محاكمة فئة ضالة، أم محاكمة نظام ينقلب على أيديولوجيته؟

توفيق العباد

بدأت الحكومة السعودية بمحاكمة نحو 991 متهماً ممن قالت أنهم متورطون في قضايا إرهابية، من الذين اعتقلوا في موجات العنف الأولى التي ضربت مدناً سعودية وبالأخص العاصمة الرياض. ومن المشمولين في المحاكمات رموز معروفة مثل الشيخ ناصر الفهد والشيخ علي الخضير والشيخ أحمد الخالدي، وفارس آل شويل، ونمر بن سهاج، وخالد بن جوير.

المحاكمات تم تقديمها على أساس أنها شاهد على العدالة السعودية، وعلى نظام القضاء المستقل.

لكن تلك المحاكمات أثارت من الأسئلة أكثر مما أجابت.

فلماذا ـ أولاً ـ تأخرت الحكومة السعودية في محاكمة المتهمين بعد مضي سنوات طويلة على اعتقالهم؟ وهل اعتقالهم مبني على حكم قضائي أم سياسي؟

ولماذا ـ ثانياً ـ لم توفر الحكومة السعودية مستلزمات تحقيق العدالة فلم تسمح للمعتقلين حتى بلقاء أهاليهم، فضلاً عن لقاء محامين يدافعون عن قضيتهم، ثم حين قررت المحاكمة، لماذا لم تجعلها علنيّة؟ ولماذا رفضت طلب منظمات دولية عديدة الحضور في الجلسة العلنية مثل منظمة هيومان رايتس، فضلاً عن محامين وحتى أهالي المعتقلين؟ وفي الحقيقة فإنه لا يوجد عدد كاف من المحامين في السعودية للدفاع عن هؤلاء والدفعات القادمة، فضلاً عن أن الحكومة لم تسمح للمعتقلين بتعيين محامين ولا هي عيّنت من عندها أحد. وكل الذي حدث أن طلب القضاة من المعتقلين التوقيع على اعترافاتهم التي انتزعت من قبل ضباط الداخلية في السجون وتحت وطأة التعذيب.

وثالثاً، ما هي الأبعاد السياسية والأمنية المتوخاة من هذه المحاكمات التي يفترض ان تكون محاكمات غير مسبوقة في تاريخ السعودية؟

ابتداءً يمكن القول، بأن المحالين على المحاكمة هم من (المتهمين) أي أنه لم يصدر بحقهم قرار إدانة. وبالتالي فإن بقاءهم في السجن لسنين طويلة دونما محاكمة يعدّ مخالفة للقانون السعودي نفسه ونظام المحاكمات الجزائية.

ماذا سيحدث لو تبين أن أحد المتهمين أو بعضهم كانوا بريئين مما نسب إليهم، وأن القضاء (اذا افترضنا أنه عادل ويتمتع بالمصداقية، وهو أمرٌ لا يراه معظم المواطنين) برّأهم مما نسب إليهم؟ كيف ستبرر وزارة الداخلية حينها موقفها؟ بل لو حكم على أحد المتهمين بالسجن لفترة أقلّ من الفترة التي قضاها بالفعل في السجن، فكيف يكون التبرير؟!

أم أن المحاكمات نفسها، والأحكام التي ستصدر، جاهزة ومرتبة من قبل وزارة الداخلية ذات النفوذ الكبير في جهاز القضاء، وبالتالي لم يبق للقضاة سوى التوقيع، وإدانة المعتقلين جميعاً، بالصورة وللفترة الزمنية التي تراها وزارة الداخلية، منعاً لإحراج الأمير نايف الذي يتذرّع دائماً، بأن حكومة إخوته من آل سعود تطبّق الشريعة؟!

وفضلاً عن ذلك فإن الإعتقالات نفسها لم تبنَ على أساس قضائي، وإنما أمني وسياسي. فكل الحالات المعروفة جاءت الإعتقالات بدون إذن قضائي، وبقاءهم في السجن لم يكن على أساس قضائي، حيث لا تخول القوانين وزارة الداخلية القيام بذلك. وقد التفت القاضي السابق الدكتور عبدالعزيز القاسم الى هذه المسألة الواضحة وعبر عن أمله أن تكون المحاكنة علنية وشفافة تحترم حقوق المتهمين في الدفاع عن أنفسهم وتمكنهم من الإتصال بمحامين.

وشدد القاسم بأن (أغلب المعتقلين هم موقوفون بقرارات أمنية انتهك فيها قانون الإجراءات الجزائية، الذي يعتبر الإطار القانوني الذي يكفل حقوق الإنسان، ففي قضايا الإرهاب أو العنف الذي حصل من القاعدة في السعودية، تمت الاعتقالات بقرار أمني وليس بقرار من القاضي ولا علم للنيابة العامة بها في أغلب الأحيان).

ثم إن المحاكمات التي بدأتها وزارة الداخلية، لهذه الأعداد الكبيرة، لم تهيّأ لها حتى الموظفين والقضاة والكتبة بما يكفي، فقد تم تعيين ستة قضاة فقط، قد يضاف إليهم ستة قضاة آخرين. فهل يراد طبخ الأحكام على عجل وإدانة المتهمين بالجملة، خاصة وأن هناك أعدداً كثيرة هي الأخرى وبالآلاف تنتظر المحاكمة، وما هؤلاء الذين يقرب عددهم من الألف إلا الدفعة الأولى.

وزيادة على ذلك، فإن الحكومة السعودية أعلنت بأنها ستسن نظاماً قانونياً لمكافحة الإرهاب!، ومع هذا، فهي لم تعلنه، ولا تريد محاكمة هؤلاء وفقه بعد إعلانه. والسبب، أن قانون مكافحة الإرهاب، ومهما كان شكله ـ إن ظهر للعلن ـ فإن الحكومة السعودية لا تستطيع أن تذهب بعيداً في قانونها من جهة تعارضه مع المواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة السعودية، كما لن ينظر الى المحاكمات بصورة عادلة إذا ما كان القانون موضع شك ولا يحقق العدالة، وهو المتوقع. وبالتالي، وتفادياً للتصادم مع المنظمات الدولية الحقوقية، وحتى لا يُطعن في أصل القانون، تسرّع الأمير نايف وزير الداخلية لمحاكمة المتهمين بالعنف، ولكن وفق (الشريعة الإسلامية)!

والشريعة الإسلامية ما هي ـ عند آل سعود طبعاً ـ إلا غطاء فجّ تمارس من تحته كل الأفعال القبيحة. فكل فعل وكل نقد وكل حركة لا ترغب فيها حكومة السعودية، تفسر أولاً على أنها مخالفة للإسلام، ومن ثم مخالفة للنظام والقائمين عليه. وللتذكير فقط، فإن الأمير فيصل بن مساعد، الذي قتل عمه الملك فيصل، في مارس 1975م، حكم عليه بالإعدام، لا لأنه قتل الملك، وثبت ذلك بالصور التلفزيونية التي كانت تسجل لقاءه مع وزير النفط الكويتي، كما ثبت من الشهود الكثيرين الحاضرين.. فكل هذا لم يعترف به (شرع آل سعود) ورأى قضاة الجناح السديري بأنها لا تكفي لإدانة القاتل، حتى الصور التلفزيونية، لأنه لا يؤخذ بها (شرعاً)! إنما فتوى الإعدام جاءت لأن القاتل مفسد وضد الشريعة الإسلامية!!

هكذا (شرع) يستطيع آل سعود من خلاله ومن خلال قضاتهم إدانة خصومهم، وقمع مخالفيهم، كما فعلوا مراراً. وحين ثار الجدل حول أية قانون سيحاكم وفقه المتهمون.. تعهد وزير العدل السعودي، عبدالعزيز آل الشيخ بمحاكمة المتهمين وفق (شرع الله!!) وشدد أنه لا حاجة الى (استحداث آليات أو اجراءات جديدة)!

أما نايف، بطل المحاكمات، فقد أكد هو الآخر على (شرع الله!) بتفسيره هو طبعاً. وقال في إجابة على سؤال حول (من يشكك في عدالة محاكمة أفراد الفئة الضالة وتقديمهم للعدالة): (نحن ملتزمون التزاماً كاملاً بدستورنا وقانوننا، وهو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونحن نربأ بأنفسنا أن نسيء لأي إنسان سواء كان سعودياً أو غير سعودي). فما داموا فئة ضالة، فمعلوم نتيجة الحكم. والتزام آل سعود بشرع الله واضح، فنهبهم للبلاد يأتي بإسم شرع الله، والقتل والذبح، والسرقات والرشوات، ونهب النفط والميزانية، واعتقال الإصلاحيين، وكثير من الأفعال المخزية، يربطها آل سعود بـ (دستورنا وقانوننا!).

الرسالة السياسية

هناك عدّة استهدافات للمحاكمات المعلن عنها، وللتنبيه فإن هناك عدداً من الإصلاحيين لازالوا في السجون لشهور عديدة، وبعضهم مضى عليه سنوات، ودون محاكمة، أو اتصال بمحامين، ما يعني أن بإمكان الحكومة السعودية ان تعتقل لمدد طويلة مواطنين وشخصيات معروفة بدون محاكمات مثلما هو الحال لمعتقلي جدة والبروفيسور متروك الفالح، وهناك معتقلون سياسيون مضى على اعتقالهم نحو 12 عاماً، ولكن العدد الهائل من المعتقلين يفرض إما إطلاق سراحهم ولو بالتدريج أو إبقائهم في السجن مدداً طويلة وفق أصول سعودية! في المحاكمات.

فارس آل شويل، الشيخ احمد الخالدي، علي الخضير، ناصر الفهد،

المعتقلون ـ مورد المحاكمة ـ ليسوا من مناطق نائية، والأضواء مسلطة عليهم محلياً ودولياً، وكثير منهم من نجد، المنطقة التي تشكل دعماً لآل سعود وحكمهم، ولأن هناك إثارات مستمرة حول اعتقالهم وشرعية بقائهم في السجن، فإن آل سعود دُفعوا لتقرير مصير مئات أو آلاف منهم، بحيث يعلم الجميع مستقرّ كل شخص معتقل، ومدة محكوميته.

ويلاحظ أن المحاكمة جاءت في ظل أجواء أمنية مشددة، أُعلن عنها، كما شددت الحراسة على القضاة الذين أُعلنت أسماؤهم، الأمر الذي يشير الى أسباب أخرى للمحاكمات في الوقت الحالي. فيبدو أن الحكومة السعودية، وبالذات وزارة الداخلية شعرت بشيء من القوة بعد الضربات التي وجهتها الى القاعدة، وبعد أن زالت الخشية أرادت أن تتوج انتصارها الأمني بانتصار معنوي بوابته القضاء، ولتقول نحن قادرون على محاكمتهم ولا نخشى تعرض القاعدة لا للمحكمة ولا للقضاة.

وهناك رسالة سياسية أخرى موجهة للجمهور أيضاً، وتقول بأن عدد الذين سيتم محاكمتهم كبير جداً، ما يعني أن الخطر كبير على النظام، وبالتالي فإنه لا بدّ من تحمّل تجاوزات ضباط وزارة الداخلية وتصرفاتها من جهة، ومن جهة ثانية هي توجه تحذيراً للجمهور بأن مصير من يواجه النظام ليس المحاكمة وفق القانون (أي شرع آل سعود) فحسب وإنما السجن والتعذيب قبل أن يقدم الى المحاكمة.

ثم إن وزير الداخلية يريد فيما يبدو أن تبقى وزارته ونشاطاته تحت الأضواء المكثفة، لينال صلاحيات أكبر، وليبرر تخصيص ميزانيات اضافية على أجهزة القمع والمباحث. هناك إلحاح على إشعار الملك عبدالله، بأن النظام الحاكم في خطر، وأنه لا بد من توسيع صلاحيات وممارسات الوزارة القمعية.

وهناك اضافة الى هذا رسالة الى العالم، تقول بأن الحكومة السعودية مسيطرة على الوضع الأمني، وأنها تغلبت على القاعدة، وأنها مع الغرب في قارب مكافحة الإرهاب، وأن السعودية ليست مزرعة أو مفرخة له، كما وصفها أحد الكتاب السعوديين. بل وزايدت الحكومة السعودية على الآخرين عارضة تجربتها (الناجحة) في القضاء على القاعدة كما تقول.

لكن التاريخ السعودي القديم والحديث شاهد على أن العنف يمر بمراحل خمول ثم ينطلق مرة أخرى. وهذا الإنجاز السعودي الجديد ـ إن كان صحيحاً ـ فإنه لن يستمر، وسينفجر عاجلاً أم آجلاً. والسبب يعود الى حقيقة أن الوهابية مصنع فكري للعنفيين داخل وخارج السعودية، وأن الخلل العقدي التكفيري كان سلاحاً بيد آل سعود يستخدمونه ضد من يريدون، وخرج الآن من يدهم جزئياً، وأُعيد استخدامه ضدهم. فالوهابية التي كفرت العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه، لاتزال هي هي لم تتغير في مكنونها العقدي، ومن رحمها نفسها خرج من يكفر النظام ويدعو لإزالته.

مضاوي الرشيد والمحاكمة الكبرى

من هنا نرى الدكتورة مضاوي الرشيد تقول في مقالة لها عن (المحاكمة الكبرى) أن المحاكمة السرية للمتهمين إنْ (خرجت تفاصيلها الى العلن، فستكون بمثابة محاكمة مفتوحة للنظام ذاته، خاصة وان هذا النظام قد قام على نفس الفكر الذي يحاكمه اليوم. في الماضي قام النظام السعودي على فكرة تطهير البلاد من البدع، وهو غطاء جمع تحت أطيافه مشروعا سياسيا بحتاً ليست له علاقة بالبدع. وكان اسلوبه منذ البداية نفس الاعمال التي يتهم فيها هؤلاء المجتمعين للمحاكمة).

وتساءلت د. الرشيد: (ألم يكفر النظام السعودي وعلماؤه مجتمع الجزيرة العربية منذ القرن الثامن عشر الميلادي؟ ألم يرسل علماؤه الرسائل التي تنعت هذا المجتمع بأبشع النعوت حين شبهته بانه مجتمع منحرف أشد كفرا من كفار قريش قبل الدعوة الاسلامية؟ ألم يستعمل هؤلاء العنف في المدن والمساجد لقتل وترويع الابرياء في الحجاز والقصيم وعسير وحايل؟. ألم يقتل المصلون في المساجد ليس بسبب شركهم؟ وكيف هم مشركون وهم يقيمون الصلوات ويقرأون كتاب الاسلام؟. ألم يقطع مجاهدو النظام السعودي النخيل والاشجار ويحرقوا المزارع في مدن وقرى نائية؟. ألم يحولوا الجزيرة العربية الى ساحة حرب تدور رحاها من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب؟. ألم يقطعوا طرق الحج ويروعوا الحجاج، بعضهم منع من اداء فريضته والدخول الى مكة؟. ألم يأتوا بأيديهم الى خراب هذه الارض مما استدعى تدخلاً خارجياً يقضي على فتنتهم التي وصلت الى اقدس الاماكن وهددت السلام في مناطق متاخمة؟).

وتابعت: (التكفير المتهم به مجموعة الفئة الضالة العصرية، سمة من سمات تأسيس الدولة السعودية، والمتهمون الحاليون لم يخترعوا شيئا جديداً، بل انهم نتاج محلي لفكر قديم عمره اكثرمن 250 سنة، وأعمالهم التخريبية ما هي الا تطور طبيعي لهذا الفكر الذي يستعمل اليوم وسائل عصرية جديدة كالسيارة الملغومة بدل قطع الاشجار وحرق المزارع. اذن التكفير الحديث هو امتداد طبيعي للتكفير القديم. ولقد جدد هؤلاء تعلقهم بفكرهم وطوروه ليتلاءم مع متطلبات العصر الحديث. فبدل الخطب النارية التكفيرية ورسائل العلماء السابقة التي كانت تقرأ في المساجد بعد صلاة الجمعة، نحن اليوم امام اطروحات تكفيرية تنشر بوسائل عصرية خاصة الانترنيت. تعتمد هذه الرسائل على افكار علماء الدعوة النجدية، ونستطيع ان نجزم ان شخصا واحدا من المتهمين لم تكن مرجعيته من خارج نطاق هؤلاء الأئمة القدامى).

وتضرب مضاوي الرشيد مثالاً من المعتقلين وهو الشيخ الوهابي ناصر الفهد (والذي بين فيها ـ أطروحته ـ كفر من اعان الامريكان، في كتيب انتشر عند بدء الاستعدادات الامريكية لغزو افغانستان عام 2000 و2001. يستعمل ناصر الفهد نفس المنطق والمنهج الذي اعتمد عليه طيف كبير من علماء السعودية في القرن التاسع عشر عندما فر احد الامراء السعوديين وطلب مساعدة الوالي العثماني ضد احد منافسيه السعوديين. في هذه اللحظة صدرت فتاوى من الرياض تحرم مثل هذه المساعدة من الكفار، والمقصود هنا الدولة العثمانية ضد المسلمين الحقيقيين الذين بقوا في العاصمة السعودية حينها. كل ما قام به الفهد هو اسقاط الفتاوى السابقة على الحالة العصرية عندما حرم اعانة الغزاة الامريكان في حربهم ضد نظام طالبان والذي اعتبره النظام التقي الذي يطبق الاسلام ويرفع رايته، وهذا هو بالفعل موقف الحكومة السعودية والتي كانت قد اعترفت بنظام طالبان منذ بداية تأسيسه، ولم تقطع علاقاتها معه وتسحب اعترافها الا بعد الضغط الامريكي).

وأضافت الدكتورة الرشيد: (اذا كانت تهمة التكفير تهمة موجهة الى الفئة الضالة، فنفس التهمة تنطبق على تاريخ حافل بالأمثلة والوقائع التي تؤكد ان النظام السعودي قام على التكفير ذاته منذ أيامه الأولى. واذا انتقلنا الى الحرابة فهي ايضا سمة قديمة التزم بها السلوك السياسي للدولة حتى مطلع القرن العشرين. الاعمال التي تهدد امن المجتمع وتتلاعب بسلامته قد كانت وسيلة فعالة في ترويع مواطني الجزيرة وتشتيت شملهم وتهجيرهم من ديارهم. وبالاضافة الى اعمال العنف التي تزامنت مع تأسيس الدولة كانت هناك سلسلة من الاجراءات التي قوضت الامن الاقتصادي للبشر من مصادرة اراضيهم ومطاردتهم وتضييق سبل العيش عليهم، حتى هربت جموع كبيرة من قبائل الجزيرة الى دول الخليج المجاورة وبلاد الشام والعراق. اما الخروج على الحاكم فهو ايضا نمط قديم تأصل في الفكر الذي ادى الى نشوء الدولة الوليدة بالخروج على الدولة العثمانية الموصوفة بالكفر اولا، وبذلك بررت الدولة السعودية تملصها من السلطة المركزية. ليس هذا فحسب، بل ان هناك الكثير من رموز القادة السعوديين الذين خرجوا على اقاربهم وهددوا حكمهم بالزوال؟ ألم يخرج الامير المعروف بسعود الكبير على حكم عبد العزيز بن سعود عندما التجأ الى قبيلة العجمان واستنجد بها ليقوض الدولة في سنواتها الاولى؟. لم يحاكم هذا او يصلح فكره ولم يعتبر من الفئة الضالة. وكذلك ألم يخرج الملك فيصل على حكم اخيه الملك سعود في الستينات مما ادى الى خلع الملك بعد تدخل العلماء الذين افتوا بعدم اهلية سعود للحكم؟. هناك امثلة اخرى لا يسعنا ان نعددها هنا ولكنها مؤصلة في كتب ومراجع تاريخية تجعلنا نعتقد بأن هناك حبلا طويلا يربط ما يسمى الفئة الضالة الحالية بأصولها ومراجعها القديمة. معظم كتابات الفئة الضالة الحالية تعكس قراءة متعمقة وفهما جادا لمنابعها الفكرية، وليس سوء فهم كما تدعي الدولة السعودية وقضاتها. من ناصر الفهد الى سليمان العلوان مرورا بعلي الخضير وفارس الشويل نجد تواصلا فكريا عميقا بين الأئمة السابقين وممثليهم الحاليين. لم يأت هؤلاء بشيء جديد ولم يستحدثوا بدعة كذلك. لم تكن مرجعيتهم يوما ما سيد قطب او حسن البنا او غيرهم من اسلاميي مصر والعالم الاسلامي، بل كانت مرجعيتهم شيوخهم الراحلين وممثليهم الحاليين من شيوخ الصحوة قبل تراجعاتهم وشيوخ المؤسسة الدينية الرسمية من مات منهم ومن ما زال حيا).

وأخيراً خلصت د. مضاوي الرشيد من المحاكمات السعودية فقالت: (محاكمات الفئة الضالة لو قدر لها ان تكون علنية، فستستعرض معضلة النظام السعودي على الملأ، وهي معضلة دولة تنكرت لفكرها وبدأت تحاكمه من خلال مجموعة كبيرة من ابنائها. لو ان النظام يحاكم افراده على خلفية فكر مستورد او مبتدع جديد لكان الامر سهلا ومحسوما. لكن محاكمة الذات ستبقى اقسى محكمة في تاريخ الدولة السعودية. تتطلب محاكمة الذات قدرة اقناع كبيرة من اجل الفصل بين من ضل عن فكر الدولة ومن بقي مواليا له. انها عملية تمحيص ونبش للماضي وفكره واستئصال الامور التي قد تؤدي الى تفعيل عمليات التفجير والقتل والتدمير دون ان تفقد الدولة كل موروثها الفكري، لان فقدان هذا الموروث سيحدث فراغا وعدما لا تستطيع خطابات حوار الاديان والتقارب ان تملأه.. وان كانت هناك حقيقة ثابتة ارتبطت بقيام الدولة فهي تنطلق من كون فكر الدولة يأبى ان يروض ويدجن مهما كثرت المؤسسات المناطة بها عملية الترويض. منذ 1927 وحتى هذه اللحظة يشتعل هذا الفكر ويثور وتحاول الدولة اطفاء الحريق بمساعدة خارجية من طائرات بريطانية في العشرينيات من القرن المنصرم، الى كاميرات المراقبة في العصر الحديث واجهزة التنصت الحالية. وستبقى الدولة السعودية اسيرة الحلقة المفرغة التي تدور هي وانصارها بها دون ان تجد المخرج).

الصفحة السابقة