اللحيدان يقود حفلة التكفير

القتل أساس العدل!

سامي فطاني

جهازان ممقوتان في هذه البلاد، الداخلية والقضاء، بالرغم من كونهما مسؤولين عن أهم قضيتين: الأمن والعدل، فقد تحوّلت الداخلية الى مصدر تهديد لأمن الناس، بفعل تدابيرها القمعية وخصوصاً في مجالات حرية التعبير، والرأي، والإجتماع، كما تحوّل القضاء إلى أداة للجور والظلم والتفريط وإهدار الحقوق بله والدماء..بكلمة يمارس هذان الجهازان عكس الأهداف المرسومة لوظيفتيهما.

تحدثنا طويلاً على صفحات المجلة عن اقترافات وزارة الداخلية، ولنا وقفة هنا مع القضاء، بالرغم من وقفات سابقة. فثمة مناسبة تقتضي تركيز الحديث عن القضاء، وخصوصاً عن الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى. فالرجل كان يأمل في طي صفحة الإتهامات التي لاحقته في مايو 2005 على خلفية التحريض على الإرهاب في العراق، ما دفع به لإصدار بيان ينفي فيه صحة الإتهامات ووصف من أطلقها بأنهم (مريدو السوء)، وأن من يختلق الإشاعات تلك بأنهم (مجرمون، حاقدون، جريئون على الكذب)، بحسب بيانه الصادر في 2 مايو 2005، ولكنه عاد وأنعش الذاكرة مجدداً بما لا يدع مجالاً للشك بأن الميول الراديكالية لدى اللحيدان، شأن كثير من زعامات ومشايخ الوهابية، لا بد أن تعبّر عن نفسها في لحظة ما، مهما حاول كبتها أو تأجيلها.

اللحيدان رئيس جهاز القضاء الفاسد

لفت الكاتب عبد العزيز العلي في 17 سبتمبر الماضي في مقال بعنوان (الشيخ اللحيدان..بداية ونهاية) الى نزوعات متشدّدة قديمة لدى اللحيدان، أي منذ كان في الثلاثين من عمره، وبعد توليه سكرتارية مفتي الديار السعودية الشيخ محمد إبن إبراهيم. رجع العلي الى مقالة للحيدان بعنوان (التعليم ودروس الدين) نشرت في مجلة (راية الإسلام) في جمادى الأولى سنة 1381 ـ 1961، زعم فيها بأن ضعف الإيمان لدى الناس عائد الى انتشار التعليم النظامي وانتشار المدارس، وكتب ما نصّه (ففي بلادنا وغيرها تضعف روح الإسلام ويخف سلطانه على النفوس عند المتعلمين؛ ويتسع هذا الضعف ويخف ذلك السلطان بقدر ما يتسع التعليم وتنتشر المدارس). وزاد اللحيدان على ذلك بأن دعا إلى عدم تنجيح الطالب في دراسته وإن كان متفوّقاً، إذا كان مقصّراً في مظاهره الدينية، في إشارة الى إطالة اللحية وتقصير الثوب، (وأن يشعر الطلاب أن من يحفظ عنه إخلال ببعض النواحي الدينية، فسيكون لهذا دخل في عدم نجاحه؛ وسينظر إليه بأنه قاصر عن زملائه وإن تفوّق في المعلومات). وشملت العقوبة حتى المعلم، وكان في الغالب من الوافدين العرب، حيث هدّده بالإبعاد أو الفصل من الوظيفة في حال (ضبط عليه إخلال بالسلوك وإظهار لما يتنافى مع الإسلام..).

وبخلاف التحليل النفسي لتطوّر الأفكار بحسب المراحل العمرية، فإن هذا النوع من التحليل لا ينطبق بأي حال على علماء الوهابية، وسنلحظ أن الميول الراديكالية لدى اللحيدان، شأن أكثر مشايخ وعلماء نجد، رافقته طيلة حياته فلم تفتر حماسته المنفلتة أو تبرد ميوله الملتهبة، فقد حافظ على مسلك التشدد والإقصائية ملتزماً الحرفية التامة لكل تعاليم المذهب.

من بين فتاويه التكفيرية، حتى بعد تهمة تحريضه على الإرهاب في العراق، إصداره فتوى بإخراج الداعية المصري عمرو خالد من الملّة بناء على معلومات مجتزأة ومبتورة وضعت في سؤال للشيخ اللحيدان خلال محاضرة له بجامع الأمير تركي بن عبد الله بتاريخ 14 صفر 1429هـ. وعقّّب اللحيدان على حكم الخروج من الملّة بقوله (في هذا الزمن كثرت الطلعات الخبيثة واتخاذ منابر فاسدة، وتسور الى الدخول في منابر الخير دعاة ضلال، فهؤلاء لا يوصفون بأنهم دعاة إلا إذا قيل أنهم دعاة فساد وفجور وظلم وعدوان).

رأي اللحيدان لم يكن جديداً ولا صادماً، وإن جاء في هيئة أحكام ذات صلة بأشخاص، أما بخصوص موقفه من القنوات الفضائية، فيعود إلى نحو أربع سنوات، حيث أجاب في لقاء تلفزيوني مع قناة (المجد) الفضائية الوهابية عن الموقف من القنوات الفضائية وما تبثّه من برامج غير محتشمة فقال (يجب علينا جميعاً محاسبتهم وإيقافهم عند حدهم كل بحسب استطاعته وقدرته)، وعاد في محاضرة له في 1428 بعنوان (هدي النبي عليه الصلاة والسلام في الاحتساب)، لتأكيد موقفه وقال (أن تلك القنوات الفضائية شرها عظيم وأنه يجب علينا جميعا التحذير من خطورة متابعتها).

لايبدو أن اللحيدان الذي زعم سابقاً بأنه رجل قانون ويختار ألفاظه بعناية قد أثبت مرة واحدة بأنه كذلك، فقد جاءت عباراته المنفلتة دائماً خلاف دعواه، خصوصاً تلك المشتملة على أحكام عقدية.

ما تجدر الإشارة إليه أن اللحيدان كان من المعارضين لمؤتمرات الحوار الوطني، فلم يحضر أياً منها مشاركة أو مباركة، ووقف ضد تطوير النظام القضائي حتى بعد إعلان الملك عبد الله عن نظام قضائي جديد. ويستند اللحيدان في تشدّده هذا الى علاقته الوثيقة والفاسدة في آن مع الأمراء سلطان ونايف وسلمان.

ولابد أن تصل مواقفه المتشدّدة من القنوات الفضائية خلال الأربع سنوات الأخيرة الى ذروتها، وهو ما حصل بالفعل حين أصدر فتوى عبر برنامج (نور على الدرب) على إذاعة القرآن الكريم والذي بُثّ في العاشر من سبتمبر الماضي تجيز، أي الفتوى، قتل ملاك القنوات الفضائية العربية التي يعود أغلبها لأمراء سعوديين أو لحكام خليجيين. واللافت أن إذاعة الرياض الرسمية بثّت البرنامج المشتمل على الفتوى لثلاث مرات.

وقال اللحيدان رداً على سؤال حول الموقف من ملاّك الفضائيات المصنّفين بحسب الوهابيين (من الذين يسعون في الأرض الفساد)، بأن أمام هؤلاء الملاّْك (أحد خيارين إما أن يناصحوا فيتوبوا أو يقتلوا)، وقال مانصه (إن من يدعو الى الفتن إذا قدر على منعه ولم يمتنع قد يحل قتله لأن دعاة الفساد في الإعتقاد أو بالعمل إذا لم يندفع شرهم بعقوبات دون القتل جاز قتلهم).

وقد ساد تفاؤل لدى بعض المتعاطفين والمقربيّن والخائفين على صور الوهابية بأن الشيخ اللحيدان قرر التراجع عن فتواه، وأنه سيظهر في وسائل الإعلام المرئية ليعلن عن تراجعه، ولكن ما حدث كان طبيعياً من منظور خبراء المدرسة الوهابية فيما كان صدمة لدى هذا البعض، فقد امتطى اللحيدان صهوة الإعلام الفضائي ليعلن بالفم الملئان صحة فتواه بل وزخمها بالمزيد من التوضيح والتبيين، وبحسب أحد المراقبين (فمن فاته العرض الأول من فيلم اللحيدان فقد تعهد هو بالقيام بعرض ثانٍ وربما ثالث ورابع إن تطلب الأمر ذلك، أو إن اقتضت المصلحة الشخصية ذلك، لا فرق).

في رد فعل على فتوى اللحيدان، عارض الشيخ عبد المحسن العبيكان، المستشار بوزارة العدل، ورأى بأن (الفئة الضالة سوف تستغل هذا الرد كما استغلت الرود السابقة بالذهاب الى العراق بدعوى الجهاد فيه، والذي ذهب الكثير والكثير من أبنائنا إليه وقبض على بعضهم). كلام العبيكان كان بمثابة قنبلة إنشطارية، فهو يحذّر اللحيدان من أن يكون أحد مصادر تغذية التطرّف والعنف، كما يومىء من طرف خفي الى التشكيك في حكمة اللحيدان وزعم الأخير باختيار ألفاظه بعناية فائقة ودقة، حين ذكّره بما قاله قبل سنوات حول التحريض على الارهاب، وأفادت الجماعات السلفية المقاتلة منه في العراق، وهاهو يرتكب الخطأ ذاته ويقدّم مادة أخرى لتلك الجماعات كيما تستفيد منها على طريقتها، وحسب العبيكان (جاءتهم الفتوى ـ أي فتوى اللحيدان ـ على طبق من ذهب ليستغلوها استغلالاً سريعاً، وليتحركوا لتجنيد شبابنا لإزهاق الأنفس وتفجير المحطات ومواقع ملاك هذه القنوات). وقال العبيكان بأن (هذا الرد (الفتوى) سوف يكون له آثار سلبية كبيرة على الدولة وعلى سمعة الإسلام وعلى سمعة القضاء السعودي)..

الشيخ العبيكان المحسوب على خط الملك عبد الله، والذي يطمح لتولي منصب كبير في النظام القضائي الجديد، يواجه اللحيدان المحسوب على الجناح السديري. ولكن الأخير لا يخوض كحلفائه الأمراء الحروب مباشرة، فقد يحرّك من ينوب عنه، وللأمراء أسلوب متميّز في تلك الخلافات. فقد تولى الشيخ محمد النجيمي، المقرّب من الأمير نايف، مهمة الدفاع عن فتوى اللحيدان، كما دافع عن موقعه القضائي ومنطلقاته القانونية والشرعية في إصدار حكمه بالتعزير، الذي يصل إلى القتل، ضد ملاّك القنوات الفضائية.

وفي تعضيد لافت لفتوى اللحيدان، دعا الشيخ صالح الفوزان، عضو مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه اللحيدان، الى معاقبة مقدّمي برامج الأبراج عبر التلفزيون بالإعدام، على قاعدة أن (مقدمي الابراج عبر القنوات الفضائية هم مشعوذون والشعوذة جريمة يعاقب عليها الاسلام بالقتل بواسطة السيف كما لا يجوز الصلاة على جثامين هؤلاء المشعوذين بعد قتلهم)، بحسب صحيفة المدينة في 14 سبتمبر الماضي.

وفي السياق نفسه، جاء رد عضو هيئة الإفتاء السابق الشيخ عبد الله الجبرين، الذي قال في برنامج الجواب الكافي الذي تبّثه قناة (المجد) الوهابية (إن هنالك أقلاما صحافية والإعلام اعتمدوا الإساءة والانتقاص من العلماء.. لابد أن يتم عقابهم، بفصلهم من أعمالهم، وسجنهم سجنا طويلا، وجلدهم، حتى يرتدعوا).

مسلسل فتاوى القتل والتكفير إزاء برامج أو قنوات أو حتى مسلسلسلات من قبل المشايخ وعلماء الوهابية لم تتوقف، بالرغم من أن غالبية البرامج والقنوات والمسلسلات بتمويل سعودي شبه رسمي، أي من أمراء نافذين في العائلة المالكة والحكومة. فقد أفتى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، المفتي العام، بخبث وانحلال وضلال المسلسلات التركية، ووصف القنوات التي تبث هذه المسلسلات بأنها غير إسلامية، وحرّم مشاهدتها لاشتمالها على (الكثير من الشر والبلاء وهدم الأخلاق ومحاربة الفضائل). يذكر أن القنوات السعودية مثل إم بي سي المملوكة من قبل أمراء سعوديين وأصهار الملك السابق فهد، من عائلة آل إبراهيم، هي أول من بدأت عرض المسلسلات التركية.

وفي تعليقه على ردود الفعل المتحفّظة أو المعارضة لفتوى اللحيدان، أعطى الأخير حديثاً للتلفزيون السعودي في 15 سبتمبر الماضي أوضح فيه موقفه مؤكّداً ما قاله ومخيّباً آمال من انتظروا رأياً آخر غير الذي أطلقه من قبل. وفي الوقت الذي وضع الضجة في إطار عملية تحريف لكلامه، فقد عاد إلى صوغ فتواه بألفاظ أخرى بعد مطوّلة لحيثية الحكم، ليختم (وأن هؤلاء المسئولين والباثين إذا لم يمتنعوا ومنعتهم السلطة ولم يمتنعوا وعادوا في ذلك أنهم يعاقبون ومن لم يردعه العقاب واستمر على إفساد الناس فيما يبث أنه يجوز للسلطة قتلهم قضاء).

الجديد في توضيح اللحيدان، لا صلة له بدرجة الحكم أو مستوى العقاب، وإنما في مرجعية تنفيذه، فالقتل ثابت ولكن الكلام يدور على جهة التنفيذ، وربما آلته، وهذا ما جعله يضيف كلمة (قضاءً) أي التأكيد على مرجعية الدولة في ممارسة دور القتل.. بالرغم من أن اللحيدان كان واضحاً في فتواه بإطلاق الحكم وتفويض عموم من يقدر عليه، سواء كانت دولة أو فرداً أو مجموعة.

فتوى اللحيدان التي تزامنت مع مرور الذكرى السابعة لحوادث الحادي عشر من سبتمبر وفّرت ذريعة دينية نموذجية للتحريض على المزيد من العمليات وفي الوقت نفسه شرعنة ما سبق من عمليات.

ردود الفعل على فتوى اللحيدان كانت في الغالب ناقد بشدّة. فقد وصف الكاتب الفلسطيني خالد الحروب في 14 سبتمبر الماضي فتوى اللحيدان بأنها نوع جديد من التغوّل (تغوّل الدين على الفضاء العام). أما الإعلامي الحجازي حسين شبكشي فوصف تداعيات الفتوى بأنها تسببت في (موجة ذعر وخوف تسود أصحاب الفضائيات بعد الفتوى..).

منظمة مراسلون بلا حدود الدولية المعنيّة بالدفاع عن حرية الصحافة ندّدت في 16 سبتمبر بفتوى اللحيدان وقال بيان صادر عنها أن الفتوى هي دعوة للقتل وتعرّض حياة الصحفيين للخطر. وتبنى عدد من علماء الأزهر الشريف في مصر موقفاً مماثلاً وقال الدكتور محمود عاشور وكيل الأزهر السابق، أن الإسلام لا يجيز القتل إطلاقاً إلا بالحق وليس من الحق قتل أصحاب هذه القنوات، ولا يجوز قتل نفس إلا قصاصاً. أما الدكتور منيع عبد الحليم عميد كلية أصول الدين الأسبق فقال إن كل قناة فضائية بها برامج سياسية وثقافية وترفيهية، وينظم هذه البرامج ميثاق شرف، وقوانين يقوم بتطبيقها المختصون، وإذا أخطأ صاحب قناة تتم معاقبته وفقا للقوانين، والعقاب لا يكون بالقتل.

الشيخ العراقي البارز أحمد الكبيسي إتهم راللحيدان بالإجرام والكذب وقال في 28 سبتمبر الماضي لوكالة فرانس برس (هذه الفتوى لا أساس لها من الصحة وهي مرفوضة بل هي جريمة وكذب على الله ورسوله وطعن في الدين الاسلامي الذي هو دين التسامح). وفي اتهام ضمني بصلته بالإرهاب قال الكبيسي أن اللحيدان (أصدر حكمه وهو يعلم أن هناك من يسمع كلامه وينفذ)، في اشارة الى المتطرفين.

الصفحة السابقة