أقلام في غاية الحذاء!

توفيق العباد

لم تكن الدولة العبرية بحاجة إلى صحف وفضائيات تنفق عليها كيما تصل للرأي العام العربي، فقد تكفّلت دول الإعتلال بتوفير كل ما يحتاجه الكيان الصهيوني من ذلك، فقد تجنّد جيش من الأقلام العارية في الخليج وخصوصاً في السعودية والكويت للكتابة بفجور غير مسبوق عن العدوان الإسرائيلي بطريقة تحمّل أطفال غزة ونسائها مسؤولية الموت العبثي الذي يتجرعونه..

يبتهج موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية بإعادة نشر مقالات في صحف عربية تعود لدول الاعتلال: الشرق الأوسط، الاهرام، الوطن الكويتية، السياسة الكويتية.. ولكتّاب محددين مثل عبد الرحمن الراشد، وطارق الحميد، وتركي الحمد، وفؤاد الهاشم وعبد الله الهدلق وأحمد الجار الله.

الراشد: لم يكن راشداً

في 25 أغسطس 2008، كتب مدير قناة (العربية) المموّلة من السعودية، مقالاً في صحيفة (الشرق الأوسط) يعلّق فيه على ردود فعل عربية على قرار الكيان الصهيوني بإعادة 93 بالمئة من أراضي الضفة الغربية، وتوقّف الراشد عند كلمة (فقط) التي جاءت في سياق إستنكاري على القرار الصهيوني، وانبرى بحماسة غير مفهومة في الدفاع عن القرار، وأن العرض الإسرائيلي كان سخياً كونه ينطوي على تنازل!! من قبل الكيان الصهيوني عن غالبية الأراضي في الضفة الغربية، وقال: (لو أن العرض المقترح كان 39 في المائة، لكن الرقم المعلن مشجع، ويستحق من الفلسطينيين والعرب دراسته، والتعاطي معه بشكل ايجابي، ويعتبر إنجازاً جيداً من قبل الوفد الفلسطيني المفاوض في ظروف تفاوضية صعبة). ويضيف الراشد (أن هذا الاقتراح تقريباً يماثل أو أفضل مما عرضه إيهود باراك في عام 2000 وهو العرض الذي لام الجميع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لانه رفضه).

المقال في مجمله دعوة للقبول بالتسوية بحسب العرض الإسرائيلي، موجّهاً اللوم للفلسطينيين الذين يرفضونه، بل يكاد يكون الراشد مروّجاً جوّالاً لبضاعات التسوية الصهيونية..

ومع بدء الغارات الوحشية الصهيونية على قطاع غزة، تحرّك جيش (المضّلين الجدد) ليشرع في غارات صحافية فاجرة مشاركاً في الجريمة، وموغلاً في دماء الأطفال والنساء والشيوخ.. ونحن أمام نماذج من تلك المقالات الفاجرة التي نضعها بين يدي القارىء كيما لا ننسى الضالعين في الجريمة من عرب الاعتلال:


دماء غزة.. مشروع تجاري

طارق الحميد

هكذا ببساطة، دماء غزة باتت خاضعة لحسابات تجاربة كما يراها الحميد، في سياق التخفيف من حجم الجريمة الصهيونية وبشاعتها..ولم يكن مستغرباً أن يكون المقال غير الحميد من المقالات المختارة التي وضعتها وزارة الخارجية الاسرائيلية في موقعها.

الحميد: سطحية وركاكة

مقال الرأي لطارق الحميد، بعد يوم من العدوان الاسرائيلي الهمجي على قطاع غزة ونشرته صحيفة (الشرق الأوسط) التي باتت منبراً عبرياً بامتياز، حمّل الضحية ـ حماس وسكّان القطاع مسؤولية الجريمة الإسرائيلية عبر دعوى تحقيق حماس لأجندة إيرانية. ولذلك كان الحميد أول من عارض انعقاد قمة عربية للخروج بموقف حاسم من الجريمة الصهيونية، قائلاً (فالمطلوب ليس قمة عاجلة، بقدر ما اننا بحاجة لموقف عربي حاسم. موقف يحمل المسؤولية للطرف المسؤول، فإذا كان التصعيد الحاصل الآن هو استهداف من قبل حماس وإيران للمفاوضات المتوقعة بين سورية وإسرائيل فليسموا الأشياء بأسمائها، وإذا كان من أجل تعزيز الموقف السوري فليقولوا ذلك أيضاً). مضيفاً (إن التساهل مع حماس يجعل العالم العربي شريكا في معاناة الفلسطينيين).

براعة في الوقاحة غير مسبوقة، يتقنها الحميد وجوقة شرق الأوسطيين الجدد، الذين عملوا بكيدية قبيحة من أجل تجريف القضية الفلسطينية من الذاكرة العربية، ليصبح الكيان العبري بريئاً من دماء أطفال ونساء وشباب غزّة.. وفوق ذلك، ينصّب الحميد وزملاؤه في الوقاحة الصحافية، من أنفسهم أوصياء على فلسطين القضية، والتاريخ، والمستقبل أيضاً، ليقول إن (الوقوف مع أصحاب القضية لا يعني أن نجعلهم ورقة للعب بيد حماس، ومن خلفها. على العرب أن يسموا الأشياء بأسمائها طالما أن حماس ومن يقف خلفها لا يترددون في توجيه التهم والتخوين للعالم العربي. دعوهم يتحملون مسؤوليتهم ولو مرة واحدة).

ونقول له ولأمثاله، لا لم تقفوا مع القضية في يوم ما، ولم نقرأ ما يفيد دفاعك عنها، شأن الحكومة التي تكتب بإسمها وتترافع عنها في لحظة الحقيقة الكبرى في تاريخ هذه الأمة، وإذا كان ثمة حاجة لتسمية الأشياء بأسمائها فإن ما يلزم قوله قبل أن ينقشع دخان المعارك أن آل سعود لم يكونوا في يوم ما مع القضية الفلسطينية، وأن مهمة معسكر الاعتدال مصمّمة لتصفية القضية التي تزعم الوقوف معها.


حماس: يخربون بيوتهم بأيديهم

عبد الله بن بجاد العتيبي

على نفس المنوال، نسج عبد الله بن بجاد العتيبي، السلفي السابق، الذي رغم انتقاله الإيديولوجي من جبهة إلى أخرى، إلا أنه حافظ على نزوعه الراديكالي، وفي كلا الحالتين لم يتخلص من حمولته الطائفية، خصوصاً حين يقارب قضية مقدّسة مثل فلسطين.

العتيبي: راديكالي ولكن ضد حماس

لم يحد إبن بجاد قيد حذاء عن المسار المرسوم من قبل الموجهّين الكبار، من عرب وعبريين، وكتب بعد الحميد، أي بعد يومين على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، (29 ديسمبر 2008)، مقالاً بعنوان ("حماس": يخربون بيوتهم بأيديهم)، وفيما بدا موضوعياً في البداية، في استعراض مآسي القضية الفلسطينية، واستغلال الحكومات العربية لها من أجل إخفاء عيوبهم، وتبرير إستبدادهم، وتسويغ تخلّفهم، إلا أنه حين يخوض في سبل الحل لا يتردد في تحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية كاملة عن كل المآسي التي جرت على الشعب الفلسطيني، بل زعم إبن بجاد بأن (الحركة لم تعط الشعب الفلسطيني شيئاً مما يبحث عنه ولم توصله لما يرجوه لا عن طريق السلم ولا عن طريق الحماقة التي يسمّونها مقاومة، بل زادته ضغثاً على إبّالةٍ ومنحته الخيار بين العيش فقيراً ذليلاً أو الموت في سبيل اللامعنى واللاهدف..).

إذاً، فالمقاومة الفلسطينية الممثلة في حماس وباقي الفصائل باتت حماقة، من وجهة نظر إبن بجاد! وليته اكتفى بذلك التوصيف، بل أعقبه بتخوين المقاومة، عبر ربطها بولاءات غير وطنية أو قوى إقليمية، (تحديداً إيران وتابعتها سوريا)، على حد قوله.

علّقت إحداهن على المقالة ووجّهت سؤالاً لإبن بجاد (اذن ما نسمي الثورات والمعارك التي خاضتها الحكومات السعودية السابقة في سبيل انشاء الدولة السعودية أم إنك لم تدرس التاريخ السعودي..)؟!

ويستعين إبن بجاد بذاكرته الحركية السلفية السابقة المشبّعة بأدبيات الحركات الإسلامية، كيما يدرج موقف حماس في سياق الانتماء الأيديولوجي والحركي مع (الأخوان المسلمين)، لينال من الأمين العام للحركة محمد مهدي عاكف، لأنه وجّه نقداً لموقف الحكّام العرب المتخاذل بقوله (إنّ الصهاينة لا يستطيعون القيام بهذا إلا بتضافر مع الحكّام العرب). ومع أن ما قاله السيد عاكف بات واضحاً منذ الأيام الأولى للعدوان، إلا أن إبن بجاد لا يرى سوى إيران وسوريا في الصورة، تماماً كما يريد ذلك المسؤولون الصهاينة، الذين اتفقوا مع معسكر المعتدلين العرب من ساسة وأقلام.

وبالرغم من أن قادة المقاومة الفلسطينية أكّدوا سراً وعلانية على أن المقاومة لا تخضع لأجندات إقليمية أو دولية، وليست وليدة الأمس حتى إذا ما رفعت حركة حماس راية المقاومة صارت إيرانية أو سورية.. يقول بأن حماس جاءت الى مكة للصلح مع فتح، ثم عادت وانقلبت ورجعت لتغرّد في سرب إيران، ولا ندري كيف تنقلب حكومة على ذاتها، وكيف تغرّد في سرب إيرانياً كان أم سورياً أم تركياً، وهي التي وقعت ضحية مؤامرة فريق دحلان ـ بندر، الى حد أن قادة حماس تنازلوا عن حصص لهم ثابتة في حكومة الوحدة الوطنية، ولكن أصرّت سلطة رام الله إلا أن تعيدها جذعة!

وفوق ذلك يتهّم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بأنه (المخدوع عن نفسه يسيّره الآخرون إلى حتفه وهو يرى ويسمع دون أن يكون له عقل يحاكم ويحكم، ودون أن يعذّبه ضميره أو تتحرك فيه شعرةٌ لرؤية القتلى والجرحى والثكالى..)، عجباً لمثل هذا الاسفاف، وكل مشكلة مشعل أنه لم يخضع لإملاءات آل سعود، كما فعل فريق محمود عباس.

ويتباهى إبن بجاد واهماً بأن العرب ـ ويشير بطبيعة الحال وحصرياً إلى قادة الإعتدال، (بذلوا الغالي والنفيس من أجل فلسطين، ومن أجل القضية الفلسطينية..). فهل أخبرنا عن هذا الغالي والنفيس اللذين تم بذلهما من أجل فلسطين، فإذا كان كما يقول إبن بجاد لماذا هذا الغالي والنفيس أضاع فلسطين، ولم يبق منها سوى غزة الصامدة، التي تمسك بزمامها حماس وخالد مشعل واسماعيل هنية اللذين أتى على ذكرهما؟!

ثم يعيب على مشعل وهنية لأنهما ارتميا في حضن الأيديولوجيا ونسيا السياسة، فقط لأنهما تبنيا أيديولوجية النضال والمقاومة على قاعدة دينية، بالرغم من أن مقالة إبن بجاد تنضح بالأدلجة من سطحها حتى القعر..وما يثير الدهشة، أن كل ذلك التشنيع يأتي في سياق الدفاع عن موقف متخاذل عبّرت عنه قيادات معسكر الاعتدال، ولم تكن شعوب العالم عرباً ومسلمين ومن كل ديانات الأرض التي خرجت في شوارع الدنيا إحتجاجاً على مجازر الصهاينة في غزة، مدفوعين من حماس أو إيران أو سوريا، ولم تكن المطالبة بكسر الحصار، وفتح المعابر مطلباً إيرانياً أو سورياً، بل مطلب فلسطيني وعربي ودولي، فهل فتح المعابر بات مفردة أيديولوجية هي الأخرى، حتى يصبّ إبن بجاد جام غضبه على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، أم أن إغلاق رفح كان قراراً إيرانياً تم قبل يوم واحد من إعلان خالد مشعل إنهاء الهدنة!

إنه الغطاء الخائب لجريمة الصهيونية في غزّة، يشارك في رفعه وشدّه جحفل من فوارس القلم المشبوه في وقت تواصل فيه آلة التدمير الصهيونية فعلها الدموي والهمجي في غزة..وإذا كان هذا حال إبن بجاد ومن على شاكلته، فنقول شكراً لكم، ونناشدكم من كل قولبنا بالتخلي عن فلسطين، لأنكم لستم برجالها، ولا المنافحين عن ترابها ولا شرفها ولا كرامتها، فالعرب الذين تنتمون إليهم لن يسعوا، كما عوّدونا، (لاختيار أفضل الممكن والمتاح وفرضه على الطرف الآخر)، فقد اختاروا سبيل المجرمين، ببيع الأرض، وهاهم يبيعون الشعب الفلسطيني لآلة الدمار الصهيونية، دون حياء ولا كرامة!

في مقال آخر بعنوان ("التفرّس" العربي وجنازة غزّة)، نشرته جريدة (الإتحاد) الإماراتية في 5 يناير الجاري، يقول ابن بجاد بأن جريمة الكيان الإسرائيلي ما كانت لتقع (ولكنّ المتحرّشين به بلا سببٍ هم الذين جلبوها له على طبقٍ من دمٍ وشعاراتٍ وغوغائيةٍ، وهم الذين قالوا له بلسان الحال اذبحها لنمشي في جنازتها..).

لسانيات إبن بجاد تفتّقت عن أن التفرّس غير الفراسة، ليثبت بأن التفرّس هو أن يصبح الشخص فارسياً (ونعم العبقرية الفذّة)، وكل ذلك في سبيل إثبات أن حزب الله وحماس ينفّذان أجندة إيرانية أو فارسية بحسب إجتهاده الفيلولوجي!!

ولسنا بحاجة إلى كبير عناء لاكتشاف بقية الرواية، فمعكسر إيران يقف ضد معسكر الإعتدال، من أصحاب الأيادي البيضاء والناعمة والملائكية على القضية الفلسطينية، بل قضايا الأمة بأسرها، في مقابل معسكر الأشرار، بحسب التصنيف الأميركي، الذي يريد السيطرة على الأمة من خلال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما مأساة غزة إلا إحدى رهاناته في اختراق الأمة، عبر التشييع، والفرسنة، أو التفرّس إلتزاماً بعبقرية إبن بجاد اللغوية. بل أكثر من ذلك يقول أن (العرب يسعون بقوةٍ لوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم والدمويّ ويسعون بذات القدر لتوحيد الصفّ الفلسطيني تحت قيادةٍ واحدةٍ منتخبةٍ تمثّلها السلطة الفلسطينية ـ أي سلطة محود عباس غير المنتخبة ـ ، و"حماس" ـ الحكومة المنتخبة ـ ترفض هذا لأنّها تريد مصلحتها هي لا مصلحة فلسطين..). هي ذات الإسطوانة المشروخة التي يعيد تدويرها، وتحوم حول ذات الأجندة المعدّة سلفاً.


مأساة غزة: أصابع إيران الخفية

تركي الحمد

هكذا تكرّ السبحة، فيأتي تركي الحمد المحسوب زعماً على التيار الليبرالي الوطني، ليودع الوطنية في ثلاّجة السلطة، التي تقدّمه منظّراً فريداً في القضايا الإقليمية والدولية، ولحظنا كيف يخلع نزاهته الأكاديمية ليخوض مع الخائضين، فيتحوّل إلى مجرد كاتب صحافي من الدرجة العاشرة، وإن حاز على مرتبة الشرف الأولى في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية التي كرّمته ووضعت مقالته بعنوانها المومىء إليه بتاريخ 31 ديسمبر الماضي، أي بعد مرور ثلاثة أيام على العدون الصهيوني على غزة.

الحمد: الباحث عن الإمارة

في مقدمة نظرية مفتعلة وانفعالية، يصوغ الحمد موقفاً من مأساة غزة ويعدّه أضعف الإيمان، وإذا به يحوّل الضحايا إلى جلاّدين، تطبيقاً لمقولة أحد مؤسسي الكيان الصهيوني بأن (الفلسطيني الطيب هو الفلسطيني الميت).. وغاية ما بلغت لغة الضمير لدى الحمد أن يقول بأن (ردة الفعل الإسرائيلية مبالغ فيها تجاه صواريخ حماس). ولكن حتى هذه الإدانة الرحيمة لا تغدو بريئة، فثمة تبرير للعدوان الصهيوني على القطاع بقوله (فإسرائيل تتعرض للإستفزاز المتكرر من قبل حماس، حين ترشقها بالصواريخ بشكل شبه يومي، فما هو المتوقع من إسرائيل والحالة هذه، وهي الدولة التي قامت واستمرت في الحفاظ على وجودها بالقوة والحل العسكري؟).

وبهذا التبرير يصبح العدوان الصهيوني مشروعاً، أليس كذلك؟ بل لا ينسى في لحظة التوازن الضميري، وهي أقصى ما يمكن للحمد أن يصل به التجرّد، بأن يحمّل الضحية مسؤولية أكبر من جلاده، فيقول (إذا كانت إسرائيل قد أجرمت بحق الفلسطينيين، فإن حماس شريكتها في الجريمة، بل وتتحمل الوزر الأكبر..). ولا ندري كيف يمكن لمثل هذا العقل أن يسهم في إصلاح دولة، بل إصلاح حارة، بالرغم من أن الحمد لم يشارك قط في أي من العرائض الإصلاحية التي رفعت للملك، بل كان يبوح باعتراضه على النشاط الإصلاحي.

وبحسب المطّلعين على أحوال الحمد، أن الرجل يسعى (للإمارة ولو على حمارة)، فقد اشتغل كثيراً في الإطراء والتزّلف من أجل الحصول على منصب وزير أو حتى عضو مجلس شورى، بل يقول آخر كان في لحظة يتمنى الاعتقال حتى يخرج منه بطلاً، ولكن محاولاته حتى الآن باءت بالفشل، ولكنه مازال يحاول، ونخشى أن يواصل المسيرة حتى يستنفذ ما بقي من...!

ولكن ما هو مستغرب، كيف يمكن لأستاذ في العلوم السياسية، وكثير ما هم في هذا البلد الذي لا يخرج إلا نكدا، أن يهبط بتحليل مأساة غزة إلى حد المهاترات الصحافية معروفة الغايات، ليضع ما جرى في سياق أجندة إيرانية، أو أن (إيران هي المستفيد الأكبر من كل ما يجري)، ليبني على الشيء مقتضاه، فيحفر عميقاً لجهة الكشف عن الأبعاد الإيرانية في العدوان الإسرائيلي على غزة، مستحضراً قراءاته السياسية المدرسية عن ميكافيلي، ليخلص منها إلى أن أحداث غزة، كما حرب تموز 2006، (لم تكن نتيجة فعل مقاومة وطنية من حزب الله أو حماس، بقدر ما كانت وسائل لإشغال إسرائيل، القوة الإقليمية الوحيدة المنافسة لإيران في المنطقة، كي تتفرغ إيران لبرنامجها النووي، وخططها الأخرى للهيمنة في المنطقة).

لماذا كل ذلك؟ وهل أفضل من العراق أو أفغانستان مكانين لمشاغلة الأميركيين، وهم القوة الأكبر في العالم! أم فقط لأن السعودية لديها مشكلة مع إيران، فيجب على الحمد المستقل جداً الإنغماس في الدفاع عن موقف أولياء النعمة، بالنيل من المقاومة الفلسطينية ممثلة في حماس والجهاد وباقي فصائل المقاومة بذريعة التواشج مع إيران. هل المطلوب القبول بإملاءات إدارة بوش والكيان الصهيوني حتى تحظى حماس بصك براءة من السعودية وأزلامها!.

ثم ما هذه القوة الأسطورية التي تملكها إيران لتسيطر على لبنان وفلسطين، وهما المحاطان بدول عربية كبرى مثل مصر وسوريا والأردن إضافة إلى السعودية..فإذا عجزت هذه الدول أو أغلبها عن القيام بواجبها إزاء مقاومتي البلدين، فهل المطلوب من إيران أو تركيا أو أي دولة تريد تقديم الدعم للمقاومة في لبنان أو فلسطين أن تتوقف، أو أن تحصل على إذن من عرب الإعتدال، وإذا كان كما يقول الحمد بأن (المخطط، سواء في لبنان أو غزة، يرتكز على سيناريوهات إيرانية معينة)، فأين هي سيناريوهات عرب الإعتدال، هل متطابقة مع سيناريوهات الكيان الاسرائيلي، وهو الأمر الذي بدا واضحاً بعد العدوان الوحشي على غزة؟.

ومن أغرب ما يقوله الحمد استنكاره لأي مسعى لإضعاف الدولة العبرية، حيث لا يجب أن تظهر كذلك (أمام شارع عربي وإسلامي يتوق لأن يرى إسرائيل ضعيفة قابلة للزوال، وذاك يشكل دعما معنوياً لانتشار آيديولوجيا الثورة الإيرانية، سواء بنشر التشيع السياسي، أو بتحول إيران لنموذج في مقاومة الاستعمار). هل كان الحمد في كامل قواه العقلية حين كتب هذه الفقرة الفاضحة، وهل صار المطلوب إبقاء الكيان الإسرائيلي قوياً لدرء خطر التشيع السياسي الإيراني؟، فإن قبل عاقل بتلك النتيجة، فذاك يعني إعترافاً غير مباشر بأن تواطؤ عرب الإعتدال مع الكيان الصهيوني في عدوانه البربري على غزة مصلحة مشتركة عربية ـ إسرائيلية، على أساس أن (القضية هنا هي قضية هيمنة إيرانية بحتة)!

تقول إحدى المعلّقات على مقالة الحمد بالقول: (لم يتفوق على الحمد في مقالته ولا حتى أكبر المؤمنين بنظرية المؤامرة البعيدة المدى) وتتساءل (هل يريد الحمد ببساطة أن يعلن عن شكوكه في تحالف حمساوي ـ ايراني تم في مكان ما ولم تعلم عنه قوى المسكنة العربية الأخرى، وانفجر بغتة على شكل مفرقعات حماسية شعللت الحرب الإسرائيلية على عالم العرب وتسقط ثمار هذه الحرب في الحضن الايراني؟).

وتضيف (المقالة مخجلة بكل أسف، ولاأظن أن الحمد كتبها إلا أن تكون خربشة مسودة لرواية عن كيفية تفكير العقل العربي، فربما يكون هذا أكثر قبولاً في العقل من أن يكون الحمد قد قصد كل كلمة قالها في هذا المقال..). وتضيف (كلنا نعرف ان أيران، كأي كيان سياسي ـ بشري كبير، تحاول التمدد السياسي وكسب امتيازات في المنطقة العربية مثلها مثل اي كيان سياسي يشوف المال السايب... وهي لاتمارس استثناء أو شيئا مخجلاً لا في التاريخ ولا في السياسة، ولكن لن تصل ايران بحكمتها ولا تخطيطها ولاتطورها السياسي الى هذه الدرجة المتقنة من التآمر).

وتعلّق على دعوى التوظيف الإيراني للمأساة في غزة بالقول أن (السلوك الاجرامي الصهيوني ليس جديدا ليحتاج إلى وقود ايراني من مفرقعات حماس.. ولم تكن ايران ولا ثورتها الاسلامية ولاتمدّدها موجوداً عندما أسست دولة اسرائيل على جماجم وعظام عرب 48 واراضيهم، واسرائيل من لحظتها وهي (كيان توسعي وقح) يحتمي بغطاء أمريكي شرعي دولي

هكذا الأمر بكل بساطة فمالحاجة لإيران في هذا السيناريو كله؟.. هل تصر الآن على توظيف المشهد الدموي الغزاوي ليكون حلقة في سلسلة صراع قوى نووية تلهي كل واحدة منها الثانية؟).



الصفحة السابقة