مؤتمر (حوار الأديان) وخسران السعودية

تصويب المواجهة باتجاه إيران بالتعاون مع إسرائيل

عبد الوهاب فقي

دولة تحتضن أهم المقدسات الإسلامية، وتمثل العالم الإسلامي، وتدعي أنها تطبق الشريعة.. دولة بحجم السعودية المالي والديني والسياسي، خرجت خاسرة من مؤتمر نيويورك للأديان.

مقياس الخسارة نلمسه في أمرين أساسيين:

الأول، أن السعودية أضافت الى انحطاط سمعتها بين العرب والمسلمين الكثير. والسمعة السعودية تنعكس على نفوذ السعودية في العالم الإسلامي، وانهيار تلك السمعة المتزايد يوماً بعد آخر، لا شك أنه يقلص من ذلك النفوذ، ويحط من تلك المكانة. والسعودية خسرت خلال السنوات العشر الماضية الكثير من سمعتها، ولا نريد أن نعود الى خسارتها في عام 1991، ابان حرب تحرير الكويت وقدوم القوات الأجنبية الى أراضي السعودية.

في السنوات الماضية خسرت السعودية شيئاً فشيئاً معظم رصيدها الشعبي، سواء بسبب موقفها المتخاذل في أفغانستان، وقيادة الحرب الأميركية من قاعدة في الرياض، أو بسبب موقفها من العراق، وزادت الخسارة بسبب موقفها المماليء للصهاينة في حرب تموز 2006م، ثم خسرت شعبياً بسبب موقفها ضد دمشق، وبسبب غيابها عن ساحات تحتاجها مثل الصومال وغيرها. وحتى الباكستان التي يتمتع السعوديون ومذهب الوهابية فيها بزخم شعبي، تقلصت المكانة السياسية للسعودية بين الأحزاب والتجمعات الى حد كبير.

عبد الله وبيريز، لم يتصافحا علناً.. ولكن..

ويأتي مؤتمر نيويورك، ليسوّد وجه الحكام السعوديين، فهذه القضية لا علاقة لها بصراع طائفي تستثمره السعودية وتحرك مشاعر الجمهور المسلم من خلاله باتجاهات تخدم الموقف السعودي. بل أن الفرز صار واضحاً سياسياً. أميركا والسعودية واسرائيل والأنظمة الأخرى في جهة، مقابل شعوب تكره هؤلاء جميعاً، كما تكره مؤسسة الأمم المتحدة ومجلس الأمن غير المحايد تجاه القضايا العربية والإسلامية.

ربما (يبيّض) المؤتمر وجه آل سعود كسلطة سياسية بين دول العالم، خاصة الغربية، كون السعودية تظهر بوجه منافق غير وجهها الحقيقي، فتزعم التسامح والحوار. ولكن الخسارة أكبر من ذلك بكثير.

ثانياً، إن العائلة المالكة القلقة من موقف الغرب إزاءها، وتراجع اهتمام الغرب بها من الناحية السياسية للمساهمة في حل أزمات المنطقة ضمن الوجهة الغربية، مع إبقائها (بقرة حلوباً) في المضمار الإقتصادي والمالي.. هذه العائلة تريد إعادة الإعتبار لنفسها، وإعادة تأكيد مكانتها ومشروعيتها الخارجية، خاصة وأنها تعرضت لحملات انتقاد لتخلف نظامها السياسي والقضائي، ولانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان.

وهنا جاء مؤتمر نيويورك ليحل هذه الجزئية من الأزمة التي يواجهها النظام. اي الأزمة مع الخارج (الدولي).

لكن مؤتمر نيويورك ساهم في تآكل رصيد النظام ومشروعيته الداخلية. فهناك إجماع محلي على رفض المؤتمر حتى من الطبقة اللصيقة بالنظام نفسه. الإجماع السياسي الشعبي يرفض المؤتمر، ويرفض تطبيع العلاقات مع اسرائيل، ويرفض اية خطوة في هذا الإتجاه، خاصة وأنها تترافق مع حملة مسعورة من السعودية ضد المقاومة الإسلامية في فلسطين ولنهج المواجهة مع اسرائيل.

الحكم السعودي اليوم في أدنى مراتب تقلص مشروعيته الداخلية. فالجمهور العام يئن من وطأة الغلاء، ومن انهيار سوق المال، ومن تزايد عدد الفقراء (30% تحت خط الفقر، ومجموع الفقراء يزيد عن نصف الشعب، و55% من الشعب بلا مساكن، ومليون ونصف المليون عاطل عن العمل). زد على ذلك، فإن مكانة النظام السياسية مهزوزة، فلا إصلاحات ولا حريات، ولا تغيير إلا الى الأسوأ. ومن المؤكد أن اهتزاز مشروعية الحكم ستنعكس على الإستقرار السياسي بصورة أو بأخرى.

إجماع عربي وإسلامي على رفض المؤتمر

كان واضحاً منذ البداية ذلك الجانب السياسي التطبيعي للمؤتمر، حيث احتل السياسيون واجهته، فيما توارى رجال الدين الرسميون الى الخلف، بالرغم من أن الحوار ديني، ويعنى بالقيادات الدينية. وقد لوحظ أن عدد حضور الشخصيات الدينية أقل مما كان في مؤتمر مدريد، حتى من بلد المضيف (السعودية) فيما اعتذرت شخصيات دينية عديدة عن الحضور، خشية من (التلوث السياسي) خاصة بعد الجدل الذي أثير حول المؤتمر. فقد انتقد سليم الحص، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق السعودية لتبنيها المؤتمر، ثم تراجع بسبب الضغط السعودي، ثم عاد مرة أخرى منتقداً إياه مرة أخرى، كما انتقد السعودية نجاح واكيم، النائب اللبناني السابق، وشخصيات دينية سنية في لبنان، كما انتقده حزب الله في بيان له، ثم جاء السيد حسن نصر الله فألقى خطابا دعا فيه الدول العربية (لمنع القتلة مرتكبي جرائم الحرب من حضور المؤتمر، فما صلة بيريز مرتكب المجازر وليفني وغيرها من الصهاينة بالأديان). وأكّد نصر الله على (أن إسرائيل هي دولة مجرمة عنصرية إرهابية، والحركة الصهيونية هي حركة عنصرية، إلا إذا تخلت الجامعة العربية عن هذا التوصيف). ودعا نصر الله العرب (للعمل على طردهم ـ الصهاينة ـ من المؤتمر أو أن يقف بيريز للتحدث عن حوار الأديان، وفي أي زمن؟ في الزمن الذي يشدد فيه الحصار على أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة؟ في اليوم الذي تتزايد فيه إعتداءات الصهاينة على الفلسطينيين في الضفة، يكرم بيريز ويقدم له منبر حوار الديان).

وكانت جماعة (الإخوان المسلمون) المصرية قد انتقدت المؤتمر بشدة، ووصفه عضو مكتب الإرشاد في الجماعة الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح بأنه (مؤتمر سياسي بامتياز، لا دخل للأديان فيه، والحاضرون هم سياسيون، وهو المحطة الثالثة في سلسلة من المؤتمرات التي تنظمها قيادة السعودية لتبييص صورتها بعد أحداث 9/11). واستنكر ابو الفتوح بشدة الزج بالدين في حملة وصفها بأنها من (طبيعة العلاقات العامة) وقال: (أنا أفهم أن من حق السعودية أن تدافع عن نفسها وتبيض صورتها، لكنني لا أفهم حقيقة لماذا يتم الزج بالأديان.. ليس بإسم الدين الذي هو بعيد كل البعد عن هذه المؤتمرات، إذ لا معنى أصلاً لرفع شعار حوار الأديان). واستبعد أبو الفتوح أن يكون للمؤتمر أي مردود سياسي إيجابي لصالح العرب والمسلمين، ورأى في حضور شخصيات سياسية اسرائيلة تحقيق (مكاسب للصهيونية العالمية وللأمريكيين لجهة التطبيع مع العالم الإسلامي، لكنه لن يحقق شيئاً لصالح العرب والمسلمين).

من إيجابيات المؤتمر!

وإزاء الحملات السياسية ضد المؤتمر، اضطر عبد العزيز الخوجة، السفير السعودي في لبنان، الى القول بأن السعودية لم تدعو اسرائيل الى المؤتمر وإنما الأمم المتحدة هي من وجه الدعوة. ولكن العالم يعرف بأن السعودية وراء المؤتمر وهي التي ستدفع تكاليفه، بما فيه تكاليف الوفد الإسرائيلي، وأن ما جرى من جهة توزيع الدعوات، لا يعدو تحايلاً سعودياً، بحيث يتبنى السعوديون المؤتمر، وتقوم الأمم المتحدة بتوجيه الدعوات بالنيابة ويكون تحت مظلتها.

وحين تزايدت الإنتقادات بشأن احتمال لقاء مصافحة بين الملك عبدالله وبيريز، وكيف أن وجبة العشاء ستضمهما معاً، وأن الملك السعودي سوف يستمع لخطاب بيريز، سربت السعودية خبراً الى صحيفة الوطن السعودية نشرته يوم بدء المؤتمر يقول على لسان مصدر سعودي رسمي، بأن الرئيس الإسرائيلي أُبلغ من قبل مسؤولين في الأمم المتحدة ألا يحاول مصافحة الملك عبدالله قبل أو بعد الكلمة التي سيلقيها الملك في الجمعية العمومية. وزعم المصدر السعودي بأن الإجتماع ليس سياسياً وإنما ديني في محاولة منه إخفاء طابع التطبيع الواضح بين العرب والمسلمين من جهة وبين الكيان الصهيوني. وأضاف المصدر بأن الاجتماع لا يهدف إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي وإنما يتوجه إلى أهداف أكبر بتعزيز التعاون بين أتباع الأديان وجعل الأديان سببا للتعاون والاتفاق!.

وكان الملك السعودي قد اجتمع على حاشية المؤتمر مع وفد من الشخصيات العامة ورجال دين كبار، بينهم زعماء يهود. وكان من بين اليهود الذين تلقّوا دعوات للقاء الملك السعودي، قياديي الكونغرس اليهودي العالمي، رونالد لاودر والحاخام الأرثوذكسي مارط شنيؤر. ولم تستبعد مصادر عربية مغربية واسرائيلية أن يلتقي الملك السعودي بالرئيس الإسرائيلي بعد انتهاء المؤتمر، خاصة وان أنباءً تحدثت عن وساطة مغربية ومصرية لعقد لقاء بين الطرفين، وهو ما أكدته صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية، التي أضافت: (يبدو أن السعوديين والإسرائيليين سيهتمون خارج قاعات المداولات بالخطوات السياسية وبمبادرة السلام، في ضوء تزايد الحديث الإسرائيلي عن الاستعداد للتفاوض على أساس المبادرة العربية). ولفتت النظر إلى أن (التقدير هو أنه في حال عقد لقاء بين بيريز والملك السعودي أو مع مستشاريه الكبار، فستبحث السبل لتحريك المبادرة السعودية).

بيريز يخطب والملك والعرب يستمعون

خطاب الملك عبدالله في المؤتمر، كان عادياً. كلام منمق مكتوب بعناية، تطغى عليه الشعارات الإنسانية، التي لا يؤمن بها معظم المؤتمرين بمن فيهم القارئ، وهو الملك، الذي لم يكن يجيد ما يقرأ، كما هي العادة، ووقع في عشرات الأخطاء النحوية، وكاد (يخربط) في قراءة الآية التي اختتم بها خطابه.

لكن هذا لم يبعد الموضوع السياسي، فقد جاء في خطاب الملك دعوته إلى قيام جبهة موحدة ضد الإرهاب (عدو كل الأديان) وإلى تشجيع التسامح بينها. وهذه الدعوة جدير بالملك أن يعمل بها في بلده، حيث الوهابية عدوة الأديان، وعدوة التسامح والحوار حتى مع المواطنين المسلمين من اكثرية الشعب السعودي، هذا اذا كنا اعتبرنا الحاضرين أصلاً ممثلين للأديان، إن لم يكونوا في الواقع أعداءها ومستغليها خدمة لأغراضهم السياسية.

السعودية تحاول استكشاف دورها الدولي، وهي تريد أن تكون رأس حربة في (مشروع مكافحة الإرهاب) مثلما كانت في السابق رأس حربة في مكافحة الشيوعية التي انتهت. سبب انتهاء الشيوعية تقلصاً لدور السعودية الإقليمي والدولي، وكانت هنك صعوبات ولاتزال في ان تلعب السعودية دوراً في محاربة الإرهاب بنسخة المشروع الأميركية، لأن السعودية قائمة على أيديولوجية إرهابية فرخت الإرهاب الذي يشكو منه الغرب كما يشكو منه العرب. فهل تستطيع السعودية مكافحة ذاتها أيديولوجيا، وحلفاءها الايديولوجيين الوهابيين الذين يشاركون في العنف في كل مكان في الدنيا، فيما تحتضنهم داخلياً وتزيد من تسمينهم وتقويتهم لمكافحة خصومها المحليين عبر التكفير والتهديد بالقتل؟

لم يصدق أحد أن السعودية جادة أو حتى قادرة على مكافحة الإرهاب الذي انطلق من بيئتها، كما لم يصدق حلفاء السعودية أنفسهم أن السعودية صارت دولة متسامحة حتى مع مواطنيها فضلاً عن أن تكون متسامحة مع الأديان الأخرى. لهذا ـ وقبل المؤتمر العتيد ـ أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش بياناً في 11/11/2008 دعت فيه قادة العالم لممارسة ضغوط على الملك السعودي لإنهاء التمييز الطائفي والديني المنظم في السعودية. وقالت سارة ليا ويتسن من المنظمة: (لا توجد حريات دينية في المملكة العربية السعودية، ومع ذلك تطالب المملكة العالم بأن يستمع إلى رسالتها حول تسامح الأديان)، وأضافت: (الحوار يجب أن يكون حول الأماكن التي يتعمق فيها التعصب الديني، وهذا يشمل العربية السعودية). وانتقدت المنظمة عدم تسامح السعودية مع مواطنيها والمقيمين الذين يمارسون معتقداتهم المختلفة، أو الإسلامية منها التي لا ترضى عنها الوهابية.

وأشارت المنظمة الى تقريرها المطول الذي أصدرته في سبتمبر الماضي عن (الإسماعيليين) في السعودية الذين يبلغ تعدادهم نحو مليون نسمة، والذين يواجهون تمييزاً رسمياً في الوظائف الحكومية، ويقوم كبار المسؤولين علنا بالانتقاص من ولائهم، ويحظرون عليهم القيام بتعليم معتقدهم الديني أو بناء مساجد جديدة لهم. كما يتم التمييز ضد الإسماعليين ضمن القانون الديني المطبق في النظام القضائي السعودي بأكمله. وسبق أن قام القضاة الوهابيون بمنع المحامين من الطائفة الإسماعيلية من دخول قاعات المحاكم وقاموا بتطليق رجل إسماعيلي من زوجته السنية معتبرين أن الرجل غير ملائم دينياً لها.

وأشارت المنظمة الى معانة شيعة سعوديين من غير الطائفة الإسماعيلية أيضاً من تمييز مُنظم لسنوات طويلة، فهناك نحو مليوني سعودي من الشيعة الاثني عشريين يعيش أغلبهم في المنطقة الشرقية. وفي أكتوبر/تشرين الأول قام عالم دين سعودي له أتباع في أرجاء المملكة بإطلاق فتوى دينية يُحرم فيها على المسلمين السنة بيع ممتلكاتهم إلى الشيعة (لأن في هذا مساعدة لهم في إظهار دينهم الفاسد وعقيدتهم السيئة).

الملك يلقي كلمته في نيويورك

وأخيراً قالت سارة ليا ويتسن: (على المملكة العربية السعودية أن تمارس داخلياً ما تعظ به في الخارج).

حتى البيت الأبيض، لم يعر بالاً لدعوات عبدالله التسامحية في خطابه للمؤتمرين. فقد أعلن أن العاهل السعودي يعرف أن (أمام بلاده طريقاً طويلاً لتحقيق تسامح الأديان). وقالت دانا بيرينو المتحدثة باسم البيت الأبيض في رد على سؤال حول حظر السلطات السعودية ممارسة شعائر أديان أخرى غير الإسلام، بأن بوش يرحب بالمؤتمر ولكنه (يعتقد أن ملك السعودية قد أدرك أن أمام بلاده طريقا طويلا، وإنه يحاول القيام ببعض الخطوات في هذا الاتجاه).

المتميز الذي كال المديح لآل سعود ولاعتدالهم وتسامحهم، هو الرئيس الإسرائيلي، فحين وقف على منبر الأمم المتحدة ليخطب، في حين ان الملك السعودي والوفود العربية تستمع (والعادة هي أن يقوموا بمغادرة القاعة!)، قال بيريز مخاطباً الملك عبدالله: (صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية، لقد استمعت لرسالتك، وآمل أن يصبح صوتك هو السائد في المنطقة كلها بين كل الشعوب، فهو على صواب، وهناك حاجة إليه وهو واعد). وفي المؤتمر الصحافي قال بيريز: (نشهد اليوم بداية قصة جديدة لا نهاية قصة. المؤتمر غير مسبوق لأن السعودية تمثّل الصوت العربي المحترم كثيراً. مبادرة الخرطوم القائمة على اللاءات الثلاث حلّت محلها المبادرة السعودية التي أصبحت المبادرة العربية).

وأضاف بيريز: (المبادرة العربية مبادرة إسلامية لأن العالم الإسلامي دعمها... إننا جديون، بنينا جيشاً قوياً. بفضل الجيش القوي، اختار العرب الجيران التوجه إلى السلام. الحرب لا تحل محل الديموقراطية. العالم العربي منقسم بين مذاهب من سنة وشيعة). وتابع: (ليست هذه المرة الأولى التي نلتقي بها مع الملك عبد الله. بل تم ذلك سابقاً في الجمعية العامة العام الماضي. ونحن نعيش في ديموقراطية، والأساس هو أن نكون مختلفين. لقد خاطبت الملك مباشرة لا سراً. الملك يريد أن يبني تفاهماً بين العرب واليهود، وهو يواصل أداء دور مرموق في العالمين العربي والإسلامي). وختم بيريز حديثه بالقول: (إن ما يجمع العرب واليهود: الأنبياء المشتركون والأصل المشترك).

مؤتمر السعودية تظاهرة ضد إيران

السعودية مشغولة بإيران، أكثر مما هي مشغولة بأي موضوع آخر، لا فلسطين ولا العراق ولا أفغانستان.

عدم وجود أفق حل للقضايا العربية والإسلامية، يجعل من إيران حاضرة فيها كلها وبطريقة منافسة للنهج السعودي الخانع في أقل التقادير.

لهذا، فإن السعوديين حريصون على التخلص في أسرع وقت من الملف الفلسطيني والأزمة الفلسطينية. لقد أصبحت القضية الفلسطينية من (مشرعن) للأنظمة العربية عبر الإرتباط بها والدفاع عنها وحتى المزايدة عليها، الى قضية خسر فيها المعتدلون العرب (شرعيتهم)، وفي مقدمتهم السعودية ومصر، نظراً لمواقفهم الصادمة للراي العام العربي، ووقوفهم ضد أي مقاومة لإسرائيل، وتشجيعهم حصار غزة، ولهاثهم وراء مشاريع سلمية أشبه ما تكون بسراب، وحتى لو تحققت تلك المشاريع فهي لن ترتد على الأمة خيراً.

السعودية تريد أن تتخلص من الملف الفلسطيني بسرعة. وهذا الملف ترى أنه عبء عليها، رغم أنها لا تساهم فيه إلا بالسلب والحصار، ورغم ان السعودية ليست دولة مواجهة، بل هي بالتضاد مع مواقع المواجهة في سوريا ولبنان وفلسطين.

لكي تتفرغ السعودية لمواجهة إيران بتحالف غربي اسرائيلي عربي، فإنها بحاجة الى تهدئة او حلحلة القضية الفلسطينية كيفما كان. لهذا كان المؤتمر في نيويورك مناسبة لإعادة الإعتبار للمبادرة السعودية (العربية). ولقد مهدت السعودية ـ أو تظن ذلك ـ الرأي العام العربي لتقبل أن العدو الحقيقي هو ايران وليس اسرائيل، وان الخطر الإيراني أعظم من الخطر الإسرائيلي، وأن هناك إمكانية للتحالف مع اسرائيل لتقليم أظافر إيران وحتى إسقاط نظام حكمها.

لا بدع أن تكون دعوات بيريز المستمرة وكليشيهاته المكررة: (ايران خطر ليس على اسرائيل فحسب وإنما على العرب أيضاً) والتي كررها في نيويورك أيضاً، وأنه لا بد من تحالف لمواجهة الخطر المشترك.. لا بدع أن تلقى هذه التصريحات اهتماماً وأذناً سعودية بشكل خاص. فالخاسران المتضرران في النفوذ والمكانة: السعودي والإسرائيلي، لا تفصلهما مسافة ذهنية أو سياسية أو مصلحية تمنعهما من العمل المشترك وتهيئة الأجواء الإقليمية والعالمية لحرب ضد إيران أو على الأقل هجوم يدمر قواها العسكرية ومنشآتها النفطية والنووية، بحيث تشارك السعودية بالتمويل واسرائيل بالتخطيط والضرب بالتعاون مع الولايات المتحدة.

ولأن المتضررين الخاسرين متألمين معاً من وصول اوباما الى الحكم، وأنهما يشتركان في نقد موقفه إن أراد الحوار مع ايران، فإنهما يأملان معاً أن تأتي فرصة سياسية تغير فيها الإدارة الجديدة بوصلتها باتجاه التصعيد، ومن ورائها الكيد الصهيوني والمال السعودي.

لهذا، كان مؤتمر مدريد، بمثابة جمع لعرب الإعتدال الفاشلين مع اسرائيل، بغرض تهدئة الجبهة مع اسرائيل، وتصعيدها مقابل إيران. لم يكن غريباً ان يقول بيريز في خطابه في المؤتمر: (الأسلحة النووية والصواريخ البعيدة وخطاب الحقد تحدّد جدول عملنا، ويجب علينا جميعاً أن نغيّر جدول عملنا) في إشارة إلى البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانييين. ولكن كيف نغير جدول الأعمال؟ أليس بمبادرات سعودية، سلمية كما في بيروت وقبلها فاس، وحوارية تسامحية كما في نيويورك؟!

أي أن هناك تسامحاً سعودياً وهابياً مع العدو الإسرائيلي، وعداءاً متأججاً يأخذ منحى طائفياً وقومياً مقابل إيران، مع أن عنوان المؤتمر النيويوركي حمل عنوان: (إشاعة لغة التسامح والاعتدال بين الأديان السماوية الثلاثة)، إلا أن المؤتمرين ومعظمهم من السياسيين جعلوا جهودوهم تصب في خانة التحذير من (الخطر الإيراني).

انفجار دمشق وراءه انتحاري سعودي

وكانت صحيفة الأخبار اللبنانية 13/11 وعبر مراسلها نزار عبود قد أشارت الى أن حفل العشاء الذي جمع المؤتمرين، تضمن كلمة لبيريز وبحضور زعماء ورؤساء وزراء كل من اليمن وقطر والكويت ومصر، دعاهم فيها إلى الاتحاد لمواجهة (خطر إيران في السيطرة على الشرق الأوسط. وإلى اعتبار إيران خطراً على الدول العربية، فضلاً عن إسرائيل). وبعد العشاء كرر بأن (المؤتمر يشكّل مسعى لوقف محاولات إيران السيطرة على الشرق الأوسط. وهذا يشكل خطراً يتجاوز القنبلة النووية).

أمّا وزيرة خارجية إسرائيل، تسيبي ليفني، التي تحدثت في المؤتمر الصحافي مع بيريز، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك حين طالبت بالعمل على تغيير الخطاب الإسلامي المتطرف. وقالت (نريد تغييرات في المساجد ودور العبادة والرسالة التي يعلّمونها للأجيال كما يحدث في مساجد غزة). ورأت أن رسالة الملك عبد الله (مهمة لمنطقتنا. وهي بداية لصراع مشترك ضد المتطرفين قبل فوات الأوان). وأضافت ليفني أن (الطريق إلى النجاح تقضي بمواصلة العمل مع المعتدلين وقياداتهم)، ورفعت شروط التهدئة مع حماس لتشمل (الحاجة إلى وقف الاستعداد لمهاجمة إسرائيل، لا إلى وقف الهجمات).

توتر متصاعد مع إيران وسوريا

يبدو أن الإيرانيين واعون جيداً لاستهدافات مؤتمر نيويورك، وبدا أن خطابهم الإعلامي خلال الشهرين الماضيين في حالة تصاعد ضد السعودية، بعد أن كان الصمت وعدم الرد على الإساءات السعودية سيد الموقف. فقد هاجمت إيران وإعلامها مؤتمر نيويورك، وأنحت باللائمة على الحكومة السعودية في دعمها للإرهاب والتطرف والجماعات الوهابية التي تفتك بالأبرياء، والتي شملت إيران أيضاً. ويظهر أن ذلك جاء رداً على تصاعد الحملة التعبوية الطائفية والسياسية والإعلامية السعودية والتي جندت لها العربية وإيلاف والشرق الأوسط فضلاً عن الصحف المحلية التي تهول الخطر الإيراني وتدعو لمواجهته لأنه (عدو السنّة).

وتحدثت أنباء قيل أن إيران سرّبتها لوسائل إعلامية بأن الإخيرة بعثت برسائل الى الحكومة السعودية تحذرها مما أسمته بالتصعيد الإعلامي والسياسي غير المبرر ضدها، والعمل بشكل مباشر للإضرار بالمصالح الإيرانية الإقتصادية. وتقول هذه التسريبات بأن مبعوثاً إيرانياً رفيع المستوى سيزور السعودية قريباً، للطلب من المسؤولين السعوديين بوقف تدخلاتهم في الشأن الإيراني ودعمهم لجماعات انفصالية في بلوشستان وخوزستان، سبق لصدام حسين أن دعم الأخيرة منها.

ولاحظت مصادر إعلامية أن هناك حملة إعلامية سياسية واقتصادية واستخباراتية تقودها السعودية ضد ايران، مدفوعة بالخسارة الكبيرة لنفوذها الإقليمي واضمحلال دورها في السياسة الدولية. وقالت المصادر بأن السعودية تكرر تجربة صراعها في الثمانينيات الميلادية الماضية ولكن مع تغير الظروف، وفقدان الإجماع العربي، وضعف الحليف الأميركي.

كما لاحظت تلك المصادر أن هناك ثلاث قضايا سترسم خارطة العلاقات السعودية الإيرانية في الأشهر الأولى من حكم باراك أوباما. الأولى، تتعلق بالخلاف حول النفط إنتاجاً وأسعاراً. وقد اشتدّ الخلاف في الإجتماع الأخير لأوبك بين السعودية وإيران حول مسألة خفض الإنتاج، واتهمت ايران السعودية بأنها أحد المسببين لهبوط الأسعار والإضرار بدول الأوبك، بسبب تجاوزها لحصصها الإنتاجية وقبولها بالضغوط الغربية لزيادة الإنتاج. واتهم وزير النفط الإيراني زميله السعودي، حسب تلك المصادر، بأن السعودية تريد إيذاء إيران بالتحديد من خلال تقليص عوائدها النفطية، والهبوط بالأسعار الى مستويات دنيا، وهو أمرٌ فعلته من قبل في منتصف الثمانينيات الميلادية. ويقول مراقبون أن السعودية لا تخفي قلقها من زيادة عوائد النفط الإيراني، ما يمنح السياسة الإيرانية الخارجية أسناناً إضافية، كما أن السعودية تأمل بأن تؤدي العوائد المنخفضة من النفط الى تعويق المشروع النووي الايراني الخاص بالطاقة السلمية.

الموضوع الثاني للخلاف السعودي الإيراني يتعلق بسياسة إيران الخارجية في المحيط العربي، سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين، حيث مني النفوذ السعودي بخسائر فادحة، مع تراجع للدور الأميركي وفشله. ويعتقد المسؤولون السعوديون بأن إيران قد تمددت في نفوذها ولا يمكن مكافحتها إلا بالمصادمة المباشرة. وكانت أطراف في العائلة المالكة، ويشار هنا الى الأمير بندر بن سلطان، تأمل بأن تعمد إدارة بوش الى مهاجمة إيران عسكرياً لتحطيم برنامجها النووي وطموحاتها السياسية. وبالرغم من أن مؤشرات صراع ايراني مسلح قد تراجعت، فإن السعوديين يخشون من صفقة ايرانية اميركية تكون على حسابهم وعلى حساب حلف المعتدلين. وتعتقد السعودية بأن لا خيارات لديها إلا المواجهة مع سوريا وإيران، حتى لو تراجعت الدول الأخرى، ما يجعل الأزمة السعودية الإيرانية تميل الى التصاعد.

وأما الموضوع الثالث فيتعلق بالحملات الإعلامية السعودية التشهيرية ضد إيران، والتي يرى الإيرانيون أنها تتصاعد كما وكيفاً، ولم تكتف بإشعال الفتنة الطائفية التي يقول الإيرانيون أن السعوديين يحلمون بأن يستعيدوا دورهم عبرها.

وحسب المحللين، فإن الأكثر إقلاقاً لدى الحكومة السعودية، هو احتمال ان تتوصل ايران واميركا الى اتفاق تقاسم نفوذ في الشرق الأوسط، ما يجعل السعودية مهمشة سياسياً وغير قادرة على لعب دور لا على الصعيد الخليجي ولا على الصعيد العربي (الفلسطيني واللبناني تحديداً).

من جهة سوريا، فإن مصادر سورية مطلعة قالت بأن الحكومة السعودية لا تزال مصرّة رفض المصالحة مع دمشق، وأنها لاتزال تعتقد أن بالإمكان إسقاط النظام في سوريا، بالتنسيق مع الإستخبارات الإسرائيلية، وأن مهندس هذا التوجه هو الأمير بندر بن سلطان، الذي يشغل منصب الأمين العام لمجلس الأمن الوطني السعودي. ولاحظ دبلوماسيون غربيون في السعودية أن اللهجة السعودية تجاه دمشق لاتزال في أقصى حدودها من التوتر. فيما أفاد دبلوماسي عربي بأن السعودية لا تتحمل وجود أقوياء ولا أية قوة سياسية عربية تنافسها، وبالتالي فهي تعمد على تحطيمها. وأشار الدبلوماسي كدليل على ذلك الى الموقف السعودي من عبدالناصر ومن صدام حسين والآن مع الأسد. وكان وليد المعلم قد قال في تصريحات سابقة بأن السعودية لا تريد تطبيع العلاقات مع بلاده، وان تصريحات سعود الفيصل بهذا الشأن يفهم منها عدم رغبة السعودية وساطة اكثر من طرف عربي لإصلاح العلاقات بين البلدين.

وتأخذ سوريا على السعودية دعمها لمحاولة انقلابية في الجيش حدثت في شهر اكتوبر 2007، كما يتهم السوريون السعودية بتمويل نشاط جماعات سلفية في لبنان وسوريا للعمل على الإضرار بالأمن الداخلي، وكان آخرها قيام سلفي سعودي بتفجير انتحاري في دمشق، راح ضحيته العشرات. في حين ترى السعودية ان ليس بالإمكان عزل سوريا عن ايران، وأن اسقاط النظام السوري سيحدث التوازن المذهبي المطلوب في المنطقة بعد سقوط النظام العراقي (السنّي من وجهة نظرها).

وسبق للتلفزيون السوري أن بث اعترافات لمعتقلين من جماعة (فتح الاسلام) المموّلة سعودياً واتهمتها بأنها وراء تفجير دمشق في 27 سبتمبر الماضي وأسفر عن مقتل 17 وجرح 65 شخصاً. وكشفت الاعترافات عن أن الانتحاري الذي نفّذ عملية التفجير هو سعودي ويدعى (أبو عائشة).

وجاء في اعترافات منفذي الهجوم أن تيار المستقبل سعد الحريري هو أحد ممولي التنظيم، فيما ذكرت وفاء العبسي، إبنة مسؤول تنظيم (فتح الإسلام) الذي مازالت الأنباء متضاربة بشأن مصيره، بأن التنظيم يتلقى مساعدات من شخصيات سعودية مثل السعودي عبد الرحمن اليحيى (أبو طلحة) بالإضافة إلى أشخاص آخرين قالت بأنها لا تعرف أسماءهم.

وكانت تقارير صحافية وأمنية ذكرت بأن تنظيم (فتح الإسلام) تشكّل من عناصر سعودية وأخرى أردنية وفلسطينية وسورية ولبنانية وبتمويل سعودي بهدف إحداث فوضى في لبنان بعد حرب تموز 2006، وقد تعهّد الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي، للإدارة الأميركية بأنه سيقوم بضبط عناصر التنظيم للحيولة دون توجيه عملياتهم ضد المصالح الأميركية في المنطقة، فيما اتّهمت القيادة السورية بان التيار السلفي في الشمال اللبناني يشكّل تهديداً للأمن السوري.

وأضافت وفاء شاكر العبسي ان (التنظيم حصل على أموال من التيارات السلفية ومنهم كثير من السعوديين المنظمين، بينهم ابو رتاج وابو يوسف السعودي الموجودين في طرابلس بلبنان وكذلك من تيار المستقبل وبنوك تابعة لتيار المستقبل). وقالت (أنها سألت والدها عن العلاقة مع تيار المستقبل ومواصلة العلاقة معه، فاجابها نحن لسنا واثقين منهم، ممكن ان تتبدل هذه العلاقة لمصلحة أو لتيار سياسي).

وقدم التلفزيون السوري شخصاً عرّفه بأنه المسؤول الأمني والمتحدث الرسمي باسم فتح الاسلام عبد الباقي الحسين ابو الوليد السوري الجنسية من معرة النعمان (ادلب)، ويعد الرجل الثاني بعد شاكر العبسي، وقد قال: (ان المسؤول عن تفجير السيارة المفخخة في المتحلق الجنوبي مدخل السيدة زينب هو ابو عائشة السعودي الذي قتل فيها).

الصفحة السابقة