الغرب يفرض على السعودية مبدأ:

شركاء في المغرم والمغنم

محمد السباعي

نجزم بأن تصريحات الملك عبد الله في 25 أكتوبر الماضي حول الحرب الإقتصادية الخفية كانت بمثابة تثبيت تهمة أكثر من كونها دفاعاً عن موقف كان ينوي الملك عبد الله يتخذّه في مرحلة ما. فالإجتماع الذي عقده الملك مع وزير الثقافة والإعلام إياد مدني ورؤساء تحرير الصحف والمجلات السعودية أريد منه تحقيق أكبر درجة من التشبيع الإعلامي لقضية تبدو من تصريحات الملك عبد الله والتطوّرات اللاحقة أنها بالغة الخطورة، بل تنذر بأوضاع إقتصادية كارثية، أو على الأقل توفير غطاء إعلامي لقضية أخرى يصعب الدفاع عنها إلا على طريقة (من يعطي إشارة لليمين وينعطف يساراً)، أي أن الرجل ينوي على شيء فأراد من الإعلام أن يظهر الخطأ في هيئة أخرى، يظهر فيها الملك أحرص من أنبياء القومية والوطنية في العالم فيما هو يواري جناية كبرى في الثروة الوطنية، حيث شكل السرقة يأخذ بعداً كونياً.

بدأ الملك بإطلاق توجيهات ذات طبيعة إيديولوجية وأخرى إقتصادية بما تمليه من موقف إعلامي موحّد بقوله (أنتم من هذا البلد واليه ومهما عملتم يطلب منكم المزيد لخدمة دينكم ووطنكم..أنتم الآن تعرفون ماذا يحصل في العالم كله وأحب أن أقول لكم اني أعتقد أن العالم الآن في حرب خفية حرب اقتصادية). حسناً، ولكن السؤال: لماذا تتصاعد النبرة الوطنية في مثل هذه المناسبة؟ مع أننا ندرك تماماً بأن إحضار الوطن في هذه المناسبة يعكس درجة الخطر، وحساسية الموضوع المراد طرحه وتبنيه من قبل الإعلاميين من أجل تبرير وتمرير الخديعة. وهو ما يكشف عنه لاحقاً حين ذكّرهم بأن (لا بد أن تراعوا هذا كله وأن تراعوا مصلحة الدين والوطن لا مصلحة أشخاص لأن الاقتصاد هو أساس كل شيء). ليست الفقرة الأخيرة (الإقتصاد هو أساس كل شيء) تعبيراً عن نزوع ماركسي لدى الملك، ولكنه إشارة إلى الخطر المحدق بالوضع الإقتصادي الداخلي، وكأنه أراد حصر هدف الإجتماع بالإعلاميين في البعد الإقتصادي فحسب.

محاولة إدراج الملك الأزمة الإقتصادية التي تشهدها البلاد في سياق مؤامرة، يراد منها إعفاء سياسات بلاده من المسؤولية، وبالتالي تحميل جهة مجهولة ما يجري لتضليل الرأي العام المحلي. ما يثير الدهشة والسخرية في آن أن يطلب الملك من الرعية الحفاظ على الثروة الوطنية، فيما يعلم كل مخلوق بشري في هذا الكون أن الثروة هي تحت سيطرة العائلة المالكة التي يرأسها الملك حالياً. خاطب الملك الإعلاميين قائلاً أن (بلادكم هدف لزعزعة هذه النعمة التي تفضل بها الرب عليكم ولا لأحد فيها كرم الا للرب عز وجل) داعياً الى احترام هذه النعمة والمحافظة عليها (بلا تهور وبلا وطنية مزعومة وبلا ظهور غير نافع).

وفي هذه الفقرة بالرغم من تشابكاتها، ما يلفت إلى أن الملك يريد القول بأن ثمة أطرافاً مجهولة تستهدف الثروة الوطنية، ولكن ما هو غامض حقاً هو دعوته بالمحافظة عليها دون تهور أو وطنية مزعومة، فهل يشير هنا مثلاً، والاجتهاد في كلام الملوك خطير، الى أمراء داخل العائلة المالكة يحسبون على الأجنحة المنافسة له، إن وجدت، أم أنه يجهر بألم داخلي ويريد البوح به للإعلام بأن ليس له كلمة على اقتصاد بلاده، وأن الجناح السديري هو الآمر الناهي في الشأن الإقتصادي الوطني، أم هو يتحدث عن قوى إقتصادية محلية باتت تشكّل تهديداً للقوة الإقتصادية لدى العائلة المالكة. لا ندري كل شيء جائز، وقد يكون كلام الملك أحياناً تضييعاً لأصل القضية.

تشديده المتكرر على البعد الوطني وأن (الوطن فوق كل شيء) والذي يستحضر دائماً في وقت الأزمات يجعل هذا الوطن مفهوماً مبتذلاًَ، إذ لا معنى لهذه الاجترارات المتوالية حين يراد منها تحميل الناس الغرم والمسؤوليات وليس مقاسمة الغنم والحقوق. لا يبدو أن الملك عبد الله ولا الأمراء الآخرين في العائلة المالكة ينشدون وطناً يتقاسم فيه المواطنون الحقوق والواجبات، وليس وطناً يجري إحضاره وإشهاره حين المحن والأزمات، وكأن العائلة المالكة تريد من الرعيّة مجرد مدافعين عنها في السرّاء والضرّاء، ولكن حين يقوى عودها وتستعيد قبضتها تتحدث بلغة فئوية صارخة كالتي يسمعها زوّار المجالس المفتوحة (هذا الحكم لآل سعود)، و(ما في هذه البلاد لنا وحدنا)، و(أخذناها بالسيف فمن أرادها فليشهر سيفه)، وباقي الجمل القائمة على نقائض الدعاوى الوطنية، بل يميّزون أنفسهم عن عامة الناس ويعتبرون ما في أيديهم إنما أنزل إليهم من السماء أو ما منحتهم إياه الأرض لسمو عرقهم. يقول عبد الله (أنا منكم واليكم لكن تهمني مصلحة ديني ووطني فوق كل شيء وهذه لا أساوم فيها ولا أنظر فيها ولا في الحلم).

الناهب والمنهوب!

كل تلك التصريحات المرجفة التي أطلقها الملك عبد الله وضعت على محك الإختبار مع زيارة رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون الى الرياض وعدد من العواصم الخليجية الأخرى في 2 نوفمبر. فقد عرف الجميع طبيعة المهمة التي جاء براون من أجلها للرياض، واعتبروها جولة شحادة راقية! ..زيارة ذكّرت بما تكبّده الاحتياطي النقدي من الثروة الوطنية في الولايات المتحدة والبالغ بحسب تقديرات مستقلة نحو 3 تريليونات دولار، وتشمل إستثمارات التجار ورجال أعمال أصبحت جميعها جزءً من مخصّصات خطة الانقاذ المالي التي وضعها الرئيس الأميركي جورج بوش على قاعدة (تقاسم الغنم والغرم بين الحلفاء). ربما كان الرئيس تشافيز الفنزويلي الوطني الوحيد الذي أطلق نقداً لاذعاً لتلك الزيارة حين وصف طلب براون من دول الخليج تقديم مساعدات لدول أعضاء في الإتحاد الأوروبي خوفاً من الإفلاس بأنه عمل غير أخلاقي.

وهنا تبدو وطنية تشافير أشد نقاءً من نظيرتها لدى الملك عبد الله، ويكفي قبوله باستقبال براون لتكشف عن موافقة مبدئية على المساعدة المالية المرجوة من آل سعود، فقد تحوّل الأخيرون ونظرائهم في دول الخليج إلى مجرد بنوك ضخمة يراد منها توفير سيولة دائمة للغرب، والذي يلقي عليهم واجباً أخلاقياً في مقابل حفظ عروشهم.

في جولته الخليجية، اصطحب براون وفداً مؤلفاً من وزراء ورجال أعمال، وصف بأنه وفد يجعل مارجريت ثاتشر محرجة لعظم حجمه. وقد أصرّ براون بأنه ذاهب لهدف أسمى، أي دعم ليس الخزانة البريطانية الفارغة ولكن صندوق النقد الدولي. وبعد إنفاق 29 مليار دولار من أصل 250 مليار دولار كاستجابة للنداءات المستعجلة من أجل النقد من قبل آيسلندا وهنغاري وأوكرانيا، فإن صندوق النقد الدولي ليس في وضع يسمح له بتحقيق الطلبات التي قد تؤدي إلى دحرجة أحجار رقعة الشطرنج. البلدان المنتجة للنفط بحاجة الى زبائن متعافين إقتصادياً وأسواق مستقرة، فلماذا لا تكون مستعدة لدورة أخرى من بعض الفوائد المرتفعة التي حصدوها حين كان النفط يصل الى 147 دولاراً للبرميل؟

حسناً، جزئياً بسبب أن البرميل يقدّر بنحو أقل من 60 دولار، وأن قرار الأوبك الطارىء في فيينا بتخفيض الإنتاج بنحو 5 بالمئة لن يكون كافياً لوقف تراجع الأسعار مرة أخرى بنحو النصف. وإذا ما حصل، فإن منتجي النفط سيواجهون التضخّم بدرجة غير قابلة للسيطرة كما حصل في فنزويلا، أو أن الدول التي واجهت تضخّماً عالياً، مثل روسيا، قد يتزعزع إستقرارها، بما يؤدي الى مزيد من القيود على الإمدادات. في وقت الأزمات العالمية، كل دولة تسعى إلى معالجة الأضرار المباشرة التي تقع عليها وتستجيب لمتطلبات صناعاتها، وبحسب بيان أوبك فإن إنهيار سعر النفط قد يؤدي إلى تقويض المشاريع النفطية القائمة ويقود إلى إلغاء بعضها الآخر، وهو ما دفع بالحكومة السعودية الى اللجوء إلى احتياطيها النقدي لتمويل مشاريع تطوير المنشآت النفطية وتوسعة خطوط الإنتاج بهدف زيادة حجم الصادرات النفطية.

إلى جانب ذلك، ليست البنوك السعودية التي أقرضت في العام الماضي 750 مليار جنيه إسترليني (تريليون ونصف تريليون دولار) أكثر مما تاخذ في الودائع ولكنها البنوك البريطانية. فالأزمة المالية قد نجمت عن أول وأكبر إنهيار مالي في الغرب. وفي الوقت الذي يبدو واضحاً بأن الحكومة مسؤولة عن حماية مواطنيها من تأثيرات الإنهيار في النظام البنكي، كيف يمكن سحب الجدل على بلدان أخرى حيث تتصرف بنوكها بحذر أكبر؟ ولكن السؤال الكبير الذي يواجه دول الخليج ذات الفائض النقدي المرتفع: لماذا يجب استعمال صندوق النقد الدولي في الأصل لإيصال أموالهم الى دول الجوار التي تعيش ضوائق مالية.

وكما كان متوقعاً، فإن رئيس باكستان المنتخب مؤخراً آصف علي زرداري قد جاء الى السعودية في نهاية أكتوبر الماضي من أجل طلب المساعدة من الرياض بخصوص تسديدات النفط. وكانت باكستان قد طلبت من السعودية تأجيل تسديد أثمان وارداتها من النفط الخام والتي تصل إلى نحو 6 مليار دولار هذا العام، بسبب الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعصف بها. سمع زرداري رسالة واضحة من نظيره السعودي: وقف التعاون مع إيران في المسألة الإفغانية.

السعودية تفضّل في الوقت الراهن توظيف قدرتها المالية والمساعدات الإقتصادية لزيادة نفوذها على القيادة السياسية في إسلام أباد، عوضاً زيادة الرصيد المالي لصندوق النقد الدولي، والتي لا تملك فيه السعودية سوى 3 بالمئة من الأصوات. دول عربية كثيرة كانت تأمل في أن تكون المساهمة السعودية في تمويل صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات المالية الدولية قوة إسناد للمصالح العربية، ولكن على خلاف ذلك فقد تحوّلت المساهمة السعودية إلى ورقة ضغط أحياناً لصالح الغرب ولتسوية مشاكله وأزماته على حساب مصالح العرب.

أمريكا أيضاً تبحث عن ذات النفوذ في باكستان، عبر تمويلات مباشرة للجيش الباكستاني، كجزء من الحرب ضد المقاتلين الإسلاميين. ولأن صندوق النقد الدولي خاضع بصورة شبه كاملة للولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى، فإن السيناريو المحتمل هو أن دول الخليج ستنتظر لقاء الأمم العشرين الذي من المقرر عقده في واشنطن هذا الشهر، للمطالبة بإصلاح النظام المالي العالمي.

في ظل تكهنات قاتمة حول نتائج وتداعيات الأزمة المالية العالمية، تطلق السعودية تصريحات متقطعة حول قرارات راديكالية وعاجلة تقدم عليها من أجل الحد من أخطار تلك الأزمة، فقد أعلن رئيس أرامكو الجديد عن وقف بعض مشاريع التطوير التي كانت أرامكو تخطط لتنفيذها من أجل زيادة حجم الانتاج ومضاعفة الاستثمار. إن الحديث عن تحوّل السعودية الى قوة صناعية واعدة بفعل مداخيل النفط والمشاريع الطموحة يتراجع الآن لجهة إعادة تقييم المعطيات الراهنة التي يستند إليها، مع التدهور المتواصل في أسعار النفط. في الفترة ما بين 1986 ـ 2008 ارتفع سعر النفط من 20 الى 136 دولار، فيما بدأ سعر النفط بالهبوط السريع خلال عام واحد ليصل إلى ثلث السعر الذي كان عليه قبل أقل من عام.

ويتحدّث خبراء إقتصاديون عن أن سقف التوقعات لسعر البرميل النفطي كان مبالغاً فيه، وإن انخفاض السعر الى مادون 45 دولار سيؤدي إلى كارثة إقتصادية في السعودية ولن تستطيع حينذاك من تغطية مرتبات موظفي القطاع العام. نشير إلى دعوات من قبل خبراء اقتصاديين أوروبيين للحكومة السعودية بوجوب تخفيض المرتبات الشهرية بمقدار الثلث بحيث تتطابق مع المعدلات الدولية للرواتب.

ولكن الخبراء يشدّدون على أن خطوة منفردة من هذا القبيل ستكون كارثية، وخصوصاً في الوقت الراهن حيث معدل التضخم يضغط من أجل الاحتفاظ بمعدلات متوازنة من المرتبات الشهرية. إذ لا يمكن تخفيض هذه المرتبات فيما لا تزال معدلات الفساد المالي والإداري في حالة صعود مستمر، ولا يمكن مكافحة الأزمة المالية فيما تقتطع نسب عالية من العمولات في صفقات تسلح بأثمان فلكية دون مرورها عبر مجلس الوزراء، أو مجلس الشورى، أو حتى هيئة رقابية مستقلة، فمازال الباب الخلفي لأشكال الفساد المالي والإداري مفتوحاً على مصراعيه. يبقى أن ما كان يقوله الملك عبد الله بأن (الخير كثير) لا يعدو الآن سوى مزحة ممجوجة، فقد بات الخير الكثير منقسماً بين أمراء لصوص وحلفاء جشعين، أما الناس فليس لهم (غير الدفاع عن الوطن)!

الصفحة السابقة