أين الوطن؟

قراءة في (سلفيّة) الأمير نايف

محمد قستي

ليست المرة الأولى التي يؤكّد فيها الأمير نايف، وزير الداخلية، على الهوية السلفية للدولة السعودية، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة، فثمة حاجة متجدّدة على الدوام تدفع لجهة تثبيت سلفية الدولة.

تستحث هذا التوكيد المتكرر قضيتان رئيسيتان: محاولات جناح الملك عبد الله صوغ نموذج ديني بنكهة ليبرالية يحظى بقبول الضحايا من دول وشعوب العالم، ولكنه نموذج غير مشدود بجذور الوهابية الأصلية، حيث تصرّ النخبة الدينية الوهابية بشقيّها المتشدد والمعتدل على ضرورة الحفاظ على نقاوة النموذج الأصلي، ونبذ أية محاولات التطعيم الثقافي التي تفضي في نهاية المطاف إلى تقويضه وتشويه هويته التاريخية.

القضية الأخرى، أن ثمة ضغوطات متزايدة تفرضها الجماعات الوهابية المتطرّفة على العائلة المالكة، وتبعث رسالة واضحة للأخيرة وللنخبة الوهابية المتحالفة معها، بأنها خرجت عن النهج السلفي ولم تعد تمثّل دولة تطبيق الشريعة بحسب تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ما يضغط بشدّة على الأمراء المتحالفين مع النخبة السلفية من أجل إبقاء مصدر مشروعية الوجود والإستمرار، كما أنها تضع النخبة تلك أمام تحدٍ كبير، الأمر الذي يهدد جدارة الموقع الذي يحتلونه، بوصفهم أمناء على العقيدة وحرّاساً للفضيلة.

أمام هذين التحدّيين، كان لا بد أن يضطلع الأمير نايف، المعروف بصلاته الوثيقة بكبار العلماء والمشايخ من الطبقتين الأولى والثانية، بمهمة درء التهمة التي تثبتها الجماعات السلفية الأصلية والمتشددة في أدبياتها، بالرجوع إلى المصادر الأولى والرئيسية للوهابية. فالأمير نايف لا يكترث كثيراً لما يقال عن سلفية الدولة، بقدر اكتراثه بالحفاظ على الحاضنة السلفية للدولة، لأنها المأوى الذي تلجأ اليه العائلة المالكة حين تتعرض مشروعيتها للمسائلة، أو حتى تواجه خطراً وجودياً يهدد مصيرها. ولذلك، فهو يمرر رسالة ترضية للمجتمع السلفي الوهابي في سياق ردّه على (الذي يقدحون في المملكة ويتّهمونها بالسلفية ويبحثون عن السلبيات التافهة ويضخّمونها). وفي حقيقة الأمر، أن الأمير نايف يوجّه رسالة لحليفه السلفي وليس لفئات أخرى، يصوّرها كصانع للتهمّة، بالرغم من أن الكلام عن سلفية الدولة يستوجب وقفة طويلة.

?في اللقاء المفتوح الذي جرى في المدينة المنوّرة في 26 نوفمبر الماضي في مقر الجامعة الإسلامية، كان الأمير نايف يسعى، من أحد المراكز الفاعلة في التعليم السلفي، إلى تبديد مخاوف من انقلاب الدولة على عقيدتها وحليفها، من خلال الإنغماس في نشاطية حوارية ذات طبيعة دينية دون أن يكون لرؤوس المذهب رأي شرعي، وموقف جماعي، لتقرير ما إذا كان هذا النوع من النشاط الحواري ينسجم مع تعاليم المذهب الوهابي.

في المقام الأول، يبدو إسباغ الطابع السلفي على الدولة أمراً مألوفاً في دولة قامت على مدّعيات دينية، وتمثّل امتداداً للتحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود سنة 1744، وبالتالي فالحديث عن سلفية الدولة يأتي في سياق التوصيف التاريخي لتشكّلها. ولكن حين يتم الحديث عن السلفية باعتبارها أيديولوجية سياسية للدولة، فحينئذ لا تعود دولة وطنية، بكل المفاهيم التصّلة بها: الهوية، الإنتماء، الولاء.

يضاف إلى ذلك، أن مجرد إعطاء صفة عقدية للدولة، يعني تقسيماً تلقائياً للفئات المنضوية فيها، على أساس معتقداتهم الدينية، وتالياً تموضعاتهم السياسية. ولأنها سلفية، بحسب الأمير نايف، فلن يكون لغير المنتمين للمذهب الوهابي مكان في الدولة، بل أكثر من ذلك، أن الأخيرة تتحوّل إلى نصير لمن ينتمي لمذهبها وخصمٍ لمن هم خلاف ذلك.

يتحدّث الأمير نايف عن (دليل علمي وموضوعي) لمعرفة أسباب وجود الإرهاب، وتوقف عند المعالجة الفكرية (إن لم يواجه الفكر بفكر فسوف يكون هناك نقص في الجهد)، ولكّنه أشار إلى فئة لم يحدّدها بالإسم تنتمي إلى التيار السلفي (ولا زلنا في وقت هناك أفكار متضاربة علينا أن نتعرف على من يعملون في هذا المجال وهم شخصيات معروفة ومعروف انتماؤها وفكرها). هذا ما يوحي به ظاهر الكلام، ولكن ما يلبث الأمير نايف أن يفتح إطاراً واسعاً تكاد تفقد فيه نقطة الإرتكاز في حديثه عن الدليل العلمي وعن العامل الفكري وعن المسؤولين عن تغذية الفكر المتطرّف.

ونحتاج هنا إلى تقطيع كلام الأمير نايف لما ينطوي عليه من دلالات غاية في الخطورة، خصوصاً من رجل يفترّض أنه كما يسمي نفسه (رجل الأمن الأول)، ومسؤول في دولة يفترض كونها ممثلة لكل الطيف السكّاني.

يقول الأمير (لا نستبعد أن هناك جهات معادية للإسلام بشكل عام ومعادية لدولتنا)، وهذه العبارة تأتي في سياق الحديث عن صنّاع الفكر المتطرّف، الذين باتوا معروفين تماماً كما المنابع الفكرية للتطرّف التي باتت هي الأخرى معروفة للقاصي والداني، وإن مجرد تحميل (جهات معادية للإسلام) ليس أكثر من هروب مفتعل من حقيقة أن التراث العقدي الوهابي يشتمل على محرّضات ناشطة على العنف والتطرّف، ولم يثبت (الدليل العلمي والموضوعي) أن تورّطت جهات غير سلفية بتعميم هذا الفكر الذي بات مشاعاً حد الطغيان في كتب مؤسسي المذهب وفتاوي كبار العلماء من الأولين والآخرين، ويكفي كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) الذي يشتمل على آراء تحريضية على العنف بعد تكفير المجتمعات.

من جهة ثانية، يعتبر الأمير نايف تلك الجهات، المجهولة بطبيعة الحال، بأنها (معادية لدولتنا دولة السنة).. ونضع هذا المقطع برسم أولئك الذين عابوا، وكثير منهم وهابيون، على الدستور الإيراني، كونه ينصّ على أن مذهب الدولة الرسمي شيعي إثني عشري. فهل يعقل في دولة يروّج ملكها وحاشيتها لمفاهيم وطنية، وأن يستعير الأمير نايف من مليكه بأننا لا نساوم على وطننا وعقيدتنا، فماذا يبقى من الوطن حين يصنّف الناس على أساس إنتماءاتهم المذهبية؟ وهل من الوطنية أن تصبح الدولة مؤسسة على قاعدة مذهبية، وأن يجاهر الأمير، المسؤول عن الأمن الوطني، بأن دولته سنيّة! ثم يضيّق الإطار فتصبح (دولة سلفية وتعتز بهذا)؟ فعلام تحاربون إذن من ليس في قلبه ذرة من حب للدولة، وللوطن الذي تطحنون الهراء في الإعلام المحلي والخارجي من أجل الترويج له وتزعمون بـ (أننا دولة وطنية). فأي وطن هذا الذي لا مكان فيه الإ للسلفية، فكيف يجتمع العام والخاص، والوطني والفئوي؟!

لم يكن حديث الأمير نايف عن سلفية الدولة مجرد فكرة عابرة، ببساطة لأنها ليست المرة الأولى التي يفصح عنها، فقد قالها قبل عامين وبنفس اللغة الحازمة تقريباً، وهو هنا يعيد نفس اللغة (لا بد أن نوضح هذا الأمر بشكل واضح ونواجه الأمور بحقيقتها..)، إذن لم يكن الموقف إنفعالياً، أو ارتجالياً، فالرجل يعي ما يقول ويقصد من ذلك أمراً واحداً: أن دولتنا سلفية وستبقى كذلك، الأمر الذي يطيح بعنف الحديث عن الوطن والدولة الوطنية، فهو مجرد كلام يستعمل إما للإستهلاك الإعلامي الخارجي أو للتهويل الداخلي.

وزير الداخلية: السلفية في الجيب!

مغالطة أخرى يسوقها الأمير نايف حول الموقف السلفي من العلم والتقنيّة وكأنه يعمي على حقائق باتت مرصودة في كتب مؤرخي الدولة السعودية من أمثال (محمد المانع، خير الدين الزركلي، وحافظ وهبة وغيرهم). يقول الأمير (نعم نحن في زمن العلم والتقنية ولكن من قال إن الإسلام يمنع، بل يحث عليها ودولتنا دولة السلف الصالح منذ أن قامت من مؤسسة الدولة الأولى محمد بن سعود حين وضع يده في يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقامت الدولة السعودية الاولى). ويمضي قائلاً: (وبعد الدولة الثانية التي اسسها تركي بن عبدالله حوربت حتى انتهت وجاءت الدولة الثالثة التي أسسها الملك عبدالعزيز فوحد الأمة وأول ما اهتم به هو العلم فأرسل العلماء لكل مكان كي يفقهوا الناس ويصححو كل الأمور الخطأ).

لا تحتاج عبارات الأمير الى كبير عناء لتحديد الوهن والتعمية في شكلها البدائي، والنهاية المثيرة للشفقة. فهو لم يدافع عن موقف العلماء من العلم والتقنيّة فحسب، بل جاءت الطامّة في خاتمة الكلام بأن من آيات اهتمام عبد العزيز بالعلم أنه أرسل العلماء (لكل مكان كي يفقهوا الناس ويصححوا كل الأمور الخطأ)، ولا يغفل من له ذرة من وعي أن العلماء الذي جابوا الأصقاع لتفقيه الناس وتصحيح الخطأ، لم يبلّغوا الناس رسالة العلم والتقنية، وإنما بلّغوهم أحكام شرعية وحذّروهم من البدع ومنها العلوم الحديثة مثل الجغرافيا واللغة الإنجليزية واستعمال جهاز الهاتف والسيارة وغيرها، كما ذكر ذلك وهبة والمانع والزركلي، وهم من المقرّبين من الملك عبد العزيز. أما من الناحية التاريخية، فلم نقرأ في مصدر حليف أو خصم يذكر أن الوهابية منذ تأسيسها اشتغلت على نشر العلم والتقنيّة، فكلما هو في الكتب مدوّن ومنشور، ولم نجد فيها ما يحث على علم أو تقنية، فكلها أحاديث في العقيدة الصحيحة.

لا تبدو الوجهة دقيقة في الربط بين السلفية وأداء المسلمين في الأزمنة الغابرة، وخصوصاً حين نستحضر طائفة السجالات الفقهية والعقدية، والتي لم تكن في بعض الحالات تعبيرات بريئة عن طرق الإختلاف المتعددة والموصولة بوحدة الحق، فالأمر أشد تعقيداً من ذلك كله. ولا يبدو أن الأمير نايف معنيٌ كثيراً بالدفاع عن الإسلام في إطاره العام والتاريخي، باعتباره ظاهرة حضارية ساهمت في نقل وتطوير العلوم الى أوروبا، إنطلاقاً من الأندلس، ولكن الأمير يدرج الإسلام في سياق دفاعه عن الإسلام المتمظهر في زي سلفي. يقول (المسلمون اقتبسوا علوم الفلك والحساب ومثل دولة الأندلس التي فقهت الأوربيين، وقول مردود لمن يدعي أن الإسلام بشكل عام أو ما يقال أن السلفية منعت العلم بالعكس يحضون عليه. والدولة التي هي متمسكة بهذا النهج ومتمسكة بالسنة النبوية بعد كتاب الله هي من حققت هذه الأمور وسوف تحققها وستعمل جامعاتنا ومراكزنا العلمية لتحقيق الكثير من الأمور المطلوبة من الدول العربية التي وصل احد شبابها الى الفضاء أنه احد ابناء هذا الوطن).

ولذلك لم ينفكّ يؤكد مرة تلو أخرى على السلفية باعتبارها رؤية عقدية مستقلة، وعلى الدولة السلفية بكونها إمتثالاً وتمثيلاً لمملياتها. يقول (إن القول مردود لمن يقول بأن السلفية تؤخر العالم أو تحاربه والدولة مع كل المذاهب الصحيحة، وقال عبدالعزيز كلمة: انني أتمنى أن يجتهد علماء المسلمين جميعا ليتفقوا على مذهب واحد، وعلى كل حال فالاختلاف رحمه بل ان علماءنا لا يتمسكون تماما ولا يحكمون مذهبا واحدا، بل يأخذون من كل المذاهب).

ثمة ما يبعث الشفقة في هذا المقطع، حيث يفشي الأمير رغبة مستودعة في الرؤية السلفية بإدماج كل المذاهب في المذهب السلفي، إذ لا معنى أن يحكمون مذهباً واحداً إلا إذا كان هذا المذهب صحيحاً، بزعم من يعتنقه، وهو ما فعله عبد العزيز بن سعود بعد احتلال الحجاز، حين ثبّت نظاماً تشريعياً يستمد أحكامه من الفقه الحنبلي، وعطّل بذلك عمل المحاكم الشرعية الأخرى.أما قول الأمير نايف بأن علماءنا لا يحكّمون مذهباً واحداً ويأخذون من كل المذاهب، فتلك دعوى تدحضها المحاكم الشرعية الرسمية، التي لا تجد فيها قاضياً من غير المذهب الحنبلي والوهابي حصرياً، كما أن النظام التشريعي للدولة مستمد من اجتهادات علماء المذهب الوهابي، وفوق ذلك كله، أن كل الهيئات الدينية العليا، من هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ومجلس القضاء الأعلى، ووزارة العدل والشؤون الدينية، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغيرها لا تجد فيها إلا من إمتحنت الوهابية عقيدته، وحاز على إجازة النطق بإسمها والحكم بأحكامها.

ونعود تارة أخرى للطابع الدفاعي التبريري الذي كسا لغة الأمير نايف، يقول ما نصّه (هناك من يقدح في دولتنا ويحمل نهجنا السلفي سلبيات ليست موجودة..). حسناً، فماذا جرى إذن منذ الحادي عشر من سبتمبر من تفجيرات في الداخل وغمرت العالم، حتى لا تجد بقعة إلا والسلفية المتطرّفة بلونها الدامي قد وضعت فيها بصماتها، ثم نخلص من (الدليل العلمي والموضوعي) إلى (سلبيات ليست موجودة) في النهج السلفي، فلماذا الحديث إذن من أصل عن الأمن الفكري، ولماذا الاعتقالات لمئات العناصر، وتقارير متوالية عن اكتشافات لشبكات إرهابية، ولماذا تشكّلت لجان المناصحة والنصيحة؟ هل كانت مسرحية طويلة ومملّة، أم أن ثمة ما يبرر كل تلك التدابير الأمنية والفكرية؟. ولماذا يكون المعتقلون من أتباع السلف الصالح، وحصرياً من المذهب الوهابي؟ هل اقتصرت (الجهات المعادية للإسلام) على السلفية دون سواها، وهل تلك الجهات مسؤولة عن استدراج آلاف العناصر الى ساحات الوغى كي يتحولوا إلى قنابل بشرية، ونسخ من رامبو، حيث يشيوعون الموت في كل مكان، حتى بات العالم يضع العناصر السلفية على رأس قائمة الأطراف المحتملة في التورّط في كثير من أعمال العنف في العالم، بما في ذلك (غزوة مومبي) الأخيرة في الهند.

لم يخطىء الأمير نايف حين أوكل مهمة التصحيح الفكري ومعالجة التطرف الفكري المفضي إلى العنف للجامعات الدينية في دولته السلفية، ويكفي تحديده للجهة القادرة على التعامل بصورة صحيحة ودقيقة مع هذا الفكر الخارج من صفوفها وصالات دروسها، ولذلك يقول (ونرجو من جامعاتنا جميعا أن تهتم في هذا الأمر ومنها هذه الجامعة ـ أي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ـ ونرجو أن تستمر الجامعة في هذا الأمر ويجب أن ننتهي في حصيلة ونرى من جامعتنا الاهتمام في جامعة الأمام وجامعة الملك سعود وقد سبق وأن التقيت بالمسؤولين في تلك الجامعات وطلبت منهم أن يبحثوا بشكل علمي كيف انحرف هؤلاء عن هذا النهج). أما كيف انحرف النهج، فلا يتطلب عملاً استثنائياً، فالتراث السلفي المراكم على مدار أكثر من قرنين يحمل من عناصر الإنحراف نحو العنف ما يكفي لأن يقحم قارات العالم في أتون حروب عالمية لا تنقطع أوارها، ولا تخمد نارها.

ومن لطائف الكلام الأميري، أنه يمقت حصر التهمة في جهة محدّدة، وخصوصاً حين تتجه البوصلة إلى دولته وعقيدتها السلفية ولذلك، يميل دائماً إلى التدويل، على أن يكون هذا التدويل باباً خلفياً للهروب من المسؤولية، وألا يتحوّل إلى عين نافذة تنتهي إلى حملات تفتيش في مستودعات السلفية، للكشف عن المفاعيل الفكرية للعنف فيها.

يقول نايف (أما مايتعلق بإنشاء مركز، فهي فكرة مطروحة آمل أن تتحقق وعلى المستوى الدولي، خادم الحرمين الشريفين قدم فكرة إنشاء مركز ابحاث ولا زال موضوع أمام تلك الدول ونرجو أن يتحقق ونحن محتاجون في بلادنا إلى مركز أبحاث عالٍ ونحن مسؤولون عن تنقية أفكار شبابنا عن الانحراف). وهنا يوزّع الأمير نايف المهمات، فهو ينزع إلى إبقاء العامل الدولي بعيداً عن الديار السلفية، ويفضّل أن تبقى مهمة تنقية أفكار الشباب السلفي محصورة بيد الدولة، أي بيده وزارة الداخلية التي تدير شبكات المناصحة والنصيحة للجنسين الذكور والأناث، كما خصّصت موازنة عالية للتعامل مع العناصر السلفية المعارضة للدولة.

ما يتمسّك به الأمير نايف، أن السلفية في نسختها الوهابية ليست مسؤولة عن إنتاج العنف، وبالتالي فلا بد من البحث عن جهات أخرى تارة يحدّدها في (الإخوان المسلمين) في مصر، وأخرى في الصهيونية، وثالثة في جهات معادية للإسلام ولدولته السلفية، وكل تلك المحاولات الهروبية لم تغيّر من الحقائق الرقمية بشأن أعداد العناصر السلفية السعودية الضالعة في دوامات العنف في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية و جمهوريات آسيا الوسطى وصولاً إلى وأوروبا والولايات المتحدة. لا نعتقد بأن قول الأمير نايف بأن (المسؤولية الأولى تقع على العلماء والدعاة وأئمة المساجد ورجال الفكر)، وهم ليسوا من غير السلفيين بطبيعة الحال، فهو يقصد نوعاً خاصاً من العلماء والدعاة وأئمة المساجد ورجال الفكر، وهم الذين يمسكون بعشرات الآلاف من المساجد وحلقات الدرس والمنابر الدعوية في طول البلاد وعرضها. ولذلك فإن (من يشكك في نهج هذه الدولة ويسميهم بتسميات لا تعقل ويتهمهم بالتكفير..)، بحسب الأمير نايف، هم من درسوا بتمّعن تراث التكفير في السلفية من زمان الشيخ المؤسس إلى المتناسلين من صلبه ومدرسته.

يردّ الأمير على الانتقادات التي تنطوي على تعريض بالسلفية ويقول (ويشرفنا أن يقال بأننا سلفيون وهذا أمر نعتز به ونقول لهؤلاء هم علماؤنا ودعاتنا، ونجد من يلمز الشيخ محمد بن عبدالوهاب ويسمينا وهابيين، والأئمة لم تتبع محمد بن عبدالوهاب ولكن ما أتى به ليس من عنده بل أتى ليحارب الشرك وعبادة القبور والعلماء سيعجزن أن يأتوا بكتاب يدين عبدالوهاب..).

يخلع الأمير رداء المسؤول في دولة، ويتحدّث بوصفه عنصراً في جماعة عقائدية تدافع عن نفسها. ولذلك لا نعجب من دفاع الأمير عن سلفية عالم الدين الوهابي والدولة معاً (نعم الدولة سلفية وليس فقط العالم). فهذا التعبير الواثق عن التماهي بين آل سعود والعلماء، ليس من قبيل النزوع الغريزي للدفاع عن الذات فحسب، بل يمثّل خلاصة الرؤية الاستراتيجية للعائلة المالكة بصورة عامة، تماماً كما هي بصبغتها العقدية والإجتماعية لدى الطبقة الدينية السلفية. وربما هي من المرات القلائل التي تشي عبارات لأحد كبار الأمراء عن المصير المشترك بين آل سعود والوهابية، فزوال أحدهما يفضي دون مناص إلى زوال الآخر.

المشكلة تكمن في تداعيات مثل هذه التصريحات على الفئات السكانية غير المصنّفة على السلفية، ومن الطبيعي أن يجد كثير أنفسهم غير معنيين بكلام الأمير، فهم في المؤدى النهائي في منطقة تقع خارج النسق التاريخي والديني والإجتماعي للعلاقة بين آل سعود وحليفهم السلفي، وإذا ما جرى استدعاء كل ويلات هذه العلاقة على مناطق متفرّقة من البلاد، تكون النتيجة أن سلفية الدولة ليست سوى إصراراً على السير في طريق إعلان الحرب المفتوحة على خصوم إفتراضيين، وبالتالي تثبيت قناعة قديمة متجددة بأن الدولة الحالية ليست سوى ظاهرة قهرية قامت على أساس مصادرة الحرية والعدل والمساواة، تبعاً لمصادرة الأرض والممتلكات.

وخلاصة القول: إنها دولة منطقة وفئة ومذهب، ولتكن لباقي المكوّنات في هذا البلد دول خاصة بهم أيضاً، أليس الأمير نايف وأمثاله من يؤسسون لتفكيك الدولة، فلماذا الحديث عن الوطن للجميع؟!

الصفحة السابقة