الدولة القياسية!

في كل شيء تحتل المرتبة البارزة، عملاً بقول الشاعر: لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فلا تقبل بأن تكون في المرتبة الثانية أو الثالثة، فإما أن تكون الأولى أو الاخيرة، فالمنطقة الرمادية محظورة بالنسبة لهذه الدولة، ولا تراهن عليها أو تقبل بنتائجها وترتيباتها، فقد نشأت كيما تتميّز حقاً أم باطلاً. ولذلك يسوؤها أن تخرج من بين هذه الأمة زعامات تحظى بشعبية عابرة للحدود، فقد بذلت أموالاً طائلة لإسقاط رمزية جمال عبد الناصر، وبلغ بها التآمر حد تحريض الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي على شنّ الحرب عليه وإسقاطه، وفعلت ذات الشيء مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي أدرك مبكّراً غطرسة آل سعود، وكانت منيته أن يرى فيهم يوماً، ولكنه وقع في حبائل غروره فسقط بين الأرجل..

فالتميّز الذي حظيت به، بفضل الله سبحانه وتعالى، الجزيرة العربية من النفط والحرمين الشريفين تجاوزهما إلى الإحساس المتفجّر بالتميّز في كل شيء..فقد أراد أهل الحكم إحتكار الفضائل كلها..وهناك ما يلمح إلى عنصرية قارّة في اللاوعي، فكلما تحدّث أحدهم قال إبن القبيلة الفلانية أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا..وفي سرد إجملي لمنجزاته لا ترى في قسم براءات الإختراع سوى صفر مربّع..

العائلة المالكة تملك أكبر إمبراطورية إعلامية في الشرق الأوسط..وأعلى ميزانية على مستوى العرب وبعض العجم..ولديها أكبر القصور وأفخمها، وأحدث البنايات الحكومية، وأكبر الأثرياء..واللصوص أيضاً..لقد أدمنت التميّز، حتى في الكوارث..

يتحدّث القريبون من العائلة المالكة، بأنه رغم الإستنكارات المتكررة لما فعله سعوديون في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنهم لا يخفون لدوائرهم الخاصة شعورهم بالفخر بأن أبناءهم من فعلوا ذلك، حتى قال قائلهم (والله رجال).. فهناك في اللاوعي ما يشي بغرور الفرادة والتميز الذي يستبّد بأمراء العائلة المالكة..

وقد تسلّلت ثقافة التميّز الى القواعد، فانعكست على العلماء والمثقفين ورجال الإعلام والجماعات المتشدّدة المرتبطة بالدولة، أو الخارجة عنها، ولكن المسكونة بنزعة التميّز. حاز السعوديون المنخرطون في العمليات الانتحارية في العراق المرتبة الأعلى، وكذلك في حجم المشاركين في معارك نهر البارد في الشمال اللبناني..

وبالرغم من أن العالم بأسره يدرك العجز الديمقراطي في هذا البلد، إلا أن من الأمراء من يطلق دون حياء تصريحات من قبيل أن الإصلاح بدأ من عهد المؤسس عبد العزيز، وقد يأتي يوم توضع السعودية في قائمة الديمقراطيات العريقة في العالم..طالعتنا الصحف المحلية في ديسمبر 2004 حول زيارة وفد مجلس الشورى السعودي للمجلس الأوروبي في بلجيكا، ونقلت بأن الأخير أعرب عن استعداده للاستفادة من تجربة مجلس الشورى..وقد يأتي يوم تنعم فيه أوروبا بالشورى السعودية، بعد قرون من الديكتاتورية البغيضة في القارة الأوروبية!

في يوليو 2006، أعلنت دول أوروبية عن استنساخ التجربة السعودية في معالجة التطرف، وصرح السفير البريطاني في الرياض بأن بلاده تدرس نقل تجربة (لجنة المناصحة) الى السجون البريطانية.. وفي سبتمبر 2008 زار وفد سجون تركي المملكة للإستفادة من برنامج الخلوة الشرعية.. وللمرء تخيّل كيف أن التميّز في هذا البلد قادر على تحويل الإخفاقات المفزعة إلى إنجازات قابلة للتصدير للدول المتقدّمة في العالم.

لا يرى مشايعوها عقيدة أنقى من عقيدتهم على وجه الأرض، ولا عرق أصفى وأرقى من عرق أهلها..وحتى الوحدة الإسلامية نسبوها لهم وقالوا نحن أولى بها بالرغم من أن سياسة أهل الحكم لا تقوم إلا على تقسيم المجتمع، ولم تجهض مشاريع الوحدة الاسلامية إلا بفعل مؤامراتهم..وحين سيطر عبد العزيز على الحجاز، فإن أول خطوة قام بها أن عطّل تقليداً كان دارجاً في المسجد الحرام في الائتمام بأئمة متعددين في الصلوات اليومية الجماعية، وأوقف العمل بأحكام المذاهب الإسلامية في المحاكم الشرعية وفرض أحكام المذهب الحنبلي في القضاء..وقد قال قائلهم بأن طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآله هي وحدها التي تؤدي الى الجنة وما سواها في النار.

في مقابلة مع إذاعة الرياض في 2006، قال الشيخ صالح الفوزان في تعليق له على المواجهات المسلّحة بين قوات الأمن السعودية والجماعات القاعدية في الدمام في سبتمبر 2005 بأن السعودية (الدولة الوحيدة التي تحكّم شرع الله ـ عزّ وجلَّ ـ والتي تحمي الحرمين الشريفين، والتي هي مضرب المثل في التمسّك بالإسلام).

بعد سنوات من محاولات الحكومة السعودية للحيلولة دون رأب الصدع العربي، كما بدا واضحاً في مساعيها لإفشال أي تقاربات ثنائية أو ثلاثية أو رباعية فضلاً عن جماعية على الصعيد العربي، وتعبئة الغرب على مقاطعة دول عربية، بل ودفعها نحو إسقاط بعض الأنظمة مثل سوريا، التي رفضت السعودية حضور قمة عربية تنعقد فيها في مارس 2008، وصولاً إلى إعاقة انعقاد قمة عربية في قطر للخروج بموقف عربي موحّد إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة في ديسمبر ـ يناير الماضي..يضاف إليها تحرّكات دؤوبة قامت بها السعودية وألزمت دولاً أخرى الامتثال لموقفها التقسيمي.. بعد ذلك كله يأتي الآن من يتحدث، بعد زوال عهد (المحافظين الجدد) في أميركا، وسقوط مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، عن أن الملك عبد الله رائد الحكمة، والوحدة، والتآلف العربي..

لديهم معايير خاصة في كل شيء، من النادي الرياضي، مروراً بالدين والمجتمع ونظام الحكم، والوحدة الوطنية والعربية والإسلامية، ومكافحة الإرهاب، وحتى الأخطار الخارجية لديهم معيارهم الخاص بهم..فبعد أن كانت إسرائيل هي العدو، أصبحت إيران هي العدو، وقد تضاف إليها دول أخرى مثل قطر، والسودان، وليبيا..والحبل على جرار الدولة القياسية.

الصفحة السابقة