دور رجال الدين والمجتمع

المصالحة المستحيلة

محمد فلالي

لاريب أن الانخراط الكثيف والواسع لرجال الدين في المجال العام بقدر ما بعث تطلعات ضامرة للعلماء، فإنه أيضاً وضعهم على محك الاختبار العملي في ميدان المجتمع، وفي الوقت نفسه دفع مكوّنات أخرى ثقافية وأيديولوجية للدخول في حلبة المنافسة على مجال التوجيه الإجتماعي. كان يمكن لطبقة رجال الدين أن تحتفظ بدور منافس وريادي فيما لو أبقت مجال المنافسة مقتصراً على المجتمع دون الدولة دع عنك المنظمومة الدولية، ولكن هجمات الحادي عشر من سبتمر كشف عن المخبوء في المشروع الكوني للدينية السلفية، فما لم يقله العلماء نفّذه الأتباع بعد انخراطهم في مشاريع جهادية خارجية، بوحي من تأثيرات الأفكار التي تشرّبوها على يد العلماء.

أعادت ظاهرة العنف المتفجّر بوحي من إملاءات دينية سلفية السؤال النمطي عن المدى المقبول لنفوذ طبقة رجال الدين في المجال العام، بالنظر إلى الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بتأثير من فتاوى، وكتابات، وتصريحات صدرت عن العلماء ولم تحل النزاهة الروحية المزعومة عن اقتراف جرائم منكرة. فالنقاش الحاد الذي برّزه وزير العمل الحالي الدكتور غازي القصيبي في كتابه (حتى لا تكون فتنة) خلال حرب الخليج الثانية، في سياق نقده لنزعة مشايخ الصحوة نحو إعادة إنتاج نظرية (ولاية الفقيه) لدى السيد الخميني في المجال العقدي السلفي، إنتقل في سنة 2005 الى قصر الملك عبد الله، حيث أثار الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي مفهوم ولاية الأمر، والمصاديق التي يشملها المفهوم، الأمر الذي دفع الشيخ ناصر العمر، الصحوي المتشدد، لكتابة مقالة من جزئين عن مفهوم ولاية الأمر، في سياق منافحته عن موقف الشيخ التركي المؤيد للرأي القائل بأن العلماء هم أبرز مصداق لمفهوم ولاية الأمر.

حاول الداعية السلقي الشيخ سعد البريك في ثلاثية منشورة في صحيفة (الجزيرة) بعنوان (المرجعية الدينية والمشروع المجتمعي ..إسقاط العلماء أم إسقاط الشريعة) بتاريخ 12 فبراير ومابعده إعادة إنتاج الصورة النمطية للسلطة الروحية لعلماء الدين في المجتمع، بكونهم صفوة منتخبة من القديسين الذين ينعمون بنزاهة خاصة تحول دون الوقوع في الخطيئة، وتالياً الحصانة أمام النقد والمسائلة، وصولاً الى التجريح، فهي الطبقة القادرة على تسيير شؤون المجتمع وقيادته بصورة منفردة.

تدفع ردود الفعل على خلفية التجاذب بين طبقة رجال الدين والمشايخ من جهة وماسواهم من مثقفين أو متنوّرين دينيين الى تصعيد نبرة الخطاب المصاحب لتعلية مكانة طبقة رجال الدين في المجتمع مشفوعة بنصوص علوية مختارة بعناية، أو قوالب عقدية مشحونة بجرعة تأويل دغمائي لروايات دينية وتاريخية تهدف إلى إعادة مركزة دور علماء الدين بفعل الزحزحة الموضوعية أو المتعمّدة التي تعرّضوا لها نتيجة نشوء طبقات جديدة منافسة سعت إلى تأكيد حضورها الإجتماعي والثقافي والسياسي واقتسام دور فاعل في عملية صنع الوعي والتوجيه في المجتمع..

على أية حال، فإن الجدل حول النفوذ المعنوي للعلماء يترشح دائماً للتصاعد عمودياً ليصبح أولوية في المناظرات الثقافية والعقدية، وأفقياً لينعكس في سلوك الأفراد والجماعات إزاء السلطة الروحية لطبقة العلماء، الذين ما إن يشعروا بأن افتئاتاً على سلطانهم قد أصبح وشيكاً تحرّك العلماء لإعادة ترسيخ الدور المركزي الذي يضطلعون به في مجالي المجتمع والدولة معاً.

وفيما بدا أن المناظرة عن حدود سلطة العلماء قد حسمت بصورة نهائية، نقلت صحيفة (الوطن) في 19 يناير الماضي عن المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ قوله أمام فعاليات مؤتمر الفتيا وضوابطها في مكة المكرمة، وقال في سياق حديثه عن خطورة الفتوى ومكانة المفتى بأن (المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة).

كان يمكن لموقف تيولوجي من هذا القبيل أن يتوارى سريعاً، شأن مواقف أخرى واجهت المصير ذاته حول قضايا ذات صلة وثيقة بالدور التشريعي للعلماء أو حتى نفوذهم الإجتماعي، ولكن إطلاق موقف لافت مثل تصعيد مكانة المفتي الى مقام النبي يندمج على الفور في نسيج المناقشات المحتدمة حول قسمة ولاية الأمر بين العالم والحاكم.

هناك من لم يعترض على كلام آل الشيخ حول المكانة المصعّدة للمفتي، إلا أنه وجد في فتاوى أخرى متعارضة مع تلك النزعة الدينية المتعالية. من بين تلك الفتاوى المثيرة، سؤال طرحه أحد أىتباع المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ما نصه: ما قول سماحتكم في من جعل العلماء الذين مضوا مثل سماحة الشيخ ابن باز و ابن عثيمين، علماء سلطة لم يبينوا للناس فقه الحاكمية، كيف ندافع عن أعراض هؤلاء العلماء؟ وكان الجواب على هذا النحو: كل علماءنا و كلنا علماء سلطان، و ما في مانع، إذ أن سلطتنا مسلمة نتعاون معها على الخير، ونتعاضد معها على الخير، فما المحظور؟ وقال (العلماء واجبهم الإلتحام بالسلطة و التعاون معهم و شدِّ أزرهم وبذل النصيحة لهم فيما بينهم و بينهم، وأن يظهروا للناس محاسن الولاة و يحذّروا الناس من الأمور الرديئة، علماؤنا الشيخ عبد العزيز بن باز غفر الله له، والشيخ ابن عثيمين وقبلهم الشيخ محمد ابن براهيم، وقبلهم وقبلهم كلهم مع الولاة و في مجالسهم ويحضرون مجالسهم و يتعاونون معهم، و هذا هو المطلوب..).

اصطفاف العلماء خلف الأمراء مثّل دائماً علامة فارقة في المدرسة السلفية الحنبلية، تميّزها عن باقي المذاهب الإسلامية الأخرى، الأمر الذي يخفف من حدّة الطروحة التي تبناها الشيخ المفتي عبد العزيز آل الشيخ في مسألة مقام المفتي. إذ لا يمكن تصوّر نبي خاضع تحت إمرة سلطان، ما يعلي، بصورة غير مباشرة، من شأن ولي الأمر بالمعنى السياسي، أي الأمير ـ الحاكم، فقد إنقسمت ولاية الأمر التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بين العلماء والأمراء، إلى أن جاء من يجمع القسمة ويضعها في يد العالم. في تعليقه على مقولة نبوية مقام المفتي، يستعيد عبد الله ناصر الفوزان في صحيفة (الوطن) في 2 مارس مقالة بعنوان (من القائم مقام النبي..المفتي أم ولي أمر المسلمين؟) الرسم التاريخي والنمطي لخط توارث الولاية، المتجسد أولاً في الخليفة ـ أي الوارث لسلطة النبي بالمعنى العام، الدينية والزمنية، على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان (يتولى الشؤون السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية وكان يقوم مقامه في حياته كثيرون، فهناك الولاة الذين كانوا يقومون مقامه في الشأن السياسي، وهناك القضاة الذين يبعثهم خارج المدينة ليقوموا مقامه في القضاء بين الناس، وهناك من يقوم مقامه في المناطق المختلفة في إيضاح أمور الدين، أما بعد مماته (صلى الله عليه وسلم)، فلا بد أن يكون هناك فرد واحد يقوم مقامه في الدولة الإسلامية قبل أن تتمزق إلى عدة دول هو الخليفة أو الإمام أو السلطان، أي المسؤول الأول في الدولة، أما بعد أن تمزقت فالمفروض أن يكون في كل دولة فرد واحد يقوم مقام النبي هو المسؤول الأول في الدولة…)، وهو المسؤول عن تعيين القضاة والمفتين، تماماً كما جرى في الخلافة العباسية والعثمانية وصولاً الى الدول الحديثة العربية والإسلامية حيث يتولى رئيس الدولة مهمة تعيين القضاة وهيئات الإفتاء.

وتأكّد مفهوم ولاية الأمر باعتباره منصرفاً للأمير والحاكم دون العالم في التجربة العباسية، حيث زاول الخلفاء ما اعتبروه سلطان الله وليس خلافة رسول الله. ونقل ابن عبدربه الأندلسي أن (السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده به يمتنع حريمهم وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم‏) (العقد الفريد، الجزء الأول ـ كتاب اللؤلؤة في السلطان ص 2). وأخرج عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ..(إبن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، الجزء الرابع ص 99)

المفتي: عبدالعزيز آل الشيخ

كلام المفتي آل الشيخ عن مقام المفتي في الأمة ليس (لا تاريخي) فحسب، بل إنه يفتقر الى مصادر فقهية ولغوية تساعد على موضعته الى جانب مصطلحات شائعة في التاريخ والتراث الإسلامي مثل القضاة، والقضاء، الفقيه والفقهاء والولاة، فيما لا ذكر تماماً لمصطلح المفتي.

على أية حال، فإن مقولة آل الشيخ في المفتي ليس مجرد محاولة لقطع الطريق على بروز ظاهرة المفتين الذين يمارسون دوراً إفتائياً منافساً لمصادر الإفتاء الرسمية أو التقليدية، ولكنها محاولة أيضاً لتكريس السلطة الروحية والمعنوية للمفتي في الأمة، وهو ما أفرط آل الشيخ في تصويره الى حد إيصاله الى ولاية نبوة، بالرغم من أن أصداء هذه الفكرة تتردد في مدارس إسلامية أخرى سنية وشيعية على السواء (راجع إضبارات مجلس الإفتاء في مصر، وكتب ولاية الفقيه عند مراجع شيعة)

في ثلاثية البريك مسعى حثيث لناحية توقير الدور النمطي لعالم الدين، بوصفه مرجعية نهائية تنفرد بالعلم الشرعي، استناداً على أحاديث نبوية تشدّد على مكانة العالم، وهنا يكتسي العلم صفته الدينية دون سواه من العلوم الأخرى، إذ يصبح مادون العلم الشرعي جهل تام، وعلى حد قول البريك (هذا ما فهمناه وعقلناه)، وإن رمي علماء الدين بالجهل لا يعني سوى تجهيل العالم ونفي العلم عن أهله (فهذه السابقة الخطيرة والبدعة المستطيرة) حسب البريك، والتي يعتبرها دعوة (لتهميش دورهم في المجتمع). وكما في مناظرات مماثلة بين علماء الدين وسواهم من الخبراء في علوم أخرى، فإن النفوذ الإجتماعي يصبح امتيازاً حصرياً لعلماء الدين، لأن فتح باب الشراكة أمام طوائف أخرى من العلماء يؤسس لفتنة (قد تنقلب إلى طائفية مقيتة) حسب قوله.

في حقيقة الأمر، أن تمدّد نفوذ العلماء وافتئاتهم على مجالات اختصاص أخرى هو ما جعل علماء من خارج مجال الشريعة يطالبون بتحجيم دور العلماء، إن لم يكن تمدّد مساحة علماء الشريعة محرّضاً رئيسياً على اعتناق دعوة فتح باب الإجتهاد أمام الآخرين، الذين يرون في أنفسهم الكفاءة المطلوبة لإنتاج أحكام في موضوعات ذات اختصاص غير شرعي محض. لاشك أن مجالات مثل الإقتصاد، والمعاملات المالية، والفنون الجميلة، والرياضة، وتنظيم المجتمع، وعلم النفس التربوي، والعلوم الإنسانية دع عنك العلوم الطبيعية تبقى مجالات اختصاص لا يمكن لعالم الدين أن يبت فيها دونما ملكات خاصة.

يؤسس البريك لجدلية الدور الإستثنائي للعلماء على فرضية لم تعد قائمة، حيث أن الإنفتاح العلمي وانهدام سور احتكار طبقة رجال الدين للعلم الشرعي أسقط معه دعوى امتلاك العلماء قدرة الحيازة الكاملة للحقيقة الدينية المطلقة، فضلاً عن كون دعوى وجود أفهام فريدة لدى علماء الدين غير ثابتة، وبالتالي فإن الأفهام هي مجرد وعي العالم في لحظة تاريخية معينة للنص الديني، والذي لا يمكن اعتبارها تعبيراً نهائياً عن حقيقة دينية مطلقة، وهو ما يجعل الأفهام متبدّلة بحسب تبدّل الزمن ومنسوب الوعي بالنص في لحظات زمنية متفاوتة أو بالأحرى متعاقبة. إن ما ينكره البريك من دوافع سياسية وشخصية ونفعية تقتحم فضاء صناعة الفتوى بات إحتمالية قائمة على الدوام بفعل تواشج السلطتين الدينية والزمنية، لا يضعف منها ـ أي الاحتمالية ـ خروج العلماء أحياناً عن ممليات التواشج، بإصدار فتاوى متعارضة مع مصالح السلطة الزمنية.

إن مجرد توصيم من يتبنى موقف الفصل بين العلم والشريعة أو تجسير الفجوة بينهما بالليبرالية والعلمانية بغرض فصل الإسلام عن الحكم (وإحداث انقلاب شامل على النظم والتشريعات) حسب قوله، يبقي باب الجدل مفتوحاً على مصراعيه، ولا يصلح أساساً لتسوية الإشكالية المتجدّدة، في ظل تمدّد نفوذ علماء الدين في الفضاء العام، ودخول أطراف أخرى ترى في نفسها الأهلية الكاملة لتقديم رؤى دينية في مجالات تقع ضمن دوائر اختصاص.

فليس الأمر كما يصوّره الشيخ البريك باعتباره تشكيكاً في السنة، بالرغم من الملابسات المحيطة بعملية تدوين السنة التي وقعت بعد قرن ونيف على وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه يدور حول سلطة مزعومة لطبقة تشكّلت في ظروف تاريخية بالغة التعقيد وتنزع نحو الإتكاء على تلك الظروف التي لم تعد قائمة الآن، ما يعني الإفادة من الثمرة مع عدم وجود الشجرة. إن استدعاء تراث الجدل العقيم بشأن دور علماء الدين في المجتمع لا يضاهي تهافته سوى الإصرار على حيازة هذه الطبقة على كل علوم الكون والحياة والإنسان، بما يبطن إلغاءً لتخصصات مازالت خارج نطاق إهتمامات علماء الشريعة، اللهم إلا في حال تخويلهم كل شؤون المجتمع وإدارة جميع مؤسسات الدولة.

ما يقال عن السنة، أو بالأحرى ما ثبت منها والعمليات التقنية الداخلة في الوقوف على فحواها وأبعادها، ينسحب أيضاً على التفاسير القرآنية، ليس من باب التشكيك في النص القرآني، الذين يذعن البريك بأن ثمة إجماعاً على ثبوته كنص، ولكن من باب تطوّر الأفهام للنص القرآني، وهو ما ينعكس في كثرة التفاسير وتباينها..فقد سبق علماء الدين غيرهم في الإقرار باختلاف الأفهام، ولو لم يكن غير ذلك لثبتوا على تفسير واحد منذ الجيل الأول حتى اليوم. إن القول ببشرية التفسير وألوهية النص ليس تشكيكاً في النص بقدر ما هو توصيف لوضعية مفتوحة على مساحة العملية الاجتهادية البشرية في النص الديني الثابت. ولا يمكن أن توضع هذه العملية في سياق نفي مشروعية العملية الإجتهادية بالمطلق، وإنما يجري التعامل معها ضمن حدي الصواب والخطأ.

ما يحاول الشيخ البريك تأكيده في إعادة توشيج النص بالإجتهاد أمران رئيسان: السلطة الروحية والإجتماعية لطبقة علماء الدين، وتمديد مساحة تمسرح الشريعة التي تمتد إلى كل مجالات الحياة، وهي مساحة نفوذ العلماء أيضاً، وهو ما لفت إليه البريك بوضوح بما نصه (وفي الحالتين..لا يبقى للعلماء دور البتة فعند الفرقة الأولى قد سلبوا حق الاجتهاد والنظر ولم يبق لهم من دور إلا أن يخبروا الناس بما وقع الإجماع عليه..أما في الحالة الثانية ..فوضعهم أشبه ما يكون برهبان فرنسا قبيل الثورة! أي أنهم مجرد فكر ظلامي رجعي يوظف الدين لمصالحه الشخصية أو الحزبية أو السياسية (للحاكم)! وحكمه الإقصاء). بكلمات أخرى، ما يخشاه البريك هو أن تفضي تلك الآراء الى تحييد دور العلماء في أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو إجتماعي أو تنموي، أو ما يعتبره (دعوات صريحة للانقلاب على القيم الدينية التي تمثّل أساس التشريع وجوهر النظم على المستويات كلها في القضاء والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام وغير ذلك من الجوانب التي يتطرق إليها التشريع!). يضع البريك كل المناظرات بشأن دور العلماء في المجتمع في إطار تحريضي، ويعتبر الدعوة للحد من نفوذ علماء الدين في المجال الإجتماعي بأنها محاولة (إسقاط ثوابت الدين نفسه).

في الحلقة الثانية من ثلاثيته، يعيد البريك قراءة تجربة العلماء في بناء الدولة والمجتمع، في مسعى لتذكير الداعين لتقليص نفوذ العلماء بالدور المركزي الذي اضطلعوا به في (التوجيه، والإصلاح، والتنمية، والأمن، والإستقرار) حسب قوله. تجربة العلماء في بناء الدولة لاتمثل مقاربة إستثنائية لدى الشيخ البريك بل تعتبر نقطة انطلاق جماعية يبدأ منها مشايخ الصحوة، وسبق أن شهرها علماء الدولة السعودية الثانية بعد سقوط التجربة الأولى بسبب حياد الحكّام السعوديين عن مسار توجيه العلماء، وردّدها علماء الدولة السعودية الثالثة في الستينيات مع الشيخ محمد بن ابراهيم، ثم أعاد توظيفها مشايخ الصحوة في التسعينيات من القرن الماضي، وصولاً الى المرحلة الراهنة. فثمة استحقاق متواصل يحاول العلماء والمشايخ الإفادة منه كلما تعرّض دورهم للمسائلة أو التهديد. إنها النزعة نحو البقاء داخل المجال العام، الذي يجعل من نفوذهم الديني على المجتمع وحده الضمانة الأخيرة لاستمرار الدور.

الشيخ سعد البريك

يتوكأ العلماء غالباً على الدور المركزي الذي لعبوه في بناء الدولة والمحافظة على القيم الدينية وإصلاح المجتمع، ما يمنحهم سلطة معنوية علوية ومتميّزة مقارنة مع باقي القوى الإجتماعية الأخرى. ما يصفه البريك بـ (نزعات انفلاتية) داخلية شهدتها المملكة، وهبت العلماء قدرة على أن يصبحوا قوة فصل إجتماعي وفكري بأبعاد سياسية غير مغفولة، الأمر الذي يعتبره البريك سبباً وجيهاً في تعزيز دور العلماء في المجال العام.

في تقييم البريك لمن يصفهم بأهل الفكر ما يشي بتبخيس غير مباشر، وإن بدا غير ذلك، لأن النزعة التنزيهية في قراءة دور العلماء تغفل عن عمد التفريق بين الوطني المخلص وسواه من العلماء، بالرغم من أن معيار الوطنية في التقييم هنا يبدو مريباً من حيث المبدأ، إذ الأمر لا يتعلق حصراً بمن هو وطني وغير وطني، بقدر ما يتعلق بالكفاءة العلمية وجدارة الدور الإجتماعي. يبعث تقويم البريك سؤالاً مشروعاً ملحّاً على الدسائس الأيديولوجية في الأدوار الإجتماعية لأهل الفكر، إذ يتحول المقصد النقدي من أي حادث إجتماعي، من وجهة نظر البريك، الى عملية أيديولوجية محض (إذا كان لهؤلاء المنتقدين للأحداث مآرب أخرى، وخلفيات تجعل منَ الحدث فرصة لتمرير (الأيديولوجيا؛ كالعلمانية أو الليبرالية مثلاً)، فيما ينعدم المبيّت الأيديولوجي لدى العلماء (إنه دور العلماء الثقات الذين يصلحون بنصح، ويوجهون بإخلاص، وهمُّهم ومقصدهم: حفظ الدين والنفس، وصلاح الإسلام والمسلمين).

وما يقال عن الظواهر الإجتماعية ينسحب على المنعطفات السياسية والاقتصادية، إذ لا دور يعلو، بحسب البريك، فوق دور علماء الدين بكونهم، حسب الرؤية التيولوجية النمطية، أسوة للناس (لهم يطمئنون، وبهم يقتدون ويساسون). ومن الموضوعات المثيرة للجدل الذي يوضع على محك المقارنة سياسات البنوك والمعاملات المالية، والتي كانت دائماً، بخلاف تصوير البريك، في صميم المناظرة المفتوحة حول قدرة علماء الشريعة على استيعاب الموضوع قبل الحكم عليه، ما جعل تباين الفتاوى بينهم في المعاملات المالية شاسعاً، وقد بدا ذلك واضحاً أيضاً في قضية سوق الأسهم وأنشطة الشركات. إن تشكيل لجان شرعية مؤلفة من علماء دين للبت في تطابق المعاملات المالية مع المقاييس الشرعية لم يحسم الخلاف المتصاعد في المجال العام، بقدر ما أحدثه من إرباك عقدي في الوسط الإجتماعي السلفي بدرجة أساسية، خصوصاً في ظل تفجّر ظاهرة تعدد مصادر الافتاء، وتضارب الأحكام في القضية الواحدة، وخصوصاً المالية.

بخلاف ما يعتقده البريك بأن انغماس العلماء في الإفتاء حول المعاملات المالية بأنه (يرمز إلى أهمية العلماء، وحاجة الناس إلى أدوارهم في الحياة)، فإن الجدل لم يتم حسمه بصورة كاملة، بل يمكن الزعم بأن انخراط العلماء في المناظرة الفقهية حول المعاملات المالية أوجد عنصراً خلافياً إضافياً، ببساطة بسبب تباين فتاوى العلماء أنفسهم في الشؤون المالية، كما يلحظ ذلك في الموقف الفقهي من شراء أسهم بعض الشركات، أو المعاملات المالية مع بعض البنوك، بما فيها المصنّفة في خانة المصارف الخاضعة تحت إشراف اللجان الشرعية مثل مصرف الراجحي.

في حلقته الثالثة، يضيء البريك على دور المرجعيات الدينية في الحراك الفكري، من منطلق أن العلماء مثّلوا دائماً مصدر تحصين فكري في المجتمع، في إشارة لافتة إلى قصور المجتمع عن بلوغ الرشد الفكري ما يتطلب وجود ولاية من نوع فكري للعلماء على المجتمع، وبالتالي توفير مسوّغ إضافي لوصاية فكرية على المجتمع. يلمح البريك الى شكل من أشكال العصمة الفكرية للعلماء، تجعلهم في مأمن من الوقوع في أخطاء فكرية، كما يلمح في المقابل إلى انكشاف المجتمع على التيارات الفكرية التي تجعله، حكماً، عرضة للإنحرافات الفكرية. إن مجرد وجود تجارب سابقة أو راهنة للتدليل على صحة الزعم لا تهب العلماء عصمة، ولا تؤول إلى تأثيم مبدئي للمجتمع. وفي الرؤية الإسلامية، ثمة نفي لأي سلطة من أي نوع على الإنسان البالغ العاقل، ولا وصاية مهما كان شكلها على حريته في الاختيار التي وهبها الله سبحانه وتعالى له من حيث الخلق والإعتقاد (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي). إن الرهانات العقدية المشدودة لسلطة العلماء تبطن نزعة لإحكام القبضة على مسيرة الوعي لدى المجتمع، وصولاً إلى بلوغه مرحلة الرشد الذهني التام للتحرر من أي سلطة غير سلطة النص الديني الثابت. إن تفشي نفوذ علماء الدين في كل مجالات الحياة الإجتماعية لا يؤول سوى الى تكريس الوصاية الشاملة على المجتمع بكل قواه، وحرمانه من امتلاك زمام المبادرة المستقلة التي تفضي إلى انعتاقه الفكري. ليس ذلك على سبيل تشجيع الفوضى الفكرية، ولا نفي مطلق لمجالات الاختصاص المطلوبة، ولكن الحديث عن وصاية فكرية ذات مضمون سلطوي.

يسبغ البريك مشروعية تاريخية وعقدية على السلطة الفكرية للعلماء في سياق تراث المساجلات العقدية في تاريخ المسلمين، ويصنّفها البريك في خانة (الفتن) التي تتصدّرها (فتن الفرق الضالة) وهي حسب تعريفه (التي ابتدعتْ في دين الله ما ليس منه، في العقيدة، والفقه، وأصول الشريعة عامة)، ويسوق أمثلة على ذلك: سب الصحابة، أو الغلوِّ في آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نفي الصفات، أو التكفير بالكبيرة. ويبدو واضحاً النزعة الإنتقائية في اختيار الموضوعات التي لم تمثّل موضوعات خلافية مشتركة بين عموم المسلمين، سوى أن نفي الصفات والتكفير بالكبيرة مثّلا موضوعين جدليين في مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام، ولم تقتصر على فرقة بعينها بل كانت موضوعاً تناظرياً بين المعتزلة والأشاعرة ابتداءً قبل أن تندمج في البنى العقدية للمذاهب الإسلامية كافة.

لا يتغيا البريك أفقاً مفتوحاً لدور علماء الدين في الآمة الإسلامية، بل يحصره في علماء المدرسة السلفية، الذين يمنحهم سلطة روحية وعقدية فريدة ليس على المجتمع المحلي بل وعلى الأمة بأسرها، كما يظهر ذلك في مجابهة علماء المذهب الحنبلي والمتناسلين منه مع تيارات فكرية ضالة يزعم بأنها مازالت تتمتع بقدرة على البقاء بفعل وجود أنصار لها متجدّدين في كل عصر (ولم يخلُ عصر منَ العُصُور من فرق ضالة، تحيي أصول تلك الفرق، وإن لم تدع إسمها وعنوانها والإنتساب إليها). ويضيف البريك إلى تلك الفرق من يصفهم بـ (فرقة العقلانيين)، التي تنزع نحو إعلاء سلطة العقل على النص بصورة كاملة، وهم من يعتبرهم (معتزلة العصر)، الذين باتت لهم (سطوة على المجتمع، وصوت يسمع، ومقال يقرأ، ونوادٍ ينشط فيها رؤساؤها وزعماؤها). وهذه المجادلة توضع في سياق المنافحة عن دور العلماء في الوقت الراهن و(عن دورهم في التصدِّي لهذه الفرق، والتعريف بشرِّها، وبذل الجهد في توضيح خطرها وخطر فِكْرها على الإسلام والمسلمين)، ولذلك يشجّع العلماء على المزيد (من كشف العوار، وهتك الأستار، لما انطوتْ عليه تلك الشعارات والصيحات، نريدها قومة صدع بالحق في وجْهِ العلمانية الداعية لفَصْل الإسلام عن دول المسلمين، وتهميش شريعة الله في الأرض، وكذلك الليبرالية القائمة على الحرية الشخصية المُطْلقة المتنكرة لضوابط الإسلام، ونريد منهم توعية مجتمعنا خاصَّة، وأمة الإسلام عامَّة - بِخُطورة هذه الاتجاهات، فإنها نسخ أخرى من نسخ أهل الاعتزال والضلال، قد مزجتْ بعقائدهم وفلسفاتهم نزوات أهل الأهواء، وعباد الشهوات)..

وتكشف الفقرة الأخيرة عن دعوة مفتوحة لمواجهة فكرية شرسة، لناحية احتكار مصادر التوجيه الفكري من قبل طبقة رجال الدين، ومنح العلماء سلطة مطلقة على المجال العام، والذي قد ينذر بمنازلات أيديولوجية صاخبة لا تفسح في المجال أمام مصالحة داخلية إجتماعية وفكرية راهنة أو مستقبلية.

الصفحة السابقة