مع أميركا الى النهاية

السعودية: الذراع السياسية المكسورة لواشنطن

خالد شبكشي

كانت لدى الولايات المتحدة في المنطقة يدان: الأولى متشددة، تميل الى استخدام الآلة الحربية العسكرية الضاربة، إن أرادت الحرب والقتل، وقد تمثلت في إسرائيل التي اعتبرت دائماً رأس الحربة لواشنطن. ويد أخرى سياسية ناعمة، تحصد المكاسب السياسية على الأرض، فإذا رأت واشنطن أن خيار العنف غير ملائم، وأن الأدوات السياسية هي التي يجب أن تفعّل وتستثمر ما أُنجز على الأرض، أوكلت لليد الأخرى بالإنطلاق. هذه اليد الأخرى كانت: السعودية.

إسرائيل والسعودية كانتا يدين ضاربتين تصولان في المنطقة سياسياً وعسكرياً وأمنياً، لحساب الولايات المتحدة الأميركية ولعقود طويلة. غير أن السعودية غيّرت موقعها منذ بضع سنوات، فبدل أن تبقى في موقعها السياسي الناعم إما لتحقيق مكاسب سياسية، أو لإبعاد الأضرار عنها، فإنها اقتربت من نهج اليد الإسرائيلية المتشددة، حتى صارت المواقف شبه متطابقة بين البلدين في موضوع حماس في غزة، وموضوع حزب الله في لبنان، وموضوع الخطر الإيراني، بل انهما يكادا يتطابقان
معاً حتى النهاية!
في الموقف من سوريا ونظامها.

هذا التحوّل في الموقف السعودي، كان يستلزمه خسائر معنوية وسياسية، وهو ما حدث بالفعل.

لكن مشكلة السعودية أعمق من هذا.

إن نهج الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة بدأ بالتزلزل فعلاً.

فالآلة العسكرية المتشددة المقترنة بنهج سياسي فوقي حاد، لم تعد قادرة على تحقيق مكاسب سياسية. يسمون ذلك في السياسة: انهيار معادلة الردع، أي انهيار التوازن النفسي بين أميركا وأعدائها، بحيث أن التهديد باستخدام آلتها الحربية لم يعد فاعلاً بما فيه الكفاية. ففي الماضي كان مجرد التهديد يخيف ويحقق منجزات سياسية، وتنازلات من الأطراف الأضعف في المعادلة. اليوم لا تؤخذ تهديدات أميركا وكأنها قدر، ولا يخشى من يدها الإسرائيلية مثلما كان الوضع في الماضي. بمعنى آخر: لم تعد أميركا واسرائيل مخيفتان بما فيه الكفاية لتحقيق انتصارات سياسية. نجد هذا واضحاً في لبنان وسوريا وغزة وإيران وحتى في العراق وأفغانستان.

معنى هذا، أن واشنطن التي تعتمد على آلتها الحربية لم تعد تستطيع توفير مكاسب يحصدها النظام السعودي بالنيابة. خاصة وان هذا النظام استقال كليّة من دوره السياسي الناعم، وصار يزايد على الآخرين بضرورة استخدام العنف الغربي والإسرائيلي ضد حزب الله وايران وسوريا وحماس. لا توجد مكتسبات تحصدها أميركا، ولا إسرائيل ولا السعودية، خاصة بعد الخسارات المتوالية في لبنان (حرب تموز وما تلاها) وخسائر العراق وأفغانستان، والضعف الملاحظ في تنفيذ أي من التهديدات الأميركية ضد سوريا وإيران.

حين يذوي ويضعف القلب الأميركي، تضعف ـ تبعاً له ـ أدواته: إسرائيل والسعودية. وقد جربت الأدوات ـ وليس القلب فقط ـ حظّها بصورة مباشرة في معترك الصراع السياسي العسكري وفشلت، إن في حرب لبنان 2006، أو ما تلاها.. أو في حرب العراق كما فعلت السعودية، أو في غزة وحماس وغيرها من القضايا.

مشكلة السعودية أن نهوضها السياسي الإقليمي لم يكن قائماً على قواها الذاتية فحسب، بل الأهم أن النجاحات الأميركية والإسرائيلية تعضده. والدليل أن قمة هيمنة السعودية إقليمياً، كانت متزامنة مع قمة قوة الولايات المتحدة واسرائيل وهيمنتهما على منطقة الشرق الأوسط. وهناك الدليل العكسي أيضاً، من خلال معطيات الوضع الحالي، فقمة انتكاسات أميركا واسرائيل التي نشهدها اليوم، متزامنة مع قمة انتكاسة وضعف السعودية إقليمياً.

لكي يحيا الدور السعودي مجدداً فإن ذلك يستلزم واحداً من أمرين:

إما أن تنهض السياسة الأميركية من كبوتها في الشرق الأوسط، وتنهض معها اسرائيل، فتحققان منجزات في خارطة مناطق التوتر.

وإما أن تنسحب السعودية من موقعيتها المتشددة، وتبتعد ـ ولو قليلاً ـ عن النهج الأميركي، بحيث يستطيع المواطن العربي تمييزها بشكل مختلف عن الحلف الأميركي الإسرائيلي.

كلا الإحتمالين غير واردين في المدى المنظور، فالولايات المتحدة أقرب ما تكون وهي على أعتاب انتخابات جديدة الى (تغيير منهجها) بدلاً من الإرتكاس في الرمال المتحركة أكثر وأكثر. هذا إذا ما نجح باراك أوباما في الإنتخابات الأميركية القادمة. أما إذا فاز ماكين فإن ذات النهج البوشي سيستمر، وسيكلف ذلك الولايات المتحدة كثيراً، وكذلك حلفاءها في أوروبا والشرق الأوسط، وستفتح معارك مع روسيا وإيران وربما حتى مع الصين، لا يتوقع معها الأميركيون أنفسهم ـ مثل بريجنسكي وسكوكروفت واولبرايت ـ إلا المزيد من التأزم والإنحسار للدور الأميركي في العالم وليس في الشرق الأوسط فحسب.

لا يتوقع الأميركيون أنفسهم تحقيق منجز في المدى المنظور لا في افغانستان ولا في العراق ولا حتى في كوريا الشمالية ودول أميركا اللاتينية! وبالتالي فإن ربط السعودية المحكم في سياستها ومكانتها بسياسة ومكانة واشنطن رهان خاسر، ولكن السعوديين يميلون الى البقاء عليه، فهم يشعرون بالأمن والحماية بالتحالف مع القوى الأعظم، حتى وإن كلفهم ذلك خسائر، هي بنظرهم (مؤقتة).

ثم ان السعودية بحاجة ـ فيما لو قررت تغيير وجهتها السياسية ـ الى تعديلات جوهرية في نظامها السياسي بالضرورة، فهي تعتقد بأن الغرب سيعاقبها بصورة من الصور، وسيزيد من ضغوطه عليها لتقديم تنازلات في المجال السياسي والحقوقي، ليس قناعة، وإنما من أجل الضغط. والسعودية مستعدة لان تتنازل عن كثير من المواقف والقضايا وحتى الأموال من أن تتنازل لشعبها في مجال تطوير النظام السياسي والحريات العامة.

وأخيراً، فإن تغيير المنهج السياسي السعودي يستلزم زمناً غير قصير لإعادة وصل ما انقطع مع الدول الأخرى، وإعادة صياغة النظام العربي من جديد، كيما تتمكن من ممارسة دورها النافذ فيه بحيث يوفر لها المكانة والحماية المستقبلية.

السعودية ليس لها هذا النفس الطويل. وسياستها قائمة على ردود الأفعال لا التخطيط المستقبلي الهادئ.

هكذا عودتنا فيما مضى، وهذا ما ستمضي عليه في أرجح التقديرات.

الصفحة السابقة