دولة (الخوار)!

لفت إنتباهي أن عدوى اللغة الحوارية الطارئة التي بدأت تكسو تصريحات الملك عبد الله، لم تنتقل لبقية الأمراء الذين لم نسمع منهم منادياً بالحوار أو مبشّراً به، وكأن للحوار مهمة خاصة يضطلع بها الملك وحده، ويكون مجال استعمالها لأغراض محدّدة. ولربما هناك من لا يريد المخاصمة مع ذاته غير الحوارية، فتفادى الوقوع في مطب حواري قد يشكّل عبئاً أخلاقياً عليه أمام المحيط الإجتماعي الغارق في واحديته.

قبل أن يغادر الملك عبد الله الديار إلى نيويورك لحضور مؤتمر حوار الأديان في 12 نوفمبر، أطلق تصريحاً لافتاً في 25 أكتوبر الماضي بمانصه أن (حوار الأديان واجب على كل إنسان وإنسانة). في ظاهر الألفاظ، لم يكن بالتأكيد مجرد إيمان بمبدأ الحوار، بل وإضفاء طابع قدري عليه يزيد في رسوخ الإيمان بحتمية اعتناقه إنسانياً.

إذا كان الأمر على هذا النحو، سيكون بالتأكيد كلام الملك عبد الله عنواناً لتحوّل دراماتيكي في تاريخ البشرية، وسيكون هو، دون باقي الحواريين في هذا الكون، رمزاً فريداً في مجمل النشاط الحواري الإنساني..ولاشك أن منحه جائزة نوبل للحوار، أو بالأحرى للسلام يبدو قراراً صائباً، بل هو جدير بها..ولكن، ذاك إن كان المتبنى الحواري ناشئاً حقاً عن عقيدة صميمية لدى الملك أو أي شخص ينوب عنه أو يمثّّله أو من يحرّك بدلاً عنه به لسانه، كيما نقنع بأن الحوار بوصفها معبراً للتعايش السلمي بين الحضارات والمعتقدات السماوية وكذلك المجتمعات بات خاصية سعودية بامتياز.

مهما اجتهدنا وأجهدنا وجاهدنا من أجل إثبات هذه الخاصية فلن نعثر لا في السابق ولا في الحاضر ولا يبدو أن ذلك ممكن في المستقبل المنظور على ما يدل على أن الحوار كان في يوم ما لفظاً أليفاً أو مألوفاً في الثقافة السعودية الرسمية دينياً وسياسياً. في المقابل، هناك عشرات الأدلة التي تتقافز أمامنا عن ضحايا الحوار قتلاً وتشريداً وتشويهاً وعزلاً، إذ لا معنى لحوار إلا بالحرية، ولا حرية إلا بتعددية، فهل حواري من يصادر حق رعيته في التعبير عن آرائهم، ومعتقداتهم الفكرية والسياسية، وهل حواري من يضع المختلف سياسياً وراء القضبان، وهل حواري من يمنع رعيته من تشكيل لجان تدافع عن الحوار وحرية التعبير..

لم يظهر خصوم تكوينيون للحوار كما ظهر في هذه البلاد، حيث لا تسمع إلا صوتاً وحداً بطبقات متعددة، ولا تقرأ إلا فكراً واحداً بوسائل متعددة..فقد قضى أهل التوحيد على خلق الله سبحانه تعالى بأن يختاروا بين الإيمان والكفر، إذ لا سبيل الى الله غير سبيلهم، ولا منجى من الله إلا عبرهم، ومع ذلك بهم يبدأ الحوار وبهم يختم.

وعوداً الى تصريح الملك عبد الله، فإن وجه الغرابة في موقفه الحواري الراسخ أنه يصل بالمزايدة الى ذراها القصوى، في إيحاء غير معهود بأن الزمان قد يأتي على الإستبداد فينجب ديمقراطية، والاقصائية تولّد تعايشاً وحواراً..فالأشياء تنتج مضاداتها، دون حاجة للخضوع الى قوانين تشكّل الأشياء..

حوارية عبد الله ليست شيئاً آخر غير التمهيد لاستئصاله، هكذا كان مصيره وطنياً، فقد سحب الملك الحوار من بين الإصلاحيين الذين طالبوا في (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في يناير 2003، باعتماد الحوار مبدأ لمقاربة كل مشكلات البلاد، فتمّت مصادرته وأصبح جزءً من أدوات السلطة التي وظّفته في حملة العلاقات العامة بعد تمريره من فوق رؤوس الحالمين بفرصة حوارية تضع حداً حاسماً لأزمة الدولة. كل ما أرادته العائلة المالكة من الحوار، أن يغطّى إعلامياً في الغرب، حيث يراد ترميم الصورة الشوهاء للسعودية بعد الحادي عشر من سبتمبر. كان يكفي الملك عبد الله أن يذكر أحد كتّاب الأعمدة في صحيفة أميركية رئيسية عن الحفلة الحوارية كيما تحدث موجاً في الوسط الإعلامي المحلي الذي سيتولى إعادة الانتاج والمونتاج فتخرج في هيئة منجز حضاري!

ما يلزم التذكير به هنا أيضاً، أن القراءة الحوارية تتطلب ربط ما جرى في الداخل وتصدّر تدريجياً للخارج، فالاشتغال على إعادة تركيب الصورة السعودية تطلّب عملاً دؤوباً، فإعادة طلاء الصورة بدأ في الحوار الوطني بجولاته الثمان، ثم تطوّر ليفتح الحوار على الأفق الإسلامي العام وصولاً الى الأفق الدولي..

حلقات الحوار الممتدّة من مكة الى مدريد وصولاً الى نيويورك، لم تكن تستهدف سوى تنضيج خيارات التطبيع مع الدولة العبرية، هكذا كان المطلب الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، فثمة عمل مطلوب إنجازه سعودياً كيما تتأهل الساحتان العربية والإسلامية، ويتقاطع مع عمل آخر يجري الإعداد له في مواقع أخرى، حيث يتصاهر الحوار مع السلام، وفق مبادرة الملك عبد الله التي انطلقت في بيروت 2002. فطرق الإمداد باتت مفتوحة سعودياً للوصول الى نقطة التقاء مع الدولة العبرية، فهناك حوارات تمارس دور التطبيع النفسي والثقافي والديني، وهناك مبادرة سلام بلجان عربية مصمّمة لتمهيد السبيل لتطبيع سياسي ولاحقاً إقتصادي وأمني.

أما الحوار كما نفهمه، أو كما يفهمه الضحايا فلا مكان له في أروقة القصور أو في المطابخ السريّة، حيث يذبح الحوار على غير القبلة..فالحوار يصبح خواراً حين يكون رائده مفتوناً بتقديم المفاهيم الإنسانية قرابين في مشاريع سياسية مشبوهة.

الصفحة السابقة