الملك يسوّق بضاعة الوهابية للخارج

ليبرالية سلفية..كيف؟!

يحي مفتي

من السابق لأوانه الحديث عن تحوّل ديني داخل المجتمع السلفي الوهابي، رغم ما يطلق من توصيفات معلّبة في الصحافة الغربية عن (ليبرالية إسلامية) يقودها الملك عبد الله، على أساس المبادرات الحوارية التي أطلقها وأشرف عليها. لا يبدو أن هؤلاء يدركون في قراءتهم للشؤون السعودية سوى ما يحاول الملك عرضه وتسويقه، وإلا فالحديث عن مشروع لبرلة دينية تقودها الحكومة السعودية يبدو باعثاً للسخرية وخصوصاً بالنسبة لأولئك الذين مازالوا يكتوون بنار التشدد الديني سواء في القضاء، أو التعليم، أو الإرشاد الديني، أو الإفتاء، إضافة إلى سلسلة ممتدة من التدابير الدينية الصارمة، والتي تتعارض جزئياً وكليّاً مع المدّعى الحواري لدى الملك أو أي من الأمراء الكبار أو الصغار.

صورتان متقابلتان برزتا مؤخراً وهما كفيلتان بكشف ما يضمره المجتمع الديني السلفي من نزوعات متقابلة، وتلفت النظر لبعض الأفكار الفردية والتصرّفات ذات الطبيعة الإعتراضية. الصورة الأولى، على سبيل المثال، قيام مجموعة من السلفيين في السادس من سبتمبر بالتجمّع أمام منزل المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ومطالبتهم بالتصدي لظاهرة التغريب، ووضع حد لهيمنة الكتّاب والمثقفين العلمانيين على وسائل الإعلام السعودية، ومنع استقبال الوفود النسائية الغربية في المملكة.

هذا نوع من الإنقسام الحاصل في المجتمع السلفي، ينزع نحو عودة راديكالية نحو الوهابية، فيما نجد في المقلب الآخر صورة أخرى يمثّلها عدد من مشايخ الصحوة الذين يمارسون خروجاً جزئياً عن الخط الحنبلي السلفي باملاءاته الخفية والعلنية. نقرأ منذ نحو عام مقالات للشيخ عايض القرني يرسم فيها صورة أولية لتعايش بين الجماعات العقدية المتباينة، ونقرأ أحياناً لفتات فكرية لمشايخ صحويين تنطوي على جرعة عالية من النقد الذاتي بما يشير الى تفاؤل غير مسبوق من قدرة على كسر القيود العقدية التي كانت تحول دون الإنفتاح على الآخر، أو القبول به كشريك عقدي، سواء تعارصت طقوسه في جزء صغير أو كبير منها مع ما يراها الكائن السلفي بدعاً.

وبالرغم من أن الأسماء المطروحة مورد فحص دائم، ولكن يبقى الشيخ سلمان عودة، الشخصية الأبرز التي تحاول التمايز داخل الفضاء السلفي، لانشغالها على تقديم صورة أخرى عن السلفية، وربما يكون هو الرمز الذي يحاول الملك عبد الله تقديمه في مشروع الليبرالية الإسلامية في نسخة سلفية من الصعب حشد مؤيدين لها داخل المجتمع الوهابي.

ولكن السؤال: هل هو بمثابة تمرّد مدرسي يقدم عليه الشيخ سلمان العودة أم أنها السياسة التي مسّته فجعلت الإنزياحات المذهبية ضرورة سياسية تعكس جانباً من طموح مضمر لدى الشيخ العودة، الذي يجسّد مثال العودة عن مواقف مذهبية معتدلة في سياق الإستجابة للنداء الداخلي أو المدرسي الذي ما يلبث أن يضعه أمام امتحان الإيمان ورهاناته الصارمة.

هذا التمرّد بدأ منذ سنوات، على قاعدة قيل حينها بأنها مراجعة فكرية خاضها الشيخ العودة في المعتقل ثم تبلورت ضمن حالة انفتاح حذرة على الآخر، الصوفي والشيعي والعلماني، فأخذت حركته الفكرية شكلاً مضطرباً، ويصعب حينذاك تحديد مقاسات واضحة لمواقفه الفكرية والسياسية.

وشأن كل المفتونين بالقواعد الشعبية، أو العامة بحسب تعبيرهم، فإن الشيخ العودة يولي ردود الفعل الشعبية سلباً كانت أم إيجاباً أهمية خاصة، فقد تجده يتراجع بذكاء عن مواقف جرى توظيفها للتحريض عليه، وقد تجده يصعّد من درجة حماسه بعد أن يلقى تعضيداً من علماء أو أمراء كبار.

من الموضوعات الخلافية التي حسم فيها العالم السلفي رأيه العقدي منذ عقود هو الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، الذي وصف فيه من يقوم به مبتدعاً ومشركاً. وربما صدرت أحكام ضد جماعات دينية بالتكفير والتبديع فقط لمجرد أنها تحيي هذه المناسبة الجليلة. ولذلك، يمكن فهم الحساسية التي تحيط بهذا الموضوع بالنسبة لأولئك الذين أوصدوا أبواب المراجعة فيه وفي أمثاله من الموضوعات، ويمكن فهم أيضاً مايعنيه تقديم رأي فقهي مخالف لما درج عليه العلماء السلفيون في حربهم ضد الاحتفال بالمولد النبوي.

الشيخ العودة لم يدخل الى الموضوع بصورة مباشرة، ولكنّه اختار مدخلاً آمناً إلى حد ما وقد ينسحب على موضوعات دينية كبرى مثل الإحتفال بالمولد النبوي. الشيخ العودة قال في برنامج تلفزيوني على شبكة الإم بي سي في 16 أغسطس بأن الإحتفال بأعياد الميلاد والزواج لا يخالف تعاليم الإسلام. وهذا الرأي، بطبيعة الحال، لا يقف عند هذا الحد بل يفتح الباب على الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، وموضوعات أخرى مرتبطة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

وفيما يبدو فإن رأي الشيخ العودة أثار جدلاً واسعاً داخل المجتمع السلفي الوهابي النجدي الأمر الذي اقتضى تدخلاً مباشراً من المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ. فقد نقلت وكالة رويترز من الرياض في 21 أغسطس الماضي تصريحات للمفتي جاء فيها: (إن الإحتفال بمناسبات مثل أعياد الميلاد أو عيد الأم يخالف تعاليم الإسلام).

ونقلت صحيفة (المدينة) في نفس اليوم عن المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله ال الشيخ قوله (أن الإحتفال بمثل هذه المناسبات سيجعل المسلمين يتشبهون باتباع أديان أخرى كاليهودية والمسيحية). وهو ذات التخريج العقدي الذي يعتمده علماء المؤسسة الدينية الوهابية منذ عقود.

حاصل هذه المراودة الفقهية بين المفتي والشيخ العودة أن هناك من حملها على تحوّل في الأيديولوجية السلفية الرسمية، وأن ثمة ترجيحاً يحظى به العودة من قبل الملك عبد الله، على أساس زعم يقول بأن العودة يقتفي مذهباً أقل صرامة من المذهب الوهابي الذي يتبعه المفتي، وأن العودة مقرّب من الملك لأنه أقرب الى نزعته الإصلاحية. بيد أن هناك من يضع علامات استفهام كبيرة حول المدعيات الإصلاحية لدى الشيخ العودة بحجم علامات الإستفهام الموضوعة حول المدعيات الإصلاحية لدى الملك عبد الله، فليس هناك حتى الآن ما يمكن وصفه بإصلاح ديني ينبثق من داخل المجتمع السلفي، تماماً كما ليس هناك إصلاح سياسي ينبعث من البيت الحاكم، فلا هنا إصلاح ولا هناك، وكل مافي الأمر أن واقعية رثّة تعبّر عن نفسها بطريقة بدائية، يحلو لأصحابها تسميتها إصلاح، ولكنها لا تعدو أن تكون قشرة البيضة التي لم تتشقق بعد لتفصح عما يخرج منها.

الصفحة السابقة