دولة التأجيل

تأجيل انتخابات الصحافيين الى 26 فبراير 2004، تأجيل قرار تأنيث محلات بيع الملابس الصادر في 15 مايو 2006 إلى أجل غير مسمى، تأجيل فتح باب المنافسة على رخصتي (الجوال) و(الثابت) في 25 سبتمبر 2006 إلى وقت آخر، تأجيل إجتماعات مجلس التنسيق اليمني السعودي في 8 أكتوبر 2007 إلى ما بعد رمضان المبارك، تأجيل أول مؤتمر للإقتصاد المعرفي في 19 أكتوبر 2007 إلى شهر يناير من العام التالي، تأجيل موعد استلام عروض مصفاة جازان في 29 يناير 2009 إلى شهر سبتمبر من العام نفسه..هذه حصيلة جوجلة عاجلة من قرارات التأجيل التي شهدتها البلاد في غضون السنوات الأربع الماضية، وهناك عشرات قرارات التأجيل التي تتفاوت في نوعها وأهميتها بل وفي لطافتها، ومن أبرزها ماورد في إعلان إحدى الشركات بأنها قررت (إفتتاح باب التأجيل..)، حتى بات التأجيل جزءً من الخصوصية الثقافية في هذا البلد، وعلامة فارقة في بيروقراطية الدولة..

ولاغرابة في الأمر، ولو قدّر لموسوعة غينيس للأرقام القياسية أن ترصد أكبر عدد من قرارات التأجيل لما عدت هذا البلد، بل الأهم من ذلك كله هو طول أمد التأجيل. فقد امتدّ قرار تأجيل الإصلاح في الدولة منذ 1962 إلى 1992 يعني ثلاثة عقود متواصلة، لا يكاد يخلو عقد فيها من تصريح من ملك أو أمير رفيع المستوى من (عزم مؤجّل) على إدخال إصلاحات سياسية إلى البلاد، بل تكاثرت التصريحات في نهاية السبعينيات حتى صار الحديث عن قرار قريب لا يتجاوز بضعة شهور، وأن الترتيبات جارية من أجل البدء بالإصلاح، وإذا بالعدوى المزمنة تتسلل إلى القرار فتلقيه في غياهب التأجيل مجدداً، وهكذا يعيش بلد بأسره على مائدة الآمال المؤجّلة..

وإذا ما انسدّت آفاق التأجيل، ولم يعد ثمة مفر من خطوة عملية، جاء القرار كسيحاً، أو متردّياً، فلا يسمن ولا يغني من جوع، كما كان حال الأنظمة الثلاثة (الأساسي، والشورى، والمناطق) التي أعلن عنها الملك فهد في مارس 1992، والتي قدّمت وصفة نموذجية في التقهقر للوراء قرنين كاملين، بتفويض أمور البلاد والعباد إليه وحده لا شريك له. ولأن التأجيل جبلة متوارثة، فقد انتظر السكّان زمناً قبل أن يتشكّل مجلسا الشورى والمناطق، وبعد إتمام خطوة إعلان الأسماء، كان على أعضاء المجلسين إنتظار قرار الإفتتاح..عملية لا يكاد تخيّل سريانها الباعث على الضجر..وبالرغم من ذلك، بقي مجلسا الشورى والمناطق هيكلين عظميين لا يكسوهما سوى الإسم الذي أسبغ على كل منهما. أما بقية القرارات فدخلت في آلية التأجيل حتى صارت نسياً منسياً، فلا حرية فردية، ولا احترام لحقوق الإنسان، ولا حماية للملكية الفردية، ولا شيء من ذلك بتاتاً، فقد إلتزمت العائلة المالكة بأمانة عالية بكل خصائص دولة النهب والقهر.

ولأن قطار التأجيل يسير على سكة الاستبداد السياسي، فقد ارتهنت الدولة بأسرها بعد مرض الملك فهد سنة 1996، ما يقرب من عقد كامل، فلم يصدر قرار سياسي يثير الإهتمام، بل بات ولي العهد، الملك الحالي، يمارس دور رئيس حكومة تصريف الأعمال، متسلّحاً بوعود آجلة للقيام بإصلاحات في البلاد، فور اعتلائه العرش.

وقبل أن يسبق العذل السيف، قرّر عبد الله أن يخوض مع الخائضين في سياسة التأجيل، فبعد أن أوهم المؤّملين خيراً في لهجته الإصلاحية، فاجأهم بانسحاب ماكر، تاركاً لرجل الأمن الأول في البلاد كيما ينهي مهمة نحر الإصلاح من القفا، وعمد إلى اعتقال الإصلاحيين في 16 مارس 2004، لتدخل البلاد دورة تأجيل جديدة..ولكن هذه المرة بقطع دابر الإصلاح من جذوره.

ولأن التمويه صنو للتأجيل، رمت العائلة المالكة قصعة خبز يابسة في هيئة نصف إنتخابات المجالس البلدية بعد أن ضيّقت الخناق عليها بإجراءات قانونية، وتدابير أمنية مكثّفة كيما لا تعود قادرة على الخروج من قمقم السلطة.. وجرت الإنتخابات بنصف تعيين ونصف انتخاب مع غياب المرأة ناخية ومرشّحة.. وبعد إتمام عملية الإنتخابات، وتشكّل المجالس البلدية، بقي الأعضاء سنة كاملة بلا مأوى يلجؤون إليه لعقد جلساتهم، ولا مقرّات يداومون فيها، وتأجل الحديث عن ذلك كله لأجل غير مسمى، وبعد سنة وبفعل جهود ذاتية حصل الأعضاء على مكان في مبنى المحافظات، واقتصرت نشاطاتهم على متابعة أمور خدمية محدودة..

وكان على أعضاء المجالس خوض نضال عسير من أجل الحصول على مخصّصات مالية تعين على تنفيذ بعض المشاريع الخدمية، بعد أن ضاقت بهم انتقادات الناخبين، الذين رأوا لأول مرة في تاريخ هذا البلد صناديق الإقتراع في الأماكن العامة..لم يكن بطبيعة الحال مشهداً مريحاً لوزير الداخلية ولا لأمراء العائلة المالكة، حتى قال قائلهم بأن ذلك مجرد لعبة يتسلون بها، فلن يتغيّر شيء!

الآن، وبعد مرور أربع سنوات على المدة القانونية المقررة لدورة المجالس البلدية، سمع الجميع في مطلع فبراير من وزير الشؤون البلدية والقروية الأمير متعب بن عبد العزيز بأن ثمة توجّهاً لتأجيل الإنتخابات البلدية الى ما بعد سنة من نهاية الدورة الأولى. هذا على المستوى الرسمي، أما على المستوى الشعبي فهناك تسريبات من أعضاء المجالس البلدية بأن النيّة معقودة على التمديد للمجالس الحالية لعامين آخرين.

وبصرف النظر عن دوافع التمديد، فقد باتت معلومة، فإن قرار التأجيل يؤكّد حقيقة أن الإصلاح التدريجي ليس مجرد وهم فحسب، بل جرى استعماله في سياق تعطيل الإصلاح، ولم يأت للرد على القائلين بالإصلاح الفوري والشامل..وإذا ما نجحت العائلة المالكة في تأجيل الإنتخابات البلدية هذه المرة، فإنه يلتحق بفعاليات أخرى طالها التأجيل منها الحوار الوطني، وهيئة الصحافيين، ولجنة العمل والعمال بالرغم من كونها منتجات حكومية، أريد منها قطع الطريق على المؤسسات الأهلية..

إذاً، ما نشهده في الوقت الراهن عبارة عن تمسك بثابت وطني وهو (التأجيل)، الذي ندعو لخادم الحرمين أن يجعله مناسبة وطنية سنوية، وإن كنا نخشى أن يطالها قرار بالتأجيل هي الأخرى، فتصبح زيادة التأجيل تأبيداً.

الصفحة السابقة