، وهو الحاكم الأكثر شعبية لدى تلك الأقلية حتى من الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة، خاصة لدى مشايخ الوهابية ورجال المؤسسة الدينية الرسمية، بالرغم من أن المملكة لم يحكمها ملك متحلّل مثل فهد نفسه، فما هو السرّ؟

رحل وخلّف الدمار والفساد

ماذا حمل عهد فهد الى المملكة؟!

علينا ابتداءاً الإنتباه الى أن عهد فهد بدأ منذ مقتل الملك فيصل، الذي لازال غمضاً حتى الآن، وهناك الكثير من الأدلة تشير الى أن فهد نفسه كان ضالعاً في مقتله، وكان يرفض إعدام القاتل، لولا إصرار الملك خالد، الذي رفض التحرك من الرياض قبل أن يعدم الأمير القاتل فيصل بن مساعد. ولي العهد آنئذ، وهو فهد، جاء بقضاة وهابيين فاسدين، فبرّأوا القاتل من جريمته رغم تصويرها تلفزيونياً، ولم يعترفوا بالتصوير كدليل! ومع اصرار الملك خالد على موقفه، تمّ إعدام القاتل ـ كما هو معلن في بيان الحكم ـ لا بتهمة قتل الملك، ولكن بتهمة الإفساد والإلحاد!

المهم أن عهد فهد يمتد من تاريخ مقتل الملك فيصل في مارس 1975م، ولم يختلف وضعه كملك من الناحية الفعلية والسيطرة على الدولة حين تولى رسمياً كرسي الحكم عام 1982. أي أن حقبة الملك خالد كانت إسمية كما هو معروف، فقد كان يملك ولا يحكم، وكانت إدارة الدولة في جميع جوانبها بيد فهد وإخوته الأشقاء.

فيما يتعلق بموضوعات الإنحدار في السعودية هناك التالي:

على صعيد السياسة الخارجية، انحدرت مكانة المملكة بعد أن بلغت القمّة. والسبب هو التحوّل التدريجي في النهج السياسي الذي كان يقتفيه فيصل. فرغم أن الأخير كان صديقاً للغرب وللولايات المتحدة، ولكنه لم يكن مرتمياً في أحضان واشنطن كما كان فهد ومن جاء بعده. كان فيصل رغم اختلال العلاقة مع الغرب لصالح الأخير، يحاول الحفاظ على نقاط مركزية في السياسة الخارجية السعودية، وبينها موضوع فلسطين والقدس، وبينها الحفاظ على الإجماع العربي، وبينها الإستعداد للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل فيما إذا وقعت ولو بالنفط والمال، وهو ما حدث.

ما بعد فيصل، تغير الأمر، فلا النفط سلاح، وقد قيل أن سبب مقتل فيصل هو استخدام سلاح النفط. ولم يكن فهد متعلقاً بالموضوع الفلسطيني والقدس كما كان فيصل، ولا الإجماع العربي القائم على التفاهم في الحد الأدنى على سياسات إجماعية عربية له قيمة عند فهد، بل كان الأخير يرى أن المسألة يمكن اختزالها بالمال، وتأسيس اجماع عربي على أساس (الدفع المالي) فقط وليس على أساس التوافق على سياسات عربية جامعة، بل ربما كان المال يستهدف تغيير السياسات المتفق عليها (الثوابت العربية).. وهو ما حدث فيما بعد بشأن مقاطعة مصر السادات، ومن ثمّ ما جرى من تقديم مشروع فهد للسلام في قمة المغرب بداية الثمانينيات الميلادية الماضية.

يمكن القول أن فهد لم يكن الشخص المناسب لمواجهة تحديات السياسة الخارجية السعودية، فقد شهد عهده قضايا رئيسية لم يقم فيها بالدور المطلوب لاتزال مواقفه المدمرة فيها تمتد الى يومنا هذا. تلك القضايا شكلت اختباراً للسياسة الخارجية السعودية ولفهد شخصياً:

القضية الأولى ـ كانت زيارة السادات الى تل أبيب، وما تبعها من مقاطعة نظامه عام 1978 في قمة بغداد وتردد السعودية في ذلك ولكنها وافقت مضطرة. ثم ما جرى بعد ذلك من نقل مقر الجامعة العربية الى تونس، وتوقيع كامب ديفيد. خروج مصر أضعف السعودية، وقوّى الأنظمة الراديكالية: بالتحديد العراق وسوريا. والسعودية لا تستطيع أن تسيطر على هذين النظامين إلا من خلال إجماع عربي، ومن خلال استثمار السعودية للقوة المصرية. ومع ان الملك فهد كان يجري علاقات من تحت الغطاء مع مصر، خاصة بعد مقتل السادات، وكان يدفع شيكات بين فترة وأخرى لحسني مبارك عبر زيارات خاصة كان يقوم بها سكرتيره الخاص محمد السليمان، حيث تشير بعض المصادر الى أنها كانت تتراوح بين خمسة وعشرة ملايين في كل دفعة.. مع هذا، لم تجرؤ السعودية أن تعيد العلاقات علناً مع مصر إلا في وقت متأخر جداً. وفي الجملة أنه منذ زيارة السادات لتل أبيب، ضعفت مصر، وضعفت السعودية في ميدان السياسة الخارجية ولازالتا حتى هذا اليوم، كون تلك الزيارة نسفت الإجماع العربي، ولم يكن فهد قادراً على ترقيعه، أو ربما راغباً في ترقيعه.

القضية الثانية ـ سقوط الشاه وقيام الثورة الإيرانية، وسقوط منظومة الأمن الإقليمي الخليجي التي كانت تعتمد على النظرية الأميركية (العمودين المتساندين). كان فهد ـ وبغباء أيضاً ـ قد اصطفّ الى جانب الشاه ودعمه، ولم يكن يصدّق بأنه سيسقط بعد تصريحات لفهد تدعمه لم تزد عن بضعة أسابيع. ما جرى بعد سقوط الشاه جملة أمور لاتزال المنطقة تشهد تداعياتها. في البداية كان ازدياد النفوذ الأميركي وفتح ملف عداء مع ايران تماشياً مع الجهد الأميركي، وظهور طائرات اف 15 لأول مرة في سماء السعودية ـ قبل ان تشتريها ـ تتوازى مع تصريحات كارتر الرئيس الأميركي آنئذ تفيد بأن (أمن السعودية جزء من الأمن القومي الأميركي).

التركي: راسبوتين!

بعدها انخرطت السعودية في معركة صدام حسين والغرب ضد ايران، حيث التقى صدام ولي العهد فهد في زيارة سرية للسعودية وتوافقا على الحرب ودعمها. وتتالت تداعيات الحرب ليحتل صدام الكويت، ولتنخرط السعودية في جهد اخراجه بمالها والتضحية بسيادتها، ولتوقعها في مآزق اقتصادية غير عادية بسبب الحرب وبسبب هبوط أسعار النفط ايضاً، وهو أمرٌ خطط له الأميركيون وفهد، من أجل إضعاف القدرات الإيرانية عن مواصلة الحرب. وأخيراً تتوج التداعيات بحصار العراق لسنين طويلة ومن ثمّ إسقاط نظامه، ولم يكن كل ذلك في صالح السعودية.

ولاتزال الريبة تحكم العلاقات السعودية الإيرانية، والسعودية العراقية، بفضل الملك فهد نفسه، حيث لم تستطع الأطراف جميعاً استيعاب الدور السعودي الأسود في كل ما جرى حتى الآن.

القضية الثالثة ـ وهي القضية الأفغانية؛ حيث احتل السوفيات كابل، ورأت أميركا استخدام الدين (السعودي) والمال (السعودي) والجهد البشري والفكري (السعودي) لمحاربة الشيوعية، والإنتصار لأميركا من جهة؛ ومن جهة ثانية كانت السعودية مدفوعة مذهبياً وسياسياً لتوليد نموذج سياسي ديني أفغاني يوازي النموذج الثوري الإيراني ويختطف منه الألق. ومعروف ماذا فعلت السعودية في تلك الحقبة، وكيف كان الأميركيون يعملون مع السعوديين من الأراضي الباكستانية عبر وكيلهم ضياء الحق.

المهم هنا في النتائج، فالحرب الأفغانية كان لا بدّ أن تولّد شحنات دينية سلفية إضافية في الداخل السعودي والمتأثر به. فمادام توصيف الحرب عقدياً، فلا بدّ أن تكون حرباً (دينية)، ومادام نموذج الحكم المراد صناعته (يقابل أو ينافس أو يعارض) النموذج الإيراني، فلا بد أن يكون (مذهبياً).

والنتيجة كان أن تعزّز دور الفكر المتطرف داخلياً وخارجياً، وكانت المحصلة ولادة القاعدة، والأفغان العرب، ليرتدّ على السعوديين على شكل تفجيرات العليا والخبر قبل أن يأتي الإنفجار الأكبر في 9/11 على شكل غزوة واشنطن! ولتتمدد مشاكل العنف والفكر الوهابي المتطرف لتلقي بجمرها على المنشآت السعودية ولتحصد المآت من القتلى حتى الآن، وآلاف المعتقلين أيضاً، ولتؤدي أيضاً الى شروخ في العلاقة مع الغرب، وشروخ في الداخل الإجتماعي السعودي، ولتضعف السعودية في مجال الحفاظ على سيادتها، كما هو واضح الآن.

كل هذا كان من أخطاء الملك فهد نفسه وليس أحداً غيره.

القضية الرابعة ـ وهي فلسطين التي لم تكن تحظ بأهمية كبيرة بالنسبة للملك فهد، الذي وجد نفسه مضطراً للتعاطي معها، ومع رجال القضية أنفسهم، وإن كان لا يحترمهم ولا يكن ودّاً لهم، خاصة المرحوم ياسر عرفات. الفارق بين فهد وفيصل كبير في هذا الشأن. ففيصل ـ خاصة في أواخر أيامه ـ كان متعلقاً بالقدس بشدّة، بل كان ـ حسب مقربين منه ـ مهووساً بها وبتحريرها والصلاة فيها. أما فهد، فلم تكن له علاقة صادقة بالدين أو بالتدين، بل هو ضد الإثنين معاً، وكثيراً ما تحدّث عن هذا الأمر لمقربين منه، من أنه سيجعل الشعب السعودي يكفر بشيء إسمه دين، أي دين، وليس فقط الإسلام!

بين من هو مستعدّ للدخول في حرب من أجل القدس والمخاصمة حولها، وبين مواقف فهد فيما بعد مسافة شاسعة. فالأخير واجه تحوّلات في القضية الفلسطينية لم يهتم بها، بل تراخى بشأنها الى حدّ الإهمال. أول القضايا، كانت في عام 1978م حيث احتلت إسرائيل مساحات شاسعة من جنوب لبنان بحجة مواجهة المقاومة الفلسطينية، وفي عام 1982 أكملت الإحتلال بحصار واحتلال بيروت وإخراج منظمة التحرير. لم يقم فهد بشيء فيه فائدة تستحق الذكر، وليعد من أراد الى التاريخ ليقرأه من جديد.

بتراخي السعودية وقبلها مصر ومعها الأردن وخروج منظمة التحرير الى المنفى التونسي واليمني، بدأت سلسلة من التراجعات في مجال القضية الفلسطينية، ابتداءً من مشروع فهد للسلام الذي قدم في قمة المغرب بداية الثمانينيات الميلادية، وانتهاء بمبادرة ولي العهد عبدالله (الملك فيما بعد) حيث تحول المشروع الى مبادرة سعودية قدّمت على طبق من ذهب لإسرائيل تتضمن اعترافاً مباشراً.

بعد حرب الكويت، كان السعوديون روّاداً في مؤتمر مدريد.. كان ذلك ثمناً يسددونه مقابل الحماية الأميركية التي جاءتهم على عجل من صدام حسين. فرخت مدريد صفقة اوسلو، وأوسلو فرخت انتفاضة ثانية تجاهلها السعوديون مثلما تجاهلوا الأولى عام 1987، ليتوج الأمر بحصار عرفات وقتله في صمت مريب من الجميع. وجاءت حرب تموز الصهيونية ضد لبنان عام 2006، لتزيد من الإتصالات الإسرائيلية السعودية، ولتفتح جروحاً مع سورياً وصلت الى قاب قوسين من قطع العلاقات، والى توتر في لبنان، والى محاصرة غزة ومحاربتها سعودياً.

عشق وهابي لفهد

هذه هي المحصلة النهائية من سياسة فهد الفلسطينية.. كلها سوداء.

في الصورة الإجتماعية والإقتصادية المحليّة، هناك اتفاق بين كل الباحثين العرب والأجانب والسعوديين أنفسهم، بأن عهد الملك فهد شهد أكبر انتكاسة اقتصادية، هي أشد وطأة من أزمة الستينيات الميلادية التي سببها تلاعب الملك سعود بأموال الدولة. فقد أصبحت الدولة مدانة بعشرات المليارات من الدولارات لأول مرة في تاريخها، وأصبحت ظاهرة البطالة قائمة ولاتزال بسبب سياساته، وأصبحت الخدمات في عهده في الحضيض ولاتزال.

والباحثون متفقون أيضاً على أن التطرّف الديني الوهابي لم يبلغ مداه في الداخل والخارج إلا بسياسات الملك فهد نفسه، وأن ما يجري اليوم في السعودية إنما هو استمرار لمنتجات سياسات الملك فهد، خاصة بعد انتفاضة جهيمان عام 1979م.

أيضاً هناك اتفاق بين أكثرية السعوديين، على أن الملك فهد كان أكثر من بثّ الحساسيات بين المناطق والمذاهب في الداخل السعودي. فهو لم يدعم الوهابية وجهودها الداخلية والخارجية في نشر فكرها المتطرف فحسب، بل دعم النجدية الوهابية أكثر من أي وقت مضى. وفي عهده تعرض الحجازيون كما الشيعة ومناطق اخرى مهمشة الى المزيد من التهميش في الدولة.

لعل هذا المنتج الأخير لسياسات الملك فهد، يجيب على تساؤل حقيقي يقول: إذا كان عهد الملك فهد بهذا السوء، فلماذا نرى أنه الملك الأكثر شعبية بين طاقم الدولة، وبين النجديين عامة، وبين الوهابيين بشكل خاص؟!

جواب هذا التساؤل واضح أيضاً: قد لا يثيرنا دعم النجديين وحبهم للملك فهد، فهو قد مكنهم من السلطة كاملة، وانحاز لهم بشكل جعل الدولة نجدية بقضّها وقضيضها. وما مسؤولي الدولة وطاقمها إلا من تلك الفئة بالتحديد، فلا غرابة إذن، في بلد قائم على المناطقية والمذهبية وحتى العنصرية، أن يجد الملك فهد دعماً من فئة اجتماعية ينتمي اليها والى مصالحها على حسب بقية الشعب، وهم أكثرية السكان (75% ـ 80%).

لكن السؤال الأكثر إثارة هو التالي: المعلوم ان الملك فهد ـ وقبل أن يصبح ولياً للعهد ـ كان مشهوراً عنه بتحلله الأخلاقي علناً. لم تكتب الصحافة الغربية عن شخص فاسد من العائلة المالكة بمثل ما كتبت عن فهد، ولم يوبّخ فيصل ـ الملك ـ أحداً من العائلة المالكة المسؤولين بمثل ما وبّخه. ولم تكتب صحافة غربية عن ملايين يصرفها أمير على القمار بمثل ما كتبت عن فهد؛ ولم تُنشر صورة لأمير مسؤول وهو يحتسي الخمر من قبل بمثل ما فعلت مع فهد الذي ظهر علناً مع كارتر وهو يكرع الخمر. ولم تعرف العائلة المالكة أحداً قبلها ولا بعدها من لبس (الصليب) إلا الملك فهد حين زار لندن عام 1986؛ كما لم يعرف عن ملك سابق أنه يمتلك قصوراً بعدد قصور فهد لا في الداخل ولا في الخارج، حتى أن بعضها محصّن ـ كما في سويسرا ـ ضد القنابل النووية. وفي ذات السياق، لم يعرف عن أمير أو ملك تحلّل من الأخلاق واعتدى على الأعراض واشتهر بـ (النسونجية/ بلاي بوي حسب تعبير الصحف الغربية) مثل الملك فهد؛ وأكثر من هذا، لم يعهد من ملك أنه كان ضد الدين ويتكلم ضده علناً مثل فهد، ولم يعرف عن ملك تارك للصلاة ويسخر من المصلين مثل فهد.

على الأقل بعض من هذا كان يعرفه مشايخ الوهابية؛ لكنك تجدهم الى هذا اليوم لا يترحّمون إلا عليه، ولا يذكرون اسم فيصل او سعود أو خالد، فما هو السرّ يا ترى؟!

الملك فهد رغم كرهه للمشايخ، كان يخشاهم، وكان سلوكه الشخصي كما سياساته المحلية ستثير غضبهم، ولهذا كان لا بدّ من إيجاد معادلة من نوع ما: أن يفعل ما يراه ويشتهيه، وأن يفعلوا هم ـ أي المشايخ ـ ما يرونه، وهناك منطقة وسط تتقاطع فيها مصالح الطرفين.

لكي يصمت المشايخ كان لا بدّ من إغراق أفواههم بالمال والإمتيازات والمناصب، وكان لا بدّ من دعم الوهابية في الداخل لتقمع وفي الخارج لتخوض حرباً ضد الشيعة، والشيوعية أيضاً، فهما صنوان في القاموس الوهابي. أنشأ فهد مجلساً أعلى لنشر الدعوة السلفية، برئاسة أخيه سلطان ـ ولي العهد الحالي ـ فهو الآخر يضاهي فهد فساداً وانحلالاً وسرقة، وإن كان لا يحشش مثل فهد! وعمل سلطان مع راسبوتين (الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن التركي) لنشر الدعوة في العالم، فقامت المراكز والمساجد في بقع مختلفة من عواصم العالم تروّج للوهابية التي كانت حينها حليفاً لأميركا في حربها على السوفيات وإيران.

تحولت الكليات الدينية الى جامعات، مثل جامعة الإمام محمد بن سعود، وزيدت ميزانية الدعوة السلفية حتى بلغت مليارات الريالات، وتوسعت صلاحية المشايخ الى حدودها القصوى. تزامن ذلك مع حاجة السعودية لتفعيل الوهابية وتهجير بعض طاقاتها الى الخارج حتى تحترق (كما فعلوا مع العراق حديثاً)، والتغطية على آثار ما قام به جهيمان الذي تحدّى مشايخ الوهابية وآل سعود معاً وطعن فيهما في رسائلة المتعددة المنشورة.

على خطى الدمار الفهدي

ومشايخ الوهابية لا يحاكمون المواقف والأشخاص وفق (الدين) أو (المصلحة العامة) بل وفق مصالحهم الشخصية والطائفية، لذا كان الملك فهد ـ بالنسبة اليهم ـ الملك التقي الورع داعم العقيدة الصحيحة، ولهذا صعُب على الوهابيين التنازل عن بعض سلطاتهم بعد أن تفجر العنف فأصاب حتى أميركا نفسها وعرش آل سعود أنفسهم. كما صعب على آل سعود، خلفاء فهد، أن يتخلوا عن سياسته، فالوهابيون الكبار لا دين لهم إلا مصالحهم الضيقة ـ مذهبية أو مادية أو عنصرية مناطقية عشائرية. ولذا جرى استخدامهم من جديد ـ كما هو حالياً ـ في سياساتهم الداخلية والخارجية. فأصبح تدعيم الوهابية الوسيلة الفضلى لتنفير المواطنين حتى من الدين، وهي وسيلة لمكافحة كل أصحاب الأفكار الإصلاحية، فبهم يضرب آل سعود من يطالب بالإصلاح، وبهم يقاضونهم ويسجنونهم، وبمجانينهم يواجهون المخالفين في العراق ولبنان وغيرها.

والوهابيون اليوم غير مرتاحين من الملك عبدالله، لأنه لا يتمتع بالحماس الكافي لدعمهم. عكس ذلك تجده فيما يتعلق بموقفهم من (اشقاء) فهد كسلطان ونايف وسلمان، حيث المديح والدفاع الغبي عنهم وعن سياساتهم. حتى أنك لتستغرب لماذا يدافع الوهابيون عن نايف الذي يقوم بتقليم بعض أظافر متشدديهم. هم يعلمون بموقف نايف منهم، ولذا يستحقرون الملك عبدالله، وينحازون سياسياً الى الطرف الذي يمنحهم المال بلا حساب، ويدافع عنهم كما يفعل نايف دائماً.

هذا هو سر موقف مشايخ الوهابية من السديريين الفاسدين: من الملك فهد، وحتى سلمان، مروراً بنايف وإبنه محمد، وغيرهما. وقد استخدم الجناح السديري ولازال مشايخ الوهابية ومؤسساتهم في مواجهة جناح الملك ونجحوا في تحجيمه وإضعافه والحكم مباشرة بدلاً منه فعلاً. والوهابيون يعتقدون بأن مستقبلهم سيكون أفضل حين يصل سلطان الى كرسي الحكم، وسيكونوا أكثر من سعداء إن تولّى نايف ذلك.

الآن.. المملكة تسير وفق سياسات فهد، سواء تعلّق الأمر بتوطيد العلاقات مع أميركا (الحقيقة تقديم التنازلات الكبيرة التي لم تكن السعودية تفكر فيها في عهد فيصل) أو بتخريب الإجماع العربي الذي على أساسه ـ وعلى أساسه فقط ـ يمكن تصوّر زعامة سعودية للعالم العربي، أو فيما يتعلق بالموقف (الإستراتيجي) من إيران والعراق، واعتبارهما عدوين، من منطق طائفي بحت، وإلا فإنه يمكن التفريق بين الموقفين لو كان الأمر سياسياً، وأيضاً فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني، حيث ستستمر السعودية في رفع لواء السلام والتطبيع مع اسرائيل، حتى ولو كان المعنيون السوريون أو الأكثرية الفلسطينية ضد هذا الخيار، ما يعني أن السعودية لن تتمكن من إنجاح خيارها هذا، بل سيقودها الى توتير أكبر مع سوريا.

أيضاً، سيكون طابع السياسة السعودية الخارجية هو نفسه الذي اختطه فهد: التحلل من المشاكل العربية والإسلامية وتناسيها، والتركيز على ما له صلة بالعلاقة السعودية الغربية وما يمكن للسعودية أن تتنازل بشأنه على حساب غيرها من العرب والمسلمين. سيبقى موضوع الصومال والخلاف الجزائري المغربي على الصحراء، وكذلك موضوع دارفور، وكشمير، وأفغانستان فضلاً عن موضوع الأقليات المسلمة في مورو الفلبين وفطاني تايلاند.. ستبقى كلها وغيرها ساقطة من الأجندة السعودية، ما لم يظهر اهتمام أميركي جديد يفعل الدور السعودي رغماً عنه.

وفي المواضيع الداخلية، أيضاً تفرض رؤية الملك فهد على إخوته من الخلفاء: إبقاء التحالف مع الوهابية وتشذيبها من العنفيين الذين يواجهون النظام السعودي بشكل خاص؛ وايضاً إبقاء موضوع الحكم أمراً نجدياً لا يشارك فيه المواطنون بمناطقهم على الأقل؛ ولا إصلاحات سياسية تؤدي الى تغيير في حصحصة منافع السلطة والثروة؛ ولا تخفيف للفساد وسوء الإدارة والنهب الملكي؛ ولا تغييرات جادّة في التعليم والمناهج وغير ذلك.

المملكة دخلت ثلاجة الملك فهد منذ زمن بعيد، والخروج من الثلاجة أمرٌ صعب لدى قومٍ تعوّدوا ممارسة غير المألوف في السياسة والفكر.

الصفحة السابقة